في خضم التغيرات السياسية العميقة التي يشهدها المشهد السوري منذ سقوط نظام بشار الأسد، يبرز الحوار بين الإدارة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" كأحد الملفات الأكثر حساسية.
ومع تولي أحمد الشرع رئاسة المرحلة الانتقالية في سوريا، يجد الطرفان أنفسهما أمام مفترق طرق سياسي يحدد ملامح المرحلة المقبلة من الصراع، والتحديات التي ستواجه جهود الحل السياسي، وهذا التفاوض لا يقتصر فقط على الجوانب العسكرية أو السياسية فحسب، بل يتجاوز ذلك ليكون محطة مفصلية في إعادة تشكيل سوريا المستقبل.
وتلعب "قسد"، التي تعتبر قوة عسكرية وسياسية محورية في شمال شرق البلاد، دوراً معقداً في عملية المفاوضات التي قد تحدد مستقبلاً علاقة سوريا بمحيطها الإقليمي والدولي.
وبين رغبة سوريا في استعادة سيادتها الكاملة وتحديات الانقسامات الداخلية، يواجه الطرفان خيارات صعبة قد تؤدي إلى حل شامل أو تعمق الانقسامات في المشهد السوري.
سوريا الموحدة
مع تولي الشرع رئاسة الدولة السورية خلال المرحلة الانتقالية، وإعلان "حل جميع الفصائل المسلحة"، والتعهد بـ"إعادة بناء الجيش على أسس وطنية"، تسعى دمشق لتوحيد البلاد تحت سيادتها الكاملة.
وقال مصدر من الإدارة السورية الجديدة طلب عدم الكشف عن اسمه لـ "الشرق"، إن "سوريا يجب أن تبقى دولة موحدة، وكل الجهود المبذولة تهدف إلى إعادة بناء هذه الوحدة".
واعتبر أن "(قسد) تشكل جزءاً من الواقع السوري الحالي"، لكنه أضاف: "أي تفاهم مع قوات سوريا الديمقراطية يجب أن يتم ضمن إطار سيادة الدولة السورية".
وشدد المصدر، على "ضرورة الحوار معها (قسد)، شرط أن يكون ضمن سياق دستوري وطني يضمن مصالح جميع الأطراف".
وفي هذا السياق، قال وزير الدفاع في الإدارة السورية الجديدة مرهف أبو قصرة، إن ملف قوات سوريا الديمقراطية سواء بـ"التفاوض أو الحل العسكري" سيكون عند الإدارة الجديدة.
وذكر أبو قصرة، في مقابلة تلفزيونية نقلت وسائل إعلام محلية تفاصيلها، أن قوات سوريا الديمقراطية عرضت تسليم آبار النفط في شرق البلاد، لكن العرض قوبل بـ"الرفض"، وتابع: "ما نسعى إليه هو السيطرة على المؤسسات والسجون والحدود".
ووضع أبو قصرة منذ توليه مهام منصبه مسألة دمج الفصائل المناهضة للأسد في سوريا في هيكل موحد ضمن أولوياته، لكن الخطة تواجه صعوبة في دمج "قوات سوريا الديمقراطية".
وتعتبر الولايات المتحدة "قوات سوريا الديمقراطية" التي يقودها الأكراد، حليفاً رئيسياً في مواجهة تنظيم "داعش"، فيما تعتبرها تركيا المجاورة لسوريا "تهديداً" لأمنها القومي.
وفتح الشرع مؤخراً باب التفاوض مع "قسد"، مؤكداً في الوقت نفسه أن لدى سوريا الحق في استخدام "كافة الوسائل" لاستعادة وحدة أراضيها، كما شدد على عدم السماح مطلقاً بتقسيم بلاده أو بوجود سلاح خارج سلطة الدولة.
ضغوط إقليمية ودولية
من جهته، اعتبر المصدر في تصريحاته لـ"الشرق"، أن "الضغوط الإقليمية والدولية لا سيما من تركيا والولايات المتحدة، تمثل تحدياً كبيراً في عملية التفاوض"، لكنه ذكر أن "دمشق ترى أن الحل الأساسي هو الحوار بين السوريين أنفسهم، بعيداً عن التدخلات الخارجية"، مشدداً على أهمية "احترام سيادة سوريا ووحدتها في أي مسار سياسي مقبل".
وفيما يتعلق بالعلاقات مع تركيا، أعرب المصدر عن سعي دمشق لـ"تأكيد سيادتها على كامل الأراضي السورية"، لافتاً إلى أن "المفاوضات مع (قسد) يمكن أن تكون جزءاً من عملية شاملة لتحقيق السلام والاستقرار في البلاد".
وأضاف أن الإدارة السورية الجديدة "تواصل العمل على مواجهة الضغوط الدولية، مع التركيز على تحقيق الاستقرار الداخلي في سوريا، ومواصلة جهود إعادة دمج البلاد في النظامين الإقليمي والدولي بما يحترم سيادتها".
وشدد على ضرورة أن يكون "الدعم الدولي موجهاً نحو حلول سياسية شاملة لا إلى تعزيز الانقسامات في سوريا".
من جانبه، قال قائد "قوات سوريا الديمقراطية" مظلوم عبدي، في تصريحات لـ"الشرق" إن "الإدارة اللامركزية هو مطلبنا الأساسي، لكن وجهة نظر الإدارة السورية مغايرة، إذ يرغبون بإدارة مركزية، ولكن مطلبنا واضح"، داعياً إلى الحوار ودراسة هذا المطلب.
وشدد عبدي، على أن "اللامركزية لا تتعارض مع وحدة الأراضي السورية"، موضحاً أنهم "سيدافعون عن وجهة نظرهم".
كما أعرب عن استعدادهم لـ"ربط قوات سوريا الديمقراطية بوزارة الدفاع، ككتلة عسكرية تعمل حسب القوانين والضوابط التي تضعها وزارة الدفاع السورية"، مع التأكيد على أن "الاندماج لن يكون على مستوى الأفراد".
وفي المقابل، يرى أبو قصرة، أنه لن يكون من الصحيح أن تظل "قسد" كتلة عسكرية داخل القوات المسلحة السورية، قائلاً: "عليهم أن يدخلوا ضمن هيكلية وزارة الدفاع، ويتم توزيعهم بطريقة عسكرية، لا مانع في هذا، لكن أن يبقوا ككتلة عسكرية داخل هذه المؤسسة الكبيرة فهذا الشيء غير صحيح".
"تفاهمات ميدانية وعسكرية"
وأشار الصحافي والباحث عبد الرحيم سليمان لـ"الشرق"، إلى أن "الدعم الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية في منطقة شمال وشرق سوريا لا يزال مستمراً، ولم يشهد أي تراجع، بل بالعكس تعزز هذا الدعم في الآونة الأخيرة".
وذكر سليمان، أن الدعم الأميركي يركز بشكل خاص على "محاربة الإرهاب، خصوصاً في مواجهة تنظيم داعش، إذ يتم تحديد ميزانيات داعمة لقوات سوريا الديمقراطية، إلى جانب تعزيز وجود قوات التحالف الدولي، خاصة الأميركية، في المنطقة".
ولفت إلى أن "الولايات المتحدة قامت بتعزيز قواعدها العسكرية وقواتها في شمال وشرق سوريا، مما يعكس زيادة الزخم لهذا الدعم".
واعتبر الباحث أن "الإرهاب من أبرز التحديات التي تواجه قوات سوريا الديمقراطية، إذ تزايدت تحركات داعش في المنطقة بعد سقوط النظام في بعض المناطق، إضافة إلى وجود خلايا نائمة في شمال وشرق سوريا".
وتابع: "لا تقتصر هذه التحديات على داعش فقط، بل تشمل أيضاً الهجوم المستمر من قبل الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، الذي يواصل قصف مناطق مختلفة في الريف الشرقي".
وذكر سليمان، أن "الضغوط العسكرية التركية على قوات سوريا الديمقراطية تتزامن مع حملة دعائية كبيرة تستهدف تشويه صورة هذه القوات عبر نشر أخبار مضللة، ونشر خطاب الكراهية ضد الأكراد".
وزعم أن أنقرة "تسعى من خلال هذه الضغوط العسكرية إلى استغلال الوضع لتحقيق مكاسب سياسية على حساب الوضع الداخلي السوري، مستفيدة من التوترات بين (قسد) ودمشق".
وفيما يخص المفاوضات بين دمشق و"قسد"، أشار سليمان، إلى أن "اللقاءات بين قيادات قوات سوريا الديمقراطية والشرع، شهدت تطوراً ملحوظاً"، مضيفاً: "كان من أبرز هذه اللقاءات اجتماع بين الشرع ومظلوم عبدي في دمشق، بحضور أميركي. حيث تم التوصل إلى تفاهمات ميدانية وعسكرية، رغم الضغط التركي الواضح والتشويش الذي يمارسه في هذه المفاوضات".
تلويح تركي
المحلل السياسي التركي مصطفى أوزجان قال لـ"الشرق"، إن "تركيا لا تزال تشدد على معارضتها لوجود قوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا، معتبرة إياها تهديداً مباشراً للأمن القومي التركي".
وأضاف أوزجان أن "تركيا تواصل تطويق (قسد) عسكرياً، وأنها تترقب الظروف السياسية المناسبة لإجراء عملية عسكرية ضدها، لكن الظروف الراهنة لا تزال غير ملائمة لهذه الخطوة".
وأعرب عن سعي تركيا لـ"استغلال الفرص المتاحة من أجل تنفيذ استراتيجيتها في المنطقة، دون التراجع عن موقفها الثابت تجاه (قسد)"، معتبراً أن "الخيار الوحيد أمام (قسد) أو الأكراد بشكل عام هو الرضوخ للمطالب التركية، وخاصة تسليم الأسلحة إلى الإدارة السورية الجديدة، وهو ما قد يُعتبر خطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار في المنطقة".
وأشار أوزجان، إلى أن "تركيا تسعى للوصول إلى تفاهمات مع الأطراف المعنية عبر الحوار والتفاوض"، إلا أنه حذر من أن "هناك 3 دوائر إقليمية تدعم التوجهات الانفصالية في سوريا، وهي إسرائيل، الولايات المتحدة، وإيران، مما يزيد من تعقيد الوضع".
وعبّر عن اعتقاده بأن أنقرة "قد تسعى لإشراك بعض الدول العربية في هذه المجموعة، مع ضرورة مواجهة التحديات التي تطرأ في المنطقة".
وفي ما يتعلق بمطالب "قسد" السياسية، أبدى أوزجان قلقه من أن هذه المطالب "قد تفتح الطريق نحو السعي وراء الفيدرالية، وهو ما قد يزعزع الاستقرار في المنطقة، ويؤثر سلباً على الأمن التركي".
وأشار إلى أن "الولايات المتحدة ربما تعيد النظر في دعمها لـ(قسد)، ما قد يسهل تعامل تركيا مع هذه المجموعة".
ويرى المحلل التركي، أن بلاده "تواصل سعيها لتحقيق الاستقرار في شمال سوريا، مع التركيز على منع التسلل عبر الحدود التركية الجنوبية الشرقية، وتعزيز العلاقات مع الإدارة السورية الجديدة بما يخدم مصالح الأمن القومي التركي".
وفي ظل التحولات السياسية الكبيرة التي تشهدها سوريا، يبدو أن قوات سوريا الديمقراطية تتجه إلى مرحلة حساسة في تاريخها، حيث يواجه موقفها تحديات جديدة على الصعيدين السياسي والأمني.