استدعى قائد قوات الدعم السريع في السودان محمد حمدان دقلو "حميدتي"، الثلاثاء، وفده المفاوض للعودة إلى السودان فوراً، في إشارة جديدة على عزوفه عن التفاوض واتجاهه لتصعيد القتال في الوقت الحالي، بحسب ما ذكر مصدر مطلع في هذه القوات.
يأتي ذلك في الوقت الذي اتسعت فيه رقعة المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بعد هدوء حذر في معظم أنحاء السودان، فيما يواصل الجيش السوداني هجومه لاستعادة السيطرة على أجزاء جديدة من العاصمة الخرطوم، بعد عدة انتصارات قبل أشهر.
وأثار خطاب دقلو، الأربعاء الماضي، الكثير من الجدل، خاصة وأنه جاء عقب تقدم الجيش في منطقة جبل موية غربي ولاية سنار (جنوب شرق)، وبسط سيطرته عليها في أعقاب أسابيع فقط على انفتاح هجومي للقوات المسلحة في غالب محاور العاصمة السودانية، بمدنها الثلاث، الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، علاوة على معارك أخرى في شمال وغرب دارفور.
وبعد إقراره بالتراجع في "جبل موية" غربي ولاية سنّار، دعا حميدتي جميع منسوبي قواته إلى الالتحاق بوحداتهم فوراً، مشيراً إلى عزمه على القتال، حتى لو استغرق الأمر ثلاث أو أربع سنوات.
ويرى البعض أن "خطاب دقلو ومفرداته تشير إلى تصعيد عسكري كبير وانفتاح لقواته في محاور جديدة"، لا سيما في شمال البلاد، فيما اعتبره آخرون مؤشراً على هزائم كبيرة لحقت به واضطرته للإقرار بنقص في "المقاتلين والعتاد العسكري".
وردّ حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، على حديث حميدتي بقوله إن الأوان قد حان لـ"يحرق كل الالتزامات الخارجية، وإنقاذ ما تبقى من السودان" في تلميح إلى أن قوات الدعم السريع تعمل لأجندة خارجية، فيما دعاه معتصم أحمد صالح، الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة إلى إعلان وقف الحرب.
في المقابل، اعتبر نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني والقيادي في تنسيقية القوى الديمقراطية "تقدّم"، خالد عمر يوسف، الخطاب "إعلاناً رسمياً لطبيعة المرحلة القادمة من الحرب". وحذّر من "حرب الكل ضد الكل داخلياً وخارجياً"، مضيفاً أن "حميدتي خاطب الشعب السوداني ليخبره بأن الحرب ستطول وتتمدد، وأن القادم أسوأ".
واعتبر وزير الإعلام السوداني السابق، فيصل محمد صالح، في مقال نشرته صحيفة "الشرق الأوسط"، أن الخطاب الأخير لقائد قوات الدعم السريع "واحد من أخطر الخطابات منذ بداية الحرب"، بغض النظر عن التقييمات المختلفة لموقفه على الأرض، على حد قوله.
وأشار صالح إلى أن حميدتي انطلق لمرحلة جديدة في إعلان المواقف، بتبنيه "خطاباً قبلياً وجهوياً غير معهود، أو كان يتجنبه من قبل، ثم وجّه بعض الاتهامات لأفراد بالاسم من الحركة الإسلامية والقيادة العسكرية، وعبر عن غضب شديد قد ينعكس في مغامرات عسكرية خلال الأيام المقبلة".
وأضاف: "من المؤكد أنه ليس خطاب استسلام وإعلان الهزيمة"، مشيراً إلى أن السودان أمام "مرحلة جديدة سيصاحبها تصعيد عسكري من الجانبين".
"هجوم" في محاور عدة
وكان لافتاً في الأسابيع الماضية اتساع "قوس" المواجهات، بعد هدوء حذر في معظم أنحاء السودان، ما عدا جبهة الفاشر في شمال دارفور، التي ظلت مشتعلة، في ظل قتال عنيف بين قوات الدعم السريع من جهة، والجيش والقوة المشتركة لحركات الكفاح المسلّح من جهة ثانية، غير أن هذا الحلف العسكري الأخير، بادر بالهجوم في نقاط أخرى في شمال وغرب دارفور، وفي مصفاة الجيلي في تخوم ولاية نهر النيل شمالاً.
كما باغت قوات الدعم السريع بهجوم واسع في العاصمة الخرطوم، ليستعيد السيطرة على أجزاء من الخرطوم بحري والخرطوم، بعد انتصارات حققها قبل أشهر في محور أم درمان.
وسرعان ما تحولت الأنظار إلى محور جبل موية غربي ولاية سنار، في الجنوب الشرقي من السودان، وهو الموقع الذي استرده الجيش، ليتمكن من وضع قواته في وضع أفضل، مستعيداً السيطرة على مفترق طرق رابط بين هذه الولاية وولاية النيل الأبيض غرباً، ليسيطر أخيراً على منطقة "جريوة" في ولاية النيل الأزرق في أقصى الجنوب الشرقي من البلاد، وهي تطورات متسارعة جعلت "القوس القتالي" يتسع من أقصى غرب وشمال غرب البلاد، إلى تخوم الشمال، مروراً بوسطها متمثلاً في الخرطوم، وأخيراً إلى الجنوب الشرقي.
وقال مساعد القائد العام للجيش السوداني، الفريق إبراهيم جابر، في مقابلة مع وكالة "المحقق" الإخبارية، إن "ردع الميليشيا سيكون أقوى مما تتصور"، متوعداً بأن القوات المسلحة ستستعيد قريباً "مناطق ليست في المخيلة".
وقلل جابر من شأن دعوة حميدتي لـ"حشد مليون مقاتل" في صفوف الدعم السريع، بقوله "إنها دعاية ساذجة، حيث لا يوجد حتى ألف شخص يحترمون التمرد"، لافتاً إلى تغيير في محاور داخلية وخارجية "سيزلزل أركان المتمردين".
تحييد "القوة الصلبة"
من جانبه، أوضح الخبير العسكري والاستراتيجي، أسامة عثمان مساعد لـ"الشرق"، أن الجيش ومنذ البداية عمل على المحافظة على مواقعه لامتصاص الصدمة، وجرّ القوات المهاجمة إلى أرض القتال، مستهدفاً تدمير "القوة الصلبة" لقوات الدعم السريع، مشيراً إلى أنها "خسرت أكثر من 80% من هذه القوة"، ما اضطرها للاستعانة بمن وصفهم "بسجناء سابقين ومرتزقة من دول الجوار".
ولفت مساعد إلى أن قوات الدعم السريع، "هاجمت القيادة العامة، مثلاً، بنحو 623 سيارة مقاتلة و23 ألف مقاتل، لكن الهجوم باء بالفشل في أول أيام الحرب".
وأشار إلى أن الجيش يمتلك "ميّزات تفضيلية" متمثلة في الطيران الحربي والمدفعية بعيدة المدى والمدرعات والدبابات، علاوة على مشاة مدربين، دفع بهم مؤخراً باتجاه الجبهات كافة من أجل السيطرة على المواقع المختلفة بطريقة متأنية ومدروسة، بعد أن تمكن الطيران الحربي والمدفعية من "تفتيت" قوة الدعم.
وأوضح مساعد أن "تكتيكات الجيش قامت على تقليل ميّزات الدعم السريع المتمثلة بسرعة وخفة الحركة، لكنه لفت إلى أن القوات المسلحة السودانية تضع بالحسبان الاحتمالات كافة والمفاجآت وعمليات الالتفاف والمناورة من قبل الدعم السريع".
ولفت الخبير العسكري إلى أن "الجيش يخوض لأول مرة في تاريخه حرب مدن، ويتحاشى التقدم سريعاً في الخرطوم، خشية على حياة المدنيين والبنية التحتية، وتلافياً لخسائر قد يحدثها قناصة الدعم السريع المتواجدون في البنايات العالية، وسط المدينة".
"انسحاب مؤقت"
في المقابل، قال عضو المكتب الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع، عمران عبدالله، في حديث لـ"الشرق"، إن "القوة الصلبة لقواته موجودة"، لافتاً إلى أن "القوس المشتعل بالقتال حالياً عرف تقدماً لقواته".
وأضاف أن المناطق التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع شهدت "استقراراً وأمناً" يسعى من وصفهم بـ"الإسلاميين" حالياً لنسفه بإذكاء "الفتن القبلية"، مؤكداً أن الوحدات التي كانت تسيطر على محور "جبل موية" غربي سنار، انسحبت مؤقتاً لمشاركة "الطيران الحربي المصري" على حد قوله، في "شن غارات جوية في منطقة مكشوفة، آثرت في ضوئها قوات الدعم السريع سحب قواتها".
وقال عبدالله، إن "محور المقرن وسط الخرطوم شهد بدوره خسائر كبيرة في صفوف الإسلاميين"، في إشارة لـ"لواء البراء بن مالك"، الذي يقاتل إلى جانب الجيش.
وأوضح أن الدعم السريع "ما زال محافظاً على وجوده في الخرطوم، ومتقدماً في بقية المحاور كلها بكثافة"، لافتاً إلى أن "مئات آلاف الجنود قطعوا إجازاتهم، والتحقوا بوحداتهم العسكرية بعد النداء الذي وجهه حميدتي".
وأضاف عبدالله أن "الجيش المختطف بواسطة الإسلاميين"، على حد وصفه، "جند شباباً ينحدرون من دارفور وزج بهم في المعارك هناك، والهدف هو الظفر بمناطق الوسط في السودان فحسب"، في إشارة إلى ولايات الجزيرة، نهر النيل، الشمالية، وسنار.
وأشار إلى أن "دارفور لا تهم الإسلاميين في شيء"، مضيفاً أنهم "يرغبون في العودة للسلطة بأي ثمن، ولم يكن أمامهم سبيل سوى إشعال الحرب رغبة في هدفهم هذا؛ لأن السلام والاتفاق لن يحملانهما إلى السلطة، ولهذا استعدوا منذ 2019 لهذا الغرض، وقاموا بتدريب عناصرهم خارج السودان. والجيش لا هدف له من هذه الحرب ولا خطط".
واتهم عبدالله، الحركات المسلحة التي تقاتل إلى جانب الجيش، بأنها "تتاجر بالأزمات"، مشيراً إلى أنه "سبق لبعض قادتها المشاركة في سلطة نظام (الرئيس السوداني المعزول عمر) البشير، ثم الخروج عليها وسبق لها، أن قاتلت في ليبيا طلباً للأموال" على حد تعبيره.
وقال عبد الله، إن قواته "انحازت للثورة، ورفضت إخمادها، بل وتصدت لكتائب الإسلاميين حين أراد البشير، وأد الانتفاضة الشعبية ضدّه، وهذا ما قاد الإسلاميين لمحاولة شيطنة" الدعم السريع، لاحقاً".
"مفاجآت واردة"
من جهته، اعتبر الكاتب والباحث السياسي، عمار صديق سعيد، أن قوات الدعم السريع "بحوزتها أوراق وهي قادرة على إحداث مفاجأة"، مشيراً في حديثه لـ"الشرق"، إلى أن "الجيش يستميت في الهجوم في الخرطوم ومحاور أخرى، غير أنه لم يحقق تقدماً يذكر سوى بأمتار قليلة"، على حد قوله.
وأضاف سعيد، أن "الدعم السريع تصدّت لتحركات الجيش في قرّي والحلفايا في شمال الخرطوم، كما ألحقت بها خسائر كبيرة، وتتقدم في ولاية غرب كردفان ومحاور أخرى"، نافياً أن تكون هذه القوات "تعاني أي نقص في القوة الصلبة، ولا المقاتلين أو الأسلحة والذخائر".
وقال إن "الجيش عمد إلى دفع القوات المشتركة لحركات الكفاح المسلّح للتحرك في دارفور بغية تشتيت انتباه الدعم السريع، وجّره لسحب بعض قواته من وسط السودان، بما في ذلك الخرطوم، وتوجيهها إلى دارفور، غير أن الدعم السريع تحتفظ منذ البداية بوحدات كافية في كل الجبهات".
وأشار سعيد إلى أن "الدعم السريع بعد عام ونصف من الحرب، أنشأت تحصينات جيدة وكمائن عدة في الخرطوم"، كما أنها تستخدم "تكتيكات عسكرية متعددة في هذه المعركة تعيق تقدم الجيش".
معركة الخرطوم
من جانبه، وصف المحلل السياسي، محمد حامد جمعة، معركة الخرطوم الحالية بأنها "أمّ المعارك". وقال في حديث لـ"الشرق"، إن "الجيش انفتح على محاور عدة من أم درمان في غرب النيل باتجاه الخرطوم، والخرطوم بحري في شرقه، مستهدفاً الوصول إلى قيادة الجيش عبر شارع النيل أو شارعي الجامعة والجمهورية، مروراً بالقصر الرئاسي والسوق العربي، وسط العاصمة، وفي محور الخرطوم بحري".
وأضاف جمعة، أن "القوات تهدف إلى الالتحام بوحدات أخرى، وهذا ما تحقق بالفعل، بهدف العبور إلى وسط الخرطوم".
واعتبر جمعة، أن "هذه التطورات كلها تعكس تحولاً في سير العمليات بالنسبة للجيش حتى في محاور ولاية سنّار وولايات دارفور التي انتقل فيها الجيش من محور مدينة الفاشر إلى محاولة الالتفاف على قوات الدعم السريع في جبهات أخرى في شمال وغرب دارفور"، متوقعاً أن ينفتح الجيش في ولاية الجزيرة في وسط البلاد أيضاً.
وقال جمعة إن قوات الدعم السريع "باتت عاجزة عن شن هجمات جديدة"، مشيراً إلى تراجع عملياتها حتى في الفاشر.
ورجح أن المحصلة النهائية ربما تكون "نقلة كبيرة للغاية لفائدة الجيش، فيما ستضاعف مشكلات الخسارات الكبيرة في صفوف الدعم السريع، الأزمة داخل هذه القوات، وتثير علامات استفهام حول وضعها وقدرة قيادتها ميدانياً وسياسياً، ما سيؤدي تالياً إلى تململ وسط القادة".
واعتبر جمعة أن دعوة حميدتي "لحشد مليون مقاتل"، أقرب إلى "الحرب النفسية منها إلى القدرة على تجميع مثل هذه الأعداد"، لافتاً إلى "تحسن كبير في أداء سلاح الجو السوداني، ما سيحول دون وصول أي إمدادات للدعم السريع في وسط السودان".
مرحلة "أكثر عنفاً"
وفسر المحلل السياسي الجميل الفاضل، التحولات العسكرية بانتقال الجيش من التكتيكات الدفاعية إلى الهجوم، وهو تطور يمكن أن يفهم "بحصول الجيش على أسلحة نوعية متطورة فضلاً عن قناعة لدى قادته بارتفاع درجة الكفاءة القتالية التي تؤهل المشاة المتطوعين للانخراط في العمليات".
ورجح الفاضل، أن هذه "التطورات ترشح الحرب لدخول مرحلة أكثر حدة وعنفاً مع احتمال تدحرج كرة لهبها نحو مناطق جديدة ظلت آمنة بعيداً عن مسرح المواجهات.
وأشار الفاضل إلى أن "تركيز الجيش على ضرورة السيطرة على مناطق الخرطوم بحري وشرق النيل في الخرطوم ومصفاة الجيلي شمالاً، يعود للرغبة في الحيلولة دون انتقال الحرب نحو ولايتي نهر النيل، التي يرتب الجيش لنقل العاصمة الإدارية إليها، والولاية الشمالية، تبعاً له".
وأوضح أن "الجيش حرص على استعادة جبل موية بوصفها منطقة استراتيجية حاكمة، تربط ولايات الإقليم الشرقي بالولايات الوسطى؛ ومن ثم بإقليم كردفان".