عندما كان رئيس الوزراء الفرنسي الجديد والسياسي المخضرم بتيار الوسط فرانسوا بايرو وزيراً للتعليم في التسعينيات، فجرت خطته لزيادة الدعم للمدارس الخاصة احتجاجات على مستوى البلاد، لكنه سرعان ما تراجع ليبقى في منصبه لمدة أربع سنوات أخرى.
وبعد مرور ثلاثة عقود من الزمن، سيواجه بايرو وضعاً مختلفاً في شكل برلمان منقسم يهيمن عليه الاستقطاب، وستكون إحدى مهامه الأولى - بوصفه رئيس الوزراء الرابع للرئيس إيمانويل ماكرون هذا العام - إقرار مشروع موازنة عام 2025.
ويتعين عليه أولاً أن يشكل حكومة، مثل حكومة سلفه ميشيل بارنييه، تحظى بدعم الأقلية في البرلمان وتكون عرضة للهجوم من المعارضين من أقصى اليمين واليسار.
ويبدو أن سحب الثقة من بارنييه وحكومته -وهي المرة الأولى التي يصوت فيها البرلمان الفرنسي على حجب الثقة عن حكومة منذ عام 1962- كان بمثابة صدمة حتى لأولئك الذين كانوا وراء هذه الخطوة. وفي الوقت الحالي، هناك دعم من مختلف الأحزاب لتشريع طارئ لضمان عدم توقف التمويل الحكومي، ولكن بعد ذلك سيبدأ العمل الجاد على إعداد ميزانية العام المقبل.
وقال آرنو بينيديتي، الأستاذ بجامعة السوربون، لرويترز "الصعوبات مستمرة كما كانت في عهد ميشيل بارنييه. على الأقل، لا يبدو من المرجح طرح اقتراح بسحب الثقة في الأمد القريب".
وقال أحد مساعدي ماكرون إن بايرو هو "المرشح الأكثر توافقية القادر على جمع الناس معاً". وقال أعضاء الحزب الاشتراكي إنه امتداد لسلفه.
وبايرو (73 عاماً) سياسي مخضرم، وكان حاملاً لشعلة تيار الوسط حتى أعاد ماكرون تشكيل المشهد السياسي في عام 2017، عندما أطاح بالأحزاب الرئيسية التقليدية في حملة دعمها بايرو.
مخاطر الديون
وتحدث بايرو في السابق بلهجة صارمة عن المخاطر التي يفرضها تراكم أعباء الديون الفرنسية.
وكرر ذلك الجمعة، قائلاً إن ديون البلاد "مشكلة أخلاقية" بقدر ما هي مشكلة مالية. وقال لبارنييه "أسمع تحذيرك بشأن خطورة الموقف وأتفق معك".
ولكنه يعطي أولوية كبيرة للحفاظ على التفاهم والوفاق سواء مع النقابات، أو المشرعين، أو المجموعة الكبيرة من أصحاب المصالح في فرنسا.
لكن الحفاظ على الوفاق في الجمعية الوطنية (البرلمان) التي تهيمن عليها ثلاثة فصائل متنافسة سيكون مستحيلاً تقريباً.
وأدى رفض المشرعين لمشروع قانون ميزانية 2025 إلى سقوط بارنييه، ويقول زعماء اليسار إنهم قد يسعون للإطاحة ببايرو إذا استخدم أيضاً سلطات دستورية خاصة لإقرار الميزانية دون تصويت في البرلمان.
وقال رافائيل برون أجوير من جيه.بي مورجان في مذكرة "تلبية مطالب أحزاب المعارضة قد تكون مكلفة مالياً وقد تكون درجة ضبط الأوضاع المالية محدودة العام المقبل نتيجة لذلك".
خطوط حمراء
وخلال الأيام القليلة الماضية، أجرى ماكرون محادثات مع رؤساء الأحزاب بدءاً من حزب الجمهوريين المنتمي ليمين الوسط وحتى الحزب الشيوعي.
ودعا ماكرون كل "القوى الجمهورية" إلى الاتحاد، لكنه اختار مقاومة دعوات الحزب الاشتراكي لتعيين رئيس وزراء من بين صفوفه، وذلك لعدم رغبته في المخاطرة بإلغاء الإصلاحات التي حررت ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو وأرست نظام التقاعد على أساس مالي أكثر متانة.
ورغم ذلك، فإن إصلاح نظام التقاعد الذي أجراه الرئيس في عام 2023 سيظل في مرمى نيران معارضيه.
وقال جوردان بارديلا، رئيس حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، للصحافيين بعد وقت قصير من تعيين بايرو "لا تزال خطوطنا الحمراء قائمة". وتشمل هذه الخطوط الحمراء ربط معاشات التقاعد بالتضخم طوال عام 2025.
وأظهر استطلاع للرأي أجري مؤخراً أن 35 إلى 38 بالمئة من الناخبين يعتزمون دعم زعيمة حزب بارديلا، مارين لوبان، في الانتخابات الرئاسية المقبلة المقرر إجراؤها في عام 2027 - وهو مستوى تأييد غير مسبوق لزعيمة اليمين المتطرف يضعها في الصدارة.
وعلاوة على ذلك، حتى لو لم يعترض الخصوم السياسيون سبيل بايرو، فإن التحديات التي تواجه حكومته المستقبلية ستكون هائلة.
فسوف يتعين على حكومته خفض عجز الميزانية إلى مستوى أقل من 6.1 بالمئة المتوقع لعام 2024 مع إبقاء النقابات العمالية الأقرب لتنظيم احتجاجات تحت السيطرة، فضلاً عن زيادة الإنفاق العسكري المخصص لأوكرانيا وإيجاد سبل لدعم القطاع الصناعي المتعثر.
ووعد بارنييه بخفض العجز من خلال زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات الكبرى، فضلاً عن فرض قيود على الزيادة المزمعة في مخصصات المعاشات التقاعدية. لكن هذه الإجراءات نحيت جانباً عندما تمت الإطاحة بحكومته.
ووجه وزير المالية السابق برونو لو مير، الذي استجوبه المشرعون بشأن دوره في عدم تقليص عجز الميزانية، انتقاداً لاذعاً للبرلمان.
وقال "هذه الجمعية تفرض الضرائب وتحدد أوجه الإنفاق وتفرض الرقابة... لقد فقدت منذ فترة طويلة أي إحساس بالواقع الاقتصادي وأوضاع الميزانية".