يشن الجيش الإسرائيلي عملية واسعة النطاق في شمال غزة، ويصدر أوامر إخلاء جديدة، ويمنع إمدادات الغذاء، بعد أسابيع فقط من إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنه يدرس خطة لمحاصرة المنطقة لـ"تجويع قيادات (حماس) وإجبارهم على إطلاق سراح الرهائن والاستسلام"، فيما نفى الجيش الإسرائيلي ذلك.
وبات تجويع الفلسطينيين في قطاع غزة، سلاحاً إسرائيلياً، دأبت تل أبيب على استخدامه منذ اندلاع حربها على القطاع في أكتوبر 2023، ما دفع الولايات المتحدة، أكبر حلفاء إسرائيل، إلى إمهال حكومة نتنياهو، شهراً، لتحسين الوضع الإنساني في شمال القطاع، بالتزامن مع دعوات دولية وأممية لزيادة المساعدات التي شهدت تراجعاً حاداً على فترات متباينة منذ اندلاع الحرب.
وتدعو خطة إسرائيلية أُطلق عليها "خطة الجنرالات"، والتي وضعها مستشار الأمن القومي السابق، جيورا إيلاند، إسرائيل إلى إصدار أوامر للمدنيين بمغادرة شمال غزة إلى مناطق أخرى من القطاع، ثم إعلان الشمال منطقة عسكرية مغلقة، على أن يتم اعتبار أولئك الذين لم يغادروا أهدافاً عسكرية، وبالتالي قطع إمدادات الغذاء والماء والأدوية تماماً.
وقال إيلاند إن الخطة، التي قدمها للجنة الدفاع في الكنيست (البرلمان) الشهر الماضي، تهدف إلى زيادة الضغوط على "حماس" لإطلاق سراح 101 رهينة إسرائيلي لا تزال الجماعة الفلسطينية تحتجزهم في غزة. لكن جماعات حقوق الإنسان تقول إن هذه الخطة ستوقع المدنيين في مجاعة غير مسبوقة، وإن تنفيذ الخطة من شأنه أن ينتهك القانون الدولي.
وتقول جماعات حقوقية، إن الخطة من المرجح أن تؤدي إلى تجويع المدنيين، مشددة على أنها تتعارض مع القانون الدولي، الذي يحظر استخدام الغذاء كسلاح ونقله بالقوة. وتشكل الاتهامات الموجهة إلى إسرائيل بتقييد وصول الغذاء إلى غزة عمداً، محوراً لقضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضدها في محكمة العدل الدولية، وهي الاتهامات التي تنفيها إسرائيل.
وقالت أربعة مصادر لشبكة CNN الأميركية، إن مجلس الوزراء الإسرائيلي لم يعتمد اقتراح الحصار الذي طرحه الجنرال إيلاند. لكن العملية الجارية حالياً تشبه الخطة التي قدمها إيلاند في جلسة خاصة لمجلس الوزراء الإسرائيلي.
واعتبر نتنياهو، خلال اجتماع بلجنة مغلقة في الكنيست الشهر الماضي، أن خطة الجنرالات "منطقية للغاية"، وفقاً لهيئة البث الإسرائيلية "كان". وقال إنها واحدة من عدة أفكار قيد النظر لتغيير مسار الحرب على غزة، التي دخلت الآن عامها الثاني.
ماذا يحدث في شمال غزة؟
قال موقع "أكسيوس" الأميركي، إن الخطوات الإسرائيلية الأخيرة في شمال غزة، أثارت مخاوف جدية داخل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والأمم المتحدة من أن تل أبيب تنفذ الخطة التي اقترحها مجموعة من جنرالات الجيش الإسرائيلي المتقاعدين، والتي لاقت تأييد واسع داخل مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي.
وتدعو الخطة إلى فرض حصار تام على شمال قطاع غزة، والسماح للمدنيين المتبقين هناك البالغ عددهم 400 ألف بالمغادرة، ثم تجويع مقاتلي حركة "حماس" المتبقين في المنطقة، حتى يستسلموا.
وكانت إسرائيل أغلقت المعابر الرئيسية إلى شمال غزة في الأسبوع الأول من أكتوبر الجاري مع تجدد هجومها العسكري هناك، ولم تسمح بدخول أي مواد غذائية أو إمدادات أخرى إلى المنطقة منذ ذلك الحين.
وحتى الآن، لم يلتزم سوى عدد قليل جداً من الفلسطينيين بأوامر الإخلاء الأخيرة. بعضهم من كبار السن أو المرضى، أو يخافون مغادرة منازلهم، لكن كثيرين يخشون عدم وجود مكان آمن للذهاب إليه، وأنهم لن يُسمح لهم بالعودة أبداً. وكانت إسرائيل منعت أولئك الذين فروا في وقت سابق من الحرب من العودة.
وقال برنامج الأغذية العالمي، في بيان، الأسبوع الماضي: "المنطقة بأكملها تقريباً تحت أوامر الإخلاء، وأُجبرت آلاف العائلات على الفرار وسط غارات جوية مكثفة وعمليات عسكرية على الأرض".
وأضاف أنه "مع إغلاق المعابر الرئيسية للمساعدات إلى شمال غزة وإجبار مطابخ شركاء برنامج الأغذية العالمي على الإغلاق، لم يعد البرنامج الأممي قادراً على توزيع الغذاء بأي شكل من الأشكال على الأسر التي تحتاج إليه بشدة".
ونقل "أكسيوس" عن منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مهند هادي، قوله في بيان، الأحد الماضي، إن الضغوط باتت تتزايد على الفلسطينيين الذين ما زالوا في شمال غزة لمغادرة المنطقة نحو الجنوب، مضيفاً أن "الحصار العسكري الذي يحرم المدنيين من وسائل البقاء الأساسية أمر غير مقبول، إذ يجب ألا يتم إجبار المدنيين على الاختيار بين النزوح أو الجوع".
وزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون"، قالت إن الوزير لويد أوستن أعرب لنظيره الإسرائيلي، يوآف جالانت، في مكالمة هاتفية، عن قلقه بشأن الوضع الإنساني المزري في شمال غزة، وأكد ضرورة اتخاذ خطوات عاجلة لمعالجته.
وأكد مسؤولون إسرائيليون أن جالانت أوضح لأوستن أن إسرائيل لا تنفذ "خطة الجنرالات"، ولا تفرض حصاراً على شمال غزة. وأضاف المسؤولون، أن "جالانت كرر هذه الرسالة في مكالمة أخرى مع السفير الأميركي لدى تل أبيب جاك ليو، الاثنين الماضي.
ماذا يقول سكان شمال غزة؟
الفلسطينيون في شمال غزة، يؤكدون أن هذا الأسبوع شهد بعضاً من أكثر العمليات العسكرية كثافة في الحرب. وقال محمد إبراهيم، أحد سكان جباليا، لشبكة CNN عبر الهاتف: "أي شخص يريد مغادرة الشمال إلى غزة يريد الموت".
وأضاف إبراهيم: "حتى الضروريات الأساسية للحياة للشعب المحاصر غير متوفرة"، مضيفاً "لا توجد مياه شرب آمنة، ولا طعام مناسب أو صحي، ولا أدوية، ولا علاج، ولا مستشفيات. إنهم يعملون بأدنى قدرتهم وهم منهكون. حتى الأماكن الآمنة يتم قصفها بالقذائف والصواريخ".
وقالت جمانة الخليلي، وهي عاملة إغاثة فلسطينية تبلغ من العمر 26 عاماً، تعمل لصالح منظمة أوكسفام، وتعيش في مدينة غزة مع عائلتها، إن جميع سكان غزة خائفون من الخطة، وفق "بوليتيكو".
وتابعت: "ومع ذلك، فإنهم لن يفروا. ولن يرتكبوا نفس الخطأ مرة أخرى.. نحن نعلم أن المكان هناك ليس آمناً"، في إشارة إلى جنوب غزة، حيث يتجمع معظم السكان في مخيمات خيام بائسة، وتضرب الغارات الجوية الملاجئ في كثير من الأحيان. "لهذا السبب يقول الناس في الشمال إنه من الأفضل أن يموتوا من أن يغادروا".
وقال حسام أبو سيفية، مدير مستشفى كمال عدوان في شمال غزة للمجلة الأميركية، إن القوات الإسرائيلية أبلغته بأن الطاقم الطبي والمرضى يجب أن يخلوا المستشفى "في غضون 24 ساعة".
وأضاف أنهم لم يُبلغوا إلى أين يذهبون. كما أُمر مستشفى العودة والمستشفى الإندونيسي بالمغادرة، وفقاً لمسؤولين محليين. ويقول مسؤولو المستشفى، إن القصف الإسرائيلي المكثف للمنطقة يجعل من المستحيل المغادرة بأمان.
وبحسب الأمم المتحدة، فقد تم تهجير ما لا يقل عن 50 ألف فلسطيني من شمال غزة خلال الأسبوعين الماضيين.
وكان الشمال، بما في ذلك مدينة غزة، الهدف الأولي للهجوم البري الإسرائيلي في وقت مبكر من الحرب، عندما أمرت إسرائيل الجميع هناك بالمغادرة. وتحولت أحياء بأكملها إلى أنقاض منذ ذلك الحين.
ماذا تقول المنظمات الإسرائيلية؟
وقالت أربع منظمات إسرائيلية لحقوق الإنسان؛ وهي جيشا، وبتسيلم، وأطباء لحقوق الإنسان، ويش دين، إن هناك "علامات مثيرة للقلق" على أن إسرائيل بدأت "بهدوء" في تنفيذ "خطة الجنرالات"، ودعت المجتمع الدولي إلى وقفها، وفق "فاينانشيال تايمز".
وذكرت أن العديد من المدنيين لن يتمكنوا من مغادرة الشمال، وحتى لو فعلوا ذلك، فلن يكون هناك مكان آمن للذهاب إليه في غزة.
وقالت تانيا هاري، المديرة التنفيذية لمنظمة جيشا، إن معاملة أولئك الذين بقوا في الشمال كمقاتلين لمجرد وجودهم هناك، وإصدار أوامر إخلاء مفتوحة، كانا انتهاكين واضحين للقانون الدولي.
وتابعت: "الأشخاص الذين لا يستطيعون الذهاب، وأي شخص يختار البقاء، لا يفقدون وضعهم كأشخاص غير مقاتلين. إنهم يظلون مدنيين. ولا تزال إسرائيل ملزمة بحمايتهم واتباع قواعد القانون الإنساني الدولي".
كما حدث انخفاض حاد في عمليات تسليم المساعدات. ووفقاً لأرقام إسرائيل ذاتها، فإن متوسط كمية المساعدات التي وصلت إلى القطاع بأكمله كل يوم حتى الآن خلال أكتوبر الجاري، أقل من ربع الكمية التي تم تسليمها يومياً في سبتمبر.
وقال فيليب لازاريني، رئيس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، إن الأمم المتحدة "لم يُسمح لها بتقديم أي مساعدة بما في ذلك الغذاء" إلى شمال غزة منذ 30 سبتمبر.
استجابة محدودة
وأعلن الجيش الإسرائيلي، نقل 30 شاحنة تحمل الدقيق والمواد الغذائية الأخرى من برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، الاثنين، من ميناء أسدود إلى شمال قطاع غزة عبر معبر "إيريز ويست" (بيت حانون).
وكانت هذه أول شحنة مساعدات يتم توصيلها إلى شمال غزة منذ الأسبوع الأول من أكتوبر، حسبما أفاد مسؤول إسرائيلي.
وقال جالانت للسفير الأميركي، في مكالمة هاتفية، إن الجيش الإسرائيلي لا يزال يقاتل جيوب المقاومة التابعة لحركة "حماس" في شمال غزة. وأرجع وزير الدفاع الإسرائيلي توقف تسليم المساعدات من خلال القطاع الخاص في غزة إلى وجود علاقات بين التجار المحليين و"حماس"، وفقاً لما أفاد به مسؤولون إسرائيليون لموقع "أكسيوس".
ومع دخول الحرب الإسرائيلية على القطاع، عامها الثاني، تتزايد درجة سوء الأوضاع الإنسانية بشكل متنامي وسط تصعيد عسكري إسرائيلي يتجه إلى القضاء على كافة أشكال الحياة في قطاع غزة الذي يؤوي نحو 2.3 مليون نسمة، عانوا لسنوات من حصار إسرائيلي خانق، قبل اندلاع تلك الحرب.