على بعد أقل من شهر على الانتخابات الرئاسية، يرتفع الاستقطاب السياسي بين الناخبين الأميركيين على وقع المشادات الحزبية وتقارب المرشحين الجمهوري دونالد ترمب، ومنافسته الديمقراطية كاملا هاريس في استطلاعات الرأي.
وأدّى هذا الانقسام السياسي إلى عودة الجدل بشأن النظام الانتخابي الأميركي، خاصة مع فوز 5 من الرؤساء الأميركيين بالمجمع الانتخابي أو الـElectoral College، وآخرهم ترمب نفسه الذي فاز بانتخابات 2016 أمام هيلاري كلينتون، دون الفوز بالصوت الشعبي (أصوات الناخبين).
ويعتمد نظام الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة على "المجمع الانتخابي"، فعندما يصوت الأميركيون في الانتخابات الرئاسية كل 4 سنوات، فإنهم لا يصوتون مباشرة للرئيس، بل لـ"المندوبين" الذين يتعهدون بالتصويت لمرشح معين. ويجتمع الناخبون من جميع الولايات لتشكيل المجمع الانتخابي واختيار الرئيس.
وبسبب الطريقة التي يتم بها تحديد عدد الناخبين أو المندوبين لكل ولاية، يصبح الصوت الفردي في ولاية قليلة السكان أكثر أهمية من أصوات ولاية مكتظة بالسكان، ما يجعل الفوز في المجمع الانتخابي مع خسارة التصويت الشعبي ممكناً.
الأقل سكاناً.. أكثر تأثيراً
يحتاج المرشح للفوز في الانتخابات إلى الحصول على 270 صوتاً بالمجمع الانتخابي من أصل 538. ويتم تخصيص الأصوات الانتخابية لكل ولاية بناءً على عدد ممثليها في مجلس النواب، إضافة إلى عضويتها في مجلس الشيوخ.
ويجري توزيع عدد المندوبين بناءً على تعداد السكان في كل ولاية، وبحد أدنى ثلاثة أصوات لأصغر الولايات، في حين تحتفظ كاليفورنيا، أكثر الولايات سكاناً، بأكبر عدد من الأصوات الانتخابية 54 صوتاً انتخابياً في 2024.
ومكّن الحد الأدنى الولايات ذات الكثافة السكانية القليلة من الحصول على تمثيل أكبر نسبياً في المجمع الانتخابي، على سبيل المثال، ولاية وايومنج، في غرب الولايات المتحدة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 570 ألف نسمة لديها ممثل واحد في مجلس النواب، في حين أن كاليفورنيا، أكثر الولايات سكاناً، لديها 54 ممثلاً ما يجعل كل منهم ممثلاً عن أكثر من 700 ألف نسمة.
ونظراً لأن مندوبي الولايات يمنحون أصواتهم للمرشح الفائز في التصويت الشعبي على مستوى الولاية، فمن الممكن أن يفوز مرشح بعدد أكبر من الأصوات الانتخابية رغم خسارته التصويت الشعبي. إذا فاز مرشح بفارق كبير في عدد قليل من الولايات ذات الكثافة السكانية العالية، قد يفوز في التصويت الشعبي.
ومع ذلك، إذا فاز منافسه في عدة ولايات صغيرة بفارق ضئيل، يمكنه في النهاية الفوز بالهيئة الانتخابية، وهو ما حدث في انتخابات عام 2016.
من يحمي نظام المجمع الانتخابي؟
في انتخابات 2020، راودت المرشحين الديمقراطيين للرئاسة فكرة تغيير أو إلغاء المجمع الانتخابي. ظهرت تلك الفكرة في حملات السيناتورة إليزابيث وارن، والسيناتورة كيرستن جيليبراند، وعمدة ساوث بيند في ولاية إنديانا بيت بوتجيج وغيرهم.
ودعّم الفكرة استطلاع رأي أجرته مؤسسة جالوب، حينها، ووجد أن ثلاثة من كل خمسة أميركيين يفضلون تعديل دستور الولايات المتحدة لاستبدال الهيئة الانتخابية بنظام التصويت الشعبي.
لكن هذه النتائج لا تعد مفاجأة كبيرة، فالاعتراض على الهيئة الانتخابية واستبدالها فكرة قديمة، تم وضعها على الطاولة أكثر من مرة، حتى أن المرشحين الديمقراطيين السابقين آل جور وهيلاري كلينتون، دعوا إلى التخلص من المجمع الانتخابي بعد فوزهم في التصويت الشعبي وخسارتهم الهيئة الانتخابية.
وأيدت نتائج مؤسسة جالوب نفسها تلك الدعوة، في تتبعها لآراء الناخبين على مدى عقدين من الزمن حول تفكيك الهيئة الانتخابية، إذ وجدت في عام 1968 أن 80% من الأميركيين، الجمهوريين والديمقراطيين والمستقلين على حد سواء، يعتقدون أن الوقت قد حان للتخلص من المجمع الانتخابي وانتخاب أعلى منصب في البلاد عن طريق التصويت الشعبي المباشر.
وبعد عام واحد فقط من الاستطلاع، صوّت مجلس النواب الأميركي بأغلبية ساحقة، عام 1969، على إرسال تعديل دستوري إلى مجلس الشيوخ كان من شأنه أن يفكك الهيئة الانتخابية، لكن تم عرقلته في مجلس الشيوخ.
رغم وأد التعديل في مجلس الشيوخ، لم يمنع ذلك جالوب من الاستمرار في تتبع رغبة الناخبين. ومن بين المرات السبع التي طُرح فيها هذا السؤال على مدار العقدين الماضيين، لم ينخفض دعم تعديل الدستور لإلغاء الهيئة الانتخابية عن مستوى الأغلبية إلا مرة واحدة فقط. في انتخابات 2016 بعد فوز ترمب بالتصويت الانتخابي وهيلاري كلينتون بالتصويت الشعبي.
وتظهر نتائج الاستطلاعات أن الناخب المستقل لا يفضل الهيئة الانتخابية على اعتبار أن صوته "غير مهم"، بينما الناخب الحزبي يؤيد أو يرفض وفقاً لموقف مرشحه.
على مدار العشرين عاماً الماضية، كان الجمهوريون أقل دعماً لإلغاء نظام المجمع الانتخابي، مقارنة بالديمقراطيين والمستقلين، بعد أن كانوا من أشد المؤيدين له في السابق. وازداد التباعد بين الجمهوريين والديمقراطيين بشكل ملحوظ بعد انتخابات 2016، بعد فوز ترمب على كلينتون، كان احتمال تفضيل الديمقراطيين للاعتماد على التصويت الشعبي في اختيار الرئيس أكبر بأربع مرات من الجمهوريين.
لم يكن انتصار ترمب، فقط، هو الحافز للجمهوريين للإبقاء على المجمع الانتخابي، فهناك نظرية سياسية أخرى تبين تمسك الجمهوريين بالهيئة الانتخابية، ودعوة مرشحي الرئاسة الديمقراطيين عام 2020 التخلص منها.
في القرن الحادي والعشرين، انقسمت الأحزاب السياسية بشكل متزايد على أسس حضرية وريفية، حيث أصبح الجمهوريون يمثلون بشكل أساسي المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة "الريفية"، بينما يمثل الديمقراطيون يمثلون المناطق "الحضرية" ذات الكثافة السكانية العالية. وفي ظل التمثيل غير المتكافئ للتكتلات السكانية في الهيئة الانتخابية، حصل الجمهوريون على ميزة منحتهم إمكانية الوصول إلى البيت الأبيض بأصوات الهيئة الانتخابية دون الحصول على أغلبية الأصوات الشعبية، كما حدث في 2016.
خاسر رغم فوزه بالهيئة والتصويت
وفي عام 1824، تنافس 4 مرشحين على الرئاسة، أندرو جاكسون، وجون كوينسي آدامز، وويليام كروفورد، وهنري كلاي. كانوا جميعاً أعضاء في حزب سياسي واحد، وهو الحزب الجمهوري الديمقراطي الذي تأسس عام 1792 على يد توماس جيفرسون، قبل أن يتحول اسمه فيما بعد إلى الحزب الديمقراطي.
خسر أندرو جاكسون الرئاسة، رغم فوزه بالتصويت الشعبي وحصوله على أكبر عدد من الأصوات في المجمع الانتخابي. كان السبب في ذلك هو عدم حصول أي من المرشحين الأربعة على الأغلبية المطلوبة من أصوات المجمع الانتخابي، أي أكثر من نصف الأصوات، وكان جاكسون يحتاج 32 صوتاً إضافياً للوصول إلى النصاب.
تم تحويل القرار إلى مجلس النواب، حيث يصوت أعضاء الكونجرس على المرشحين الثلاثة الذين حصلوا على أكبر عدد من أصوات المجمع الانتخابي، ولم يفز جاكسون، لأن المرشح الرابع هنري كلاي، الذي كان رئيساً لمجلس النواب في ذلك الوقت، عقد صفقة مع جون كوينسي آدامز، أُطلق عليها "الصفقة الفاسدة"، حيث دعمه ونتيجة لذلك، فاز آدامز بأغلبية أصوات مجلس النواب وأصبح الرئيس، وقام آدمز بتعيين كلاي وزيراً للخارجية في إدارته.
فائز رغم خسارته الهيئة والتصويت
يُطلق على انتخابات عام 1876 بأنها الأكثر جدلاً في التاريخ الأميركي، بفوز الجمهوري حاكم ولاية أوهايو رذرفورد هايز بالرئاسة، رغم خسارته التصويت الشعبي في المجمع الانتخابي، بسبب اتفاق سياسي معروف بـ "تسوية 1877".
حصل هايز على 165 صوتاً انتخابياً، بينما حصل منافسه الديمقراطي من نيويورك، صامويل تيلدن، على 184 صوتاً انتخابياً، بفارق صوت واحد من العدد المطلوب للفوز.
تم الطعن على نتائج الانتخابات في عدد من الولايات الجنوبية، نظراً للاتهامات بالتزوير وقمع الناخبين السود هناك بعد الحرب الأهلية. ونتيجة لذلك، تم تشكيل لجنة خاصة من 15 عضواً من الكونجرس، وتم التوصل إلى تسوية نصّت على أن يتخلى الديمقراطيون عن الاعتراضات، ويسمحوا لهايز بتولي الرئاسة مقابل وعد الجمهوريين بسحب القوات الفيدرالية من الجنوب، مما أنهى فترة إعادة الإعمار.
في النهاية، تم تحديد النتيجة بفوز هايز بعد حصوله على 185 صوتاً انتخابياً مقابل 184 لتيلدن، رغم أن تيلدن تفوق عليه في التصويت الشعبي بفارق 254 ألف صوت.
حالة بنجامين هاريسون الفريدة
هزم الجمهوري بنجامين هاريسون، في عام 1888، منافسه الديمقراطي الرئيس، آنذاك، جروفر كليفلاند، وانتُخب رئيساً رغم خسارته التصويت الشعبي.
في تلك الانتخابات تفوق كليفلاند على هاريسون في التصويت الشعبي بحوالي 91 ألف صوت، لكنه خسر في المجمع الانتخابي لصالح هاريسون الذي فاز بـ 233 صوتاً مقابل 168 فقط.
وبعد 4 سنوات، عاد كليفلاند وفاز على هاريسون، ليصبح الرئيس الأميركي الأول والوحيد الذي يقضي فترتين غير متتاليتين في منصبه.
فائز بحكم محكمة.. جورج بوش "الابن"
في عام 2000، تنافس الديمقراطي آل جور نائب الرئيس بيل كلينتون، مع الجمهوري حاكم ولاية تكساس جورج دبليو بوش "الابن"، وفاز الأخير بـ271 صوتاً في المجمع الانتخابي مقابل 266 صوتاً، لآل جور، الذي تفوق في التصويت الشعبي بفارق 500 ألف صوت.
كانت الانتخابات الرئاسية في ذلك العام متقاربة للغاية، حتى أن الفائز لم يُعلن إلا بعد أيام عديدة، خاصة أن ولاية فلوريدا قامت بإعادة فرز الأصوات. وفي النهاية، صوتت المحكمة العليا الأميركية بأغلبية خمسة أصوات مقابل أربعة لإلغاء قرار محكمة فلوريدا ووقف إعادة فرز الأصوات. وفاز بوش في المجمع الانتخابي رغم خسارته التصويت الشعبي.
عكس الاستطلاعات والأصوات.. ترمب
في عام 2016، فاز الجمهوري دونالد ترمب بالرئاسة مخالفاً كل التوقعات السياسية واستطلاعات الرأي التي رجحت فوز منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون زوجة الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
حصل ترمب على 304 أصوات في المجمع الانتخابي مقابل 227 صوتاً لكلينتون. لكنه خسر التصويت الشعبي بفارق كبير وصل إلى 2.8 مليون صوت لصالح كلينتون.
كانت كلينتون قد حققت أداءً جيداً للغاية في المدن الكبرى والولايات ذات الكثافة السكانية العالية مثل كاليفورنيا، في حين حقق ترمب انتصارات ضيقة في ولايات حاسمة مثل ويسكونسن وميشيجان وبنسلفانيا، وهو ما يدعم النظرية التي تقول إنه إذا فاز مرشح بفارق كبير في عدد قليل من الولايات ذات الكثافة السكانية العالية، قد يفوز في التصويت الشعبي، ومع ذلك، إذا فاز منافسه في عدة ولايات صغيرة بفارق ضئيل، يمكنه في النهاية الفوز بالهيئة الانتخابية والفوز بالرئاسة.