
تشهد أروقة وكالات الاستخبارات الأميركية مخاوف متزايدة من حملة تطهير واسعة، قد تؤثر بشكل كارثي على قدراتها في جمع المعلومات، بسبب نهج إدارة الرئيس دونالد ترمب بتقليص عدد الموظفين، وفق صحيفة "واشنطن بوست".
وأفادت الصحيفة الأميركية، في تقرير نشرته الجمعة، بأنه من المتوقع أن تبدأ وزارة الدفاع (البنتاجون)، هذا الأسبوع، في تسريح ما يصل إلى 5400 موظف تحت الاختبار، في إطار جهودها لتقليص عدد الموظفين، كما بدأت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) في فصل بعض الموظفين من نفس الفئة أيضاً، وفقاً لما ذكرته المتحدثة باسم الوكالة.
ونقلت الصحيفة عن ضابط سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، قوله إنه تم تسريح حوالي 80 موظفاً.
إرباك موظفي الاستخبارات الأميركية
وأشارت "واشنطن بوست" إلى أن تقليص عدد الموظفين، والتعليمات المتضاربة بشكل متكرر للموظفين عبر الشبكة الواسعة من وكالات الاستخبارات الأميركية- من عملاء CIA إلى محللي الشفرات في وكالة الأمن القومي (NSA)- تسبَّب في إرباك عشرات الآلاف من موظفي الاستخبارات الذين يُعرفون عادةً بالهدوء، وتجنب الانخراط في السياسة الحزبية، والتركيز على المهام الحاسمة التي يجب إنجازها.
وقال بعض المسؤولين السابقين، الذين تحدثوا إلى الصحيفة، إنهم لم يروا مثل هذه الاضطرابات منذ عقود، إن لم يكن على الإطلاق.
وبالنظر إلى السرية التي تُحيط بعملهم، فإن تأثير جهود إدارة ترمب لإعادة تشكيل مجتمع الاستخبارات الأميركي كان أقل وضوحاً مما هو عليه في أماكن أخرى في الحكومة الفيدرالية، لكنه أيضاً كان أقل حدة من ذلك الذي شهدته الوكالات والإدارات الأخرى التي شهدت عمليات فصل واسعة النطاق، أو تفكيكاً فعلياً كما هو الحال في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، حتى الآن على الأقل.
ووفقاً لما ذكره مسؤولون حاليون وسابقون للصحيفة، فإن التقليص المحتمل لعدد الموظفين، خاصةً بين الضباط الشباب، وتأثيره على التوظيف قد يجعل من الصعب على الولايات المتحدة جمع المعلومات الاستخبارية حول التهديدات من الصين، وروسيا، وإيران، والجماعات الإرهابية في المستقبل.
"نطلق النار على أنفسنا"
وقال مسؤول استخباراتي كبير سابق: "نحن نطلق النار على أنفسنا في الرأس، وليس في القدم.. نحن نراهن على مستقبلنا".
ويحاول موظفو الاستخبارات فهم سياسات قادتهم الجدد، بما في ذلك مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي جابارد، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) جون راتكليف، وكلاهما من الحلفاء السياسيين المقربين لترمب، وقد تعهَّدا بتنفيذ أجندته السياسية، فيما أعرب الأخير مراراً عن عدم ثقته في وكالات الاستخبارات الأميركية.
وقالت "واشنطن بوست" إن إلغاء برامج التنوع والشمول (DEI) يعد أمراً مؤلماً بشكل خاص لبعض مسؤولي الاستخبارات، الذين يرون أن التنوع في القوى العاملة له فوائد عملية.
وعلى مدى سنوات، ظل قادة وكالات الاستخبارات الأميركية يتحدثون عن نقص في عدد المحللين الذين يتمتعون بالمهارات اللغوية، والخلفيات الثقافية اللازمة لفهم المجتمعات الأجنبية، ويشيرون إلى الحاجة إلى توظيف عملاء سريين يتمتعون بالسمات الجسدية التي تساعدهم على العمل، دون أن يُكتشفوا في مناطق مثل إفريقيا أو آسيا أو الشرق الأوسط.
وأضاف المسؤول السابق الذي تحدث إلى الصحيفة أن هناك ما لا يقل عن 10 شباب أُلغيت قرارات توظيفهم بعد حصولهم على عروض بالعمل، مشيراً إلى أنه يعرف آخرين تم تسريحهم وهم لا يزالون في فترة الاختبار، منهم مهندسون نوويون، ومحللون يجيدون اللغة الصينية.
يضم مجتمع الاستخبارات الأميركي 18وكالة، ينضوي تحتها حوالي 100 ألف موظف، بميزانية تبلغ 106 مليارات دولار، ويتولى أداء مجموعة واسعة من المهام بدءاً من تشغيل العملاء السريين، وتتبع التطورات العسكرية الأجنبية إلى التنصت على اتصالات الخصوم، وإطلاق وتشغيل أقمار التجسس الاصطناعية المتطورة.
وحذَّر العديد من المسؤولين السابقين من أن أي تقليص في معدل توظيف المواهب الجديدة سيكون في وقت غير مناسب بشكل خاص بالنسبة لأكبر وكالتين في مجال الاستخبارات، وهما وكالة الاستخبارات المركزية، ووكالة الأمن القومي.
فبعد سنوات من التأخيرات الناجمة عن جائحة "كوفيد-19"، أجرت وكالة الاستخبارات المركزية زيادة في معدل التوظيف، بما في ذلك تدريب الضباط للاستعداد للعمل كعملاء سريين في الخارج، لتجنيد وتشغيل العملاء الأجانب، حسبما نقلت الصحيفة عن مسؤول استخباراتي كبير سابق ثانٍ، والذي أضاف أن النتيجة هي أن عدد الموظفين تحت الاختبار بات في الوقت الحالي أكبر بكثير من المعتاد.
إغلاق بعض البعثات الدبلوماسية
وكانت وكالة الأمن القومي(NSA)، بدأت في زيادة معدل التوظيف قبل عامين، مدفوعة بالتأخيرات الناتجة عن الجائحة، وبأزمة ديموجرافية وشيكة، حيث وصل عدد كبير من موظفيها إلى سن التقاعد.
وأعلنت أنها تريد توظيف 3 آلاف شخص في عام 2023 فقط، وأشار المسؤول الكبير السابق الثاني الذي تحدث إلى الصحيفة إلى أن العديد من هؤلاء الموظفين لا يزالون في وضع الاختبار الذي يستمر لمدة عامين، قائلاً إن "عدم اليقين المستمر لدى العاملين في جميع أنحاء الوكالات الاستخباراتية بشأن وظائفهم ومستقبلهم يمثل مصدر إلهاء".
من جانبها، رفضت وكالة الاستخبارات المركزية، وكذلك وكالة الأمن القومي الرد على طلب الصحيفة الحصول على تعليق.
وقال متحدث باسم مكتب جابارد، في بيان، إلى الصحيفة إن "مكتب مديرة الاستخبارات الوطنية ومجتمع الاستخبارات يتخذان خطوات لتنفيذ أولويات الرئيس (ترمب)، المتمثلة في الحصول على أقصى قيمة لدافعي الضرائب، وتأمين أمتنا"، مضيفاً: "ليس لدينا أي تغييرات محددة تتعلق بالقوى العاملة نشاركها في الوقت الحالي".
ووفقاً للصحيفة، فإن وزارة الخارجية الأميركية تدرس خططاً لإغلاق بعض البعثات الدبلوماسية في الخارج، وهو ما أثار قلق بعض مسؤولي الاستخبارات من أنه قد يؤدي إلى تقليص الخيارات المتاحة لتعيين ضباط وكالة الاستخبارات المركزية في الخارج، إذ إنه عادةً ما يعمل ضباط الوكالة من داخل السفارات والقنصليات الأميركية.
ترمب وبوتين.. "الخصم الرئيسي"
ونقلت "واشنطن بوست" عن مسؤول سابق في CIA قوله إن حالة الذعر داخل الوكالة تراجعت حدتها إلى حد ما، مع تنامي الآمال في أن يكون نطاق فصل الموظفين تحت الاختبار أصغر مما كانوا يخشونه في البداية.
وقال كيفن كارول، المحامي الذي يمثل 21 موظفاً من برامج التنوع والشمول داخل وكالة الاستخبارات المركزية، الذين رفعوا دعوى قضائية لمنع فصلهم، إن ترمب قدّم للعاملين في مجتمع الاستخبارات معضلة جديدة الآن من خلال التحول بشكل حاد نحو موسكو، والانحياز، على ما يبدو مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لإنهاء الحرب في أوكرانيا، بينما يرى مسؤولو الاستخبارات الأميركية بالإجماع تقريباً أن موسكو هي الخصم الرئيسي للولايات المتحدة.
كما نقلت الصحيفة عن مسؤول استخباراتي في سلاح الجو الأميركي قوله: "من خلال إعطاء ظهرنا لأوكرانيا وتراجع دعمنا لها، فإننا نقوّض الأمن الأوروبي والمصالح الأميركية على المدى الطويل.. لقد أعادت كييف بالفعل روسيا إلى الوراء بشكل كبير.. والآن، يهدد تراجعنا بعكس تلك المكاسب وتشجيع خصومنا".
وأشار المسؤول، الذي يشرف على وحدة تحليل تكتيكي مقرها أوروبا، إلى أن اثنين من موظفيه المدنيين السبعة لا يزالون تحت الاختبار، قائلاً: "إذا فقدت اثنين من فريقي المكون من 7 موظفين، فإن ذلك سيؤثر على جاهزيتنا للمهام"، وأضاف: "هناك عدة طرق لتحسين الكفاءة، لكن هذه ليست من بينها".