"حقبة جيوسياسية جديدة".. أوروبا تستعد للانسحاب الأميركي من معادلة أمنها

وزير الخارجية الإسباني: نحتاج إلى قدرات تكاملية في الصناعات الدفاعية ونبحث آليات فعالة للتمويل

time reading iconدقائق القراءة - 12
وزراء الدفاع في دول حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا خلال اجتماع في بروكسل. 12 فبراير 2025 - REUTERS
وزراء الدفاع في دول حلف شمال الأطلسي وأوكرانيا خلال اجتماع في بروكسل. 12 فبراير 2025 - REUTERS
بروكسل -حسين الوائلي

فاجأت الولايات المتحدة شركاءها الأوروبيين برغبتها في الانسحاب التدريجي من الجغرافيا الأوروبية، إذ تسعى واشنطن إلى إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية والتركيز على مسارح أخرى أكثر أهمية، بما فيها منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

ويشمل هذا التوجه نقل القوات الأميركية التقليدية المتمركزة في أوروبا، بما في ذلك السفن والصواريخ بعيدة المدى والطائرات التكتيكية ووحدات الانتشار المتقدم، إلى مناطق ذات أولوية أعلى، مثل تأمين الحدود مع المكسيك أو تعزيز وجودها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

كما تسعى واشنطن إلى تقليل انخراطها في الصراعات المستمرة في أوروبا الشرقية، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا، من خلال الدفع نحو وقف إطلاق النار بين الروس والأوكرانيين، وترك مسؤولية تنفيذه على عاتق الأوروبيين.

وبدأ مسؤولون أوروبيون إدراك حقيقة لطالما أشار إليها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد تريد أن تكون الضامن الأساسي للأمن في أوكرانيا أو القارة الأوروبية ككل، ما يضعها أمام تحديات وفجوات دفاعية تتطلب حلولاً فاعلة.

وقال وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس، في رده على سؤال لـ"الشرق"، إنه لا يرغب في التحدث نيابةً عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بانسحابها من أوروبا، لكنه شدد على أهمية إعادة تقييم مفهوم الأمن في أوروبا.

وأوضح أن الأمن لا يقتصر فقط على الدفاع العسكري، بل يشمل أبعاداً أخرى يجب على الأوروبيين دراستها بعمق، مؤكداً ضرورة تحديد ماهية التهديدات التي تواجه القارة، وما يدخل ضمن إطار الدفاع وما يتجاوزه.

وأشار الوزير إلى أن الحديث بين الأوروبيين عن الجاهزية للرد السريع، استمر لسنوات، لكنه شدد على الحاجة إلى قدرات تكاملية في الصناعات الدفاعية، بالإضافة إلى إيجاد آليات فعالة لتمويل هذه القدرات. كما أوضح أن هناك جانباً يتعلق بالصناعات الدفاعية الوطنية لكل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، لكن الأهم هو البعد الأوروبي المشترك.

وأكد ألباريس، أنه "إذا كان التهديد يستهدف أوروبا ككل، فإن التمويل والاستجابة يجب أن يكونا أوروبيين أيضاً".

حقبة جيوسياسية جديدة

ويرى الباحث المختص في الشأن الأوروبي والأطلسي روبيرو إدواردو، في بروكسل، أن العالم يشهد حقبة جيوسياسية جديدة، حيث جاء ظهور الرئيس الأميركي دونالد ترمب في توقيت غير مناسب للأوروبيين، إذ يؤكد على أولوية القيادة الأميركية وضرورة امتثال الدول لها.

وفي ظل هذه التطورات، يسعى الأوروبيون إلى إيجاد نهج يمكّنهم من بناء "مفهوم أمني مستقل" عن واشنطن. ومع ذلك، يظل تحقيق هذا الهدف في إطاره النظري، حيث يواصل الرئيس الأميركي الضغط على أوروبا لاتخاذ قرارات قصيرة الأمد، وهو ما يلقى معارضة من الحلفاء الأوروبيين.

وفي هذا السياق، اقترحت أوروبا زيادة ميزانياتها المخصصة للأمن والدفاع، إدراكاً منها بأنها لا تستطيع الاستمرار دون الاعتماد على القوة العسكرية الأميركية.

تداعيات عسكرية على الناتو

تُعد الولايات المتحدة أكبر مساهم في ميزانية حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وأي تراجع في دعمها من شأنه إضعاف القدرات الدفاعية للحلف. وفي هذه الحالة، ستجد الدول الأوروبية نفسها مضطرة إلى زيادة إنفاقها الدفاعي لتعويض الغياب الأميركي. كما أن إضعاف الناتو قد يمنح روسيا دافعاً لاتخاذ خطوات أكثر جرأة تجاه أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية.

وتنعكس تداعيات هذا التحول بوضوح على أوكرانيا، التي تعاني من ويلات الحرب، ولم تعد قادرة على الاعتماد على القوة النارية الأميركية والدعم المالي المقدم لها. وفي ظل هذا الواقع الجديد، يواجه حلف شمال الأطلسي، الذي يشكل ركيزة الردع العسكري الغربي، تحدياً كبيراً يتمثل في إعادة تشكيل دوره ومهامه.

وعقب فوز ترمب، عُقدت قمتان على مستوى زعماء الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، إلا أن هذه اللقاءات الطارئة لم تتمخض عن استراتيجية موحدة، ولم تلبِ المطالب الأميركية بإيجاد صيغة لإنهاء الصراع في أوكرانيا. 

وبينما يسارع القادة الأوروبيون إلى سد الفراغ الأمني الذي قد يتركه الانسحاب الأميركي، تراقب روسيا والصين الوضع عن كثب، مستعدتين لاستغلال أي فرصة تتيح لهما تعزيز نفوذهما على الساحة الدولية.

وصرّح وزير الدفاع الأميركي، بيت هيجسيث، مؤخراً خلال مؤتمر صحافي في بروكسل، بأن "الولايات المتحدة لم تعد الضامن الأساسي للأمن الأوروبي". وقد أحدثت هذه التصريحات، التي جاءت خلال قمة رفيعة المستوى، صدمة في العواصم الأوروبية، إذ إنها تمثل لأول مرة في التاريخ الحديث إشارة واضحة من واشنطن إلى أن على أوروبا تحمل مسؤولية أمنها بنفسها.

ويرى بعض المحللين أن تردد أوروبا المستمر في زيادة إنفاقها الدفاعي، يعزز من أهمية الإبقاء على الوجود العسكري الأميركي، بل وحتى تعزيزه. وفي هذا السياق، أشار تقرير حديث صادر عن معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية الحرب الأميركية، إلى أن أمن أوروبا "لا يزال يعتمد بشكل أساسي على القيادة والقدرات العسكرية الأميركية"، مما يضع القارة أمام معضلة إعادة النظر في سياساتها الدفاعية والاستراتيجية.

لكن هذه الحجة تغفل جانباً مهماً، وهو أن التراجع الكبير في الوجود العسكري الأميركي قد يكون الدافع الأساسي لإنهاء تردد أوروبا في زيادة إنفاقها الدفاعي، وهو تردد استمر لعقود. فوجود مظلة الحماية الأميركية الضخمة هو ما سمح للدول الأوروبية بتجاهل المخاوف بشأن ضعفها الدفاعي منذ البداية. لقد اعتمدت أوروبا على ضمان التدخل الأميركي الفوري عند الحاجة، مما جعلها غير مضطرة لتقاسم تكاليف الدفاع بشكل متكافئ. وهكذا، كان تحويل المسؤولية إلى واشنطن خطوة استراتيجية ذكية من منظور أوروبي.

 مخاطر وتحديات أمنية

وتؤرق المخاطر الأمنية بعد الانسحاب الأميركي المحتمل، الحليف الأوروبي من أن يؤدي انسحاب الولايات المتحدة من التزاماتها الأمنية تجاه أوروبا إلى خلق "نظام عالمي أكثر اضطراباً وأقل قابلية للتنبؤ". ويترتب على ذلك مجموعة من المخاطر والتحديات الرئيسية، أبرزها  تصاعد خطر الصراعات الإقليمية مع تراجع الدور الأميركي.

 بدأت فراغات القوة تظهر، ما يزيد من احتمالات نشوب صراعات في أوروبا الشرقية. ويخشى الأوروبيين من أن الانسحاب قد يشجع الروس على اتخاذ خطوات أكثر جرأة تجاه أوكرانيا أو حتى دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، ومولدوفا مستغلة غياب الردع الأميركي المباشر.

ولعب حلف الناتو، بدعم أميركي، دوراً محورياً في استقرار المنطقة الشرق الأوسط. وإذا اضطرت أوروبا إلى توجيه مواردها العسكرية للدفاع عن أراضيها، فقد يتراجع دورها في جهود مكافحة الإرهاب والأمن الإقليمي.

الأمن في المحيطين الهندي والهادئ، يبقى هاجساً حقيقياً للولايات المتحدة، ومع تركيز واشنطن على مواجهة الصين، قد تجد الولايات المتحدة صعوبة في الحفاظ على نفوذها في أوروبا وآسيا في آنٍ واحد، مما قد يخلق اختلالاً في التوازن الجيوسياسي لصالح كل من الصين وروسيا.

التوجه نحو الصين

قد يؤدي انسحاب الدرع الأميركي من أوروبا إلى تصدع التحالف الغربي، مما قد يثير خلافات بين الدول الأوروبية بشأن سبل مواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة. ويأتي ذلك في ظل غياب الجاهزية الدفاعية والقدرة الكافية على احتواء المخاطر، التي تهدد البنية الأمنية الغربية.

في ظل هذا الواقع، قد تجد بعض الدول الأوروبية نفسها مضطرة إلى تعزيز علاقاتها مع قوى أخرى، مثل الصين، لضمان أمنها القومي. في الوقت نفسه، قد يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها شريك غير موثوق، مما سيؤثر سلباً على نفوذها العالمي.

واقتصادياً، قد يتضرر قطاع الصناعات العسكرية الأميركية إذا خفضت الدول الأوروبية مشترياتها من الأسلحة الأميركية. كما أن إضعاف التحالف الغربي قد يؤدي إلى اضطرابات في الأسواق المالية والاقتصادية، مما قد يدفع أوروبا إلى تطوير صناعاتها الدفاعية وتقليل اعتمادها على واشنطن.

ويرى خبراء كثر، أن أي انسحاب أميركي من دعم حلف الناتو، من شأنه أن يغير موازين القوى العالمية، الأمر الذي قد يتسبب في اضطرابات سياسية وأمنية كبيرة، لا سيما في أوروبا، التي تعتمد منذ ثمانية عقود على الردع النووي التكتيكي والغطاء الجوي الأميركي.

تحول موقف واشنطن

وشهدت الفترة الأخيرة تغيراً في حدة لهجة الولايات المتحدة تجاه روسيا، ما يعكس تبايناً واضحاً مقارنة بموقف إدارة الرئيس السابق جو بايدن، إذ تكررت سابقاً عبارة "عدوان موسكو" خمس مرات في بيان زعماء مجموعة السبع.

وتشير تقارير غربية، إلى أن إصرار إدارة ترمب على تخفيف حدة الخطاب المستخدم تجاه روسيا، يعكس تحولًا أوسع في السياسة الأميركية تجاه الحرب في أوكرانيا، حيث باتت توصف بأنها "صراع أوكرانيا" بدلاً من توصيفها السابق، فيما يتهيأ الفريقان الأميركي والروسي إلى إعداد ملفات هامة من المفترض أن يناقشها الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين.

وأوضح يان ليبافسكي وزير الخارجية التشيكي لـ"الشرق"، أنه لم يطّلع بعد على التفاصيل الدقيقة التي من المفترض أن تُناقش بين الرئيس الأميركي ترمب ونظيره الروسي بوتين، وما إذا كان أمن أوروبا جزءاً من أي صفقة أو محادثات محتملة.

اتفاقية للأمن الأوروبي

وأكد ليبافسكي، التزام أوروبا بالتعاون مع الولايات المتحدة في إطار المقاربة الحالية المتاحة حتى الآن، مشدداً على أن أوروبا بصدد إعداد اتفاقية تتعلق بالأمن الأوروبي، لا تزال بحاجة إلى مزيد من النقاش حول هذه الاتفاقية بين الدول الأعضاء في الكتلة الأوروبية، بهدف التوصل إلى التزام مشترك واضح ومتكامل مع واشنطن. 

وفي هذا السياق، صرّح رئيس مجلس النواب الأميركي، الجمهوري، مايك جونسون، بأنه "لا توجد رغبة" في تمرير مشروع قانون جديد لدعم أوكرانيا في الكونجرس، مشدداً على ضرورة إنهاء الصراع. 

بدوره، شن الملياردير إيلون ماسك هجوماً على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أيضاً، وكرر دعوة ترمب لإجراء انتخابات في كييف، قائلاً: "هو مكروه من قبل الشعب الأوكراني، ولهذا السبب يرفض إجراء انتخابات".

بنك إعادة التسلح

تبحث الدول الأوروبية سبل تعزيز قدراتها الدفاعية في ظل ميزانيات وطنية مقيدة بشدة. ومن خلال الاستفادة من الضمانات الوطنية، يمكن أن يسهم إنشاء بنك في تمكين الدول من زيادة الإنفاق الدفاع دون زيارة ميزانيتها العامة. 

وتسعى بريطانيا إلى زيادة الإنفاق الدفاعي من 2.3% إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يتطلب ما لا يقل عن 5 مليارات جنيه إسترليني إضافية سنوياً، رغم القيود الشديدة التي تفرضها قواعدها المالية الذاتية على زيادة النفقات.

وتضمنت المقترحات فكرة طرحها الجنرال، نيك كارتر، القائد السابق للجيش البريطاني، وتتمثل في إنشاء "بنك إعادة التسلح" للاستفادة من مدخرات أوروبا، على غرار البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، الذي أُنشئ بعد سقوط الستار الحديدي لدعم دول وسط وشرق أوروبا.

ويرى العديد من القادة الأوروبيين، الذين يتوافدون على بروكسل، مركز صنع القرار الأوروبي، أن العقود السبعة التي لعبت فيها الولايات المتحدة دور الحارس للأمن الأوروبي، وضمنت الاستقرار في القارة، بينما هيمنت عسكرياً واقتصادياً على النظام العالمي، تقترب من نهايتها. ولم يعد انسحاب واشنطن من دورها كضامن أساسي لأمن أوروبا مجرد تغيير في السياسة، بل هو إعادة صياغة جذرية لموازين القوى العالمية.

وتحمل هذه التحولات العسكرية والاقتصادية والسياسية في أوروبا، عواقب بعيدة المدى، حيث تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى إعادة تعريف دورها في الأمن العالمي. فمع وصول حلف شمال الأطلسي إلى مفترق طرق، واستعداد روسيا لاستغلال نقاط ضعف جديدة، وتركيز الاستراتيجية الأميركية على الصين، بات من الواضح أن النظام العالمي القديم، الذي بُني على الوحدة  عبر الأطلسي والزعامة الأميركية المطلقة، يتصدع، مما يترك وراءه حالة من عدم اليقين الاستراتيجي.

تصنيفات

قصص قد تهمك