خطة اقتراض بـ900 مليار يورو.. رهان ميرتس لإعادة تشكيل ألمانيا يواجه عقدة الخضر

برلين تراهن على رفع الإنفاق الدفاعي في وجه الانسحاب الأميركي والتوتر مع روسيا

time reading iconدقائق القراءة - 13
مرشح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي لمنصب المستشار الألماني فريدريش ميرتس يتحدث خلال تجمع انتخابي في أوبرهاوزن. 21 فبراير 2025 - REUTERS
مرشح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي لمنصب المستشار الألماني فريدريش ميرتس يتحدث خلال تجمع انتخابي في أوبرهاوزن. 21 فبراير 2025 - REUTERS
برلين-الشرق

في ليلة 23 فبراير الماضي، وبينما كانت أصوات الانتخابات تُعد وتُحصى، قضى فريدريش ميرتس، المستشار الألماني المحتمل عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، بِضعاً من أصعب الساعات في حياته السياسية؛ فالسيناريو الذي بدا كابوسياً كان على وشك أن يتحقق؛ وهو أن حزبه لن يستطيع تشكيل حكومة إلا بائتلاف ثلاثي مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) وحزب الخضر (Grüne).

لم تهدأ مخاوف ميرتس إلا في ساعة متأخرة من الليل، بعد أن استطاع حزب (SPD) وبشق النفس الحصول على أصوات كافية لتشكيل +50%، ما يعني أنه يمكنه الاستغناء عن "الخضر".

لكن، بعد أسبوعين من إعلان نتائج الانتخابات، أصبح ميرتس بحاجة إلى أصوات "الخضر" أكثر من أي وقت مضى. ففي مفاوضات "جسّ النبض" التي تجري بين الأحزاب المعنية قبل الاتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية، توصل ميرتس مع شركائه في حزب (SPD)، إلى ورقة أولية تنص على تقديم مشروع في البرلمان الألماني يسمح بقروض تصل إلى 900 مليار يورو، يُجدّد من خلالها البنية التحتية، ويُعاد تجهيز الجيش؛ وربما إنشاء صندوقي أصول خاصة لهذا الغرض.

ويمثل مبلغ 900 مليار يورو مكسباً هائلاً لميرتس؛ إذ باستطاعته أن يدون اسمه في التاريخ، كما قالت صحيفة "تسايت" الألمانية، بصفته المستشار الذي دفع بالبلاد قدماً في مفصل تاريخي حاسم، تماماً كما فعل المستشار هيلموت كول بعد سقوط جدار برلين.

وتأتي هذه الخطوة، على الرغم من أن حزب الاتحاد المسيحي رفض فكرة المزيد من الديون خلال حملته الانتخابية، بل ورفع شكوى ناجحة أمام المحكمة الدستورية ضد حكومة المستشار الحالي أولاف شولتز الذي ينتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، في بداية ولايته، عندما أراد اعتماد قروض مسبقة، ولولا تلك الشكوى، والصعوبات المالية المزمنة التي واجهها فيما بعد، لكان شولتز ربما لا يزال مستشاراً.

ويرى الباحث والصحفي الاقتصادي مارك شيريترس، أن "التجارب السابقة في عهد شولتز في التحايل على القيود الدستورية التي تحد من الاقتراض، نجحت إلى حد كبير، وأدت إلى زيادة في الإنفاق"، مضيفاً لـ"الشرق": "إذا حصل ميرتس على أغلبية الثلثين اللازمة فسنشهد تغييراً جذرياً في النظام المالي".

وعلى عكس شولتز الذي فشل في تمرير مشروع القروض في البرلمان، يملك ميرتس سبيلاً قانونياً آمناً للحصول على موافقة البرلمان على هذه القروض. فرغم أنه بعد الانتخابات، لا تمتلك أحزاب الاتحاد المسيحي، والاشتراكي الديمقراطي والخضر في البرلمان الجديد أغلبية الثلثين اللازمة لتعديل الدستور، وتثبيت صندوق الأصول الخاصة فيه، إلا أنه في البرلمان الحالي لا تزال هذه الأغلبية قائمة.

والبرلمان الحالي لديه كامل الصلاحية في إصدار القرارات إلى أن يعقد البرلمان الجديد جلسته التأسيسية. ويبدو أن ميرتس يرى أن استغلال هذه الأغلبية المتاحة سياسياً، كسبيل أجدى من الدخول في نقاشات تستمر أشهراً بشأن إصلاح قانون كبح الديون، لكن المشكلة أن حزب الخضر أعلن معارضته حتى الآن لهذا المشروع، وهكذا يواجه ائتلاف حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي احتمال انهياره قبل أن يتبلور أصلاً.

ومن دون إيجاد سبيل لتجاوز قانون "كبح الديون"، لن يتمكن الحزبان اللذان يحاولان تشكيل الائتلاف الحكومي القادم بدون حزب الخضر، الوفاء بوعودهما الانتخابية المتعلقة بالمعاشات التقاعدية، وأسعار الطاقة والضرائب، فضلاً عن القدرة على الدفاع عن الدولة، في وقتٍ تُقلص فيه أميركا دورها في حماية القارة الأوروبية.

كيف أوصل ميرتس نفسه إلى هذه النقطة؟

وفي كتابها الذي حمل عنوان "الذي لا يُقهر" Der Unbeugsame، وتناولت فيه السيرة غير الرسمية لميرتس، تصف المؤلفة يوتا فالكه-إشنجر، ميرتس بأنه "حسّاس وسريع الانفعال، لا سيما حينما يشعر بأنه تعرض للظلم"، لكنه على الجانب الآخر "حاسم وموثوق"، فهو "يستمع للجميع بانفتاح، وعندما يقول شيئاً، ينفّذه".

وقال يوهانس هيليه، الذي يعمل مستشاراً سياسياً في برلين وبروكسل، لـ"الشرق"، إن "ميرتس يريد أن يقدم نفسه بوصفه حلّال المشاكل"، وفحوى الرسالة التي يقدمها هو أن بينما يكتفي الآخرون "بالكلام، يقود حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي زمام الأفعال".

ولهذا السبب، يبدو أن ميرتس راهن بالأوراق كلها التي بين يديه، وطرح مشروع قرض الـ900 مليار لإعادة ألمانيا إلى "مسارها الصحيح".

وسبق أن أظهر ميرتس ميله إلى المغامرة، حين طرح خطة مثيرة للجدل لإغلاق الحدود في وجه المهاجرين في البرلمان بدعم من أصوات حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) اليمني المتطرف، الأمر الذي يُعده الساسة الألمان خطاً أحمراً لا ينبغي تجاوزه تحت أي ظرف كان.

لكن مبلغ الـ900 مليار يورو، الذي سيُستخدم لتحديث البلاد بصورة جذرية خلال السنوات المقبلة، ضخم للغاية، إذ يعادل تقريباً ضعف حجم الموازنة الفيدرالية بأكملها، ولا توجد في الموازنة الحالية أية أموال لذلك، بل على العكس، فالإيرادات لا تكفي حتى لتغطية النفقات المخطط لها.

عقدة الخضر

ينوي ميرتس عقد اجتماعات مكثفة خلال الأيام القليلة المقبلة مع الخضر الذي يطالب بأن يكون جزءاً من هذه الاستثمارات في "البنية التحتية المناخية"، والمزيد من محطات شحن السيارات الكهربائية، هذا فضلاً عن دعم البحوث في تكنولوجيا الهيدروجين.

ومن المقرر أن يتم مناقشة المقترح في البرلمان، الخميس المقبل. وتحاول الأطراف التوصل إلى اتفاق قبل ذلك التاريخ. ومع ذلك، فإن إحالة الاقتراح إلى اللجان البرلمانية لمناقشته لا يتطلب سوى أغلبية بسيطة، وهي متاحة لحزب الاتحاد المسيحي والاشتراكي الديمقراطي حتى من دون الخضر، أما إقرار التعديل الدستوري، فهو يحتاج إلى أغلبية الثلثين، ورغم ضيق الوقت، يبقى لدى ميرتس مهلة أسبوع لإقناع الخضر.

الضغط الزمني ليس المشكلة الوحيدة التي يواجهها ميرتس، فالكثير من المواطنين في ألمانيا ساخطون على الأوضاع الحالية، فالشعور بالتعرّض للظلم، دفع بملايين الناخبين الجدد نحو حزبي "البديل من أجل ألمانيا" (AfD)، واليسار (Die Linke). 

ويدرك حزبا الاتحاد المسيحي والاشتراكي الديمقراطي، أن عودة تيار الوسط إلى قوته، مرهونة بنجاح الائتلاف الحكومي القادم؛ وكذلك الأمر بالنسبة لتعافي الحزب الاشتراكي الديمقراطي من نتائجه الانتخابية الكارثية.

لذلك، تضمّن اتفاق "جسّ النبض" العديد من البنود التي تبدو إيجابية بالنسبة لكل الأحزاب: إذ لن تتم إدارة الهجرة فحسب، بل ستخضع لتقييد صريح، كما سيُعاد النظر في أموال الإعانة الاجتماعية الذي يُسمى "Bürgergeld" (دخل المواطن)، وتُعاد عجلة الاقتصاد إلى الدوران. 

وتضمن الاتفاق المبدئي تخفيض أسعار الغاز والكهرباء، وتأمين المعاشات التقاعدية، وتعزيز حقوق العمال والأطفال والنساء، غير أن أكثر موضوعين شهدا حاجة ملحة إلى التوافق كانا: سياسة الهجرة وسياسة الدولة الاجتماعية، لا سيما ما يخص أموال الإعانة الاجتماعية.

ولكن هل يمكن للإنفاق المتزايد على الدفاع والبنية التحتية أن يؤثر في النمو والتضخم في ألمانيا على المدى المتوسط؟ يرى الباحث الاقتصادي شيريترس لـ"الشرق"، أن زيادة الإنفاق الحكومي "يؤدي إلى مزيد من النمو والتضخم على المدى القصير".

وقدر معهد الاقتصاد الألماني (IW)، أنه بحلول عام 2029 سترفع النفقات الإضافية على البنية التحتية، الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بمقدار 0.7 نقطة، وتزيد مستوى الأسعار بمقدار 0.4 نقطة. 

ويرى شيريترس، أن "الوضع أكثر تعقيداً فيما يخص الدفاع، لأن جزءاً كبيراً من المعدات من المتوقع استيرادها (وهو ما يخفض الناتج المحلي الإجمالي حسابياً)"، فيما أشار المعهد، إلى دفعة سلبية قدرها -0.7 بحلول 2029، وزيادة في مستوى الأسعار بمقدار 0.5 نقطة.

ملف الهجرة

نجح ميرتس في فرض موقفه بشأن مدى إمكانية إعادة المهاجرين على الحدود. وجاء في وثيقة اتفاق جسّ النبض أنه سيتم "بالتنسيق مع الجيران الأوروبيين" إعادة من يصلون، حتى وإن طلبوا اللجوء. علماً أن تعبير "بالتنسيق" لا يعني إطلاقاً "بالاتفاق"، وفق ما شدّد المشاركون في المحادثات لاحقاً.

وحتى الآن، ينص الإطار القانوني، على أن تسمح قوات حرس الحدود بدخول أي قادمٍ جديد، حتى يُدقق في حالته قانونياً بشكل تفصيلي، وإذا لزم الأمر يجري ترحيله، أما في المستقبل، فسيتم على ما يبدو إخطار الدول المجاورة مسبقاً بأن ألمانيا سترفض دخول المهاجرين، بغض النظر عن موافقة تلك الدول من عدمه، لكن يبقى أن نرى ما إذا سيُنفذ اتفاق جس النبض بهذه الصرامة فعلاً أم لا، وسط توقعات بأن تثار حوله الكثير من النقاشات.

مع ذلك، سيُصعد حزب "البديل"، بحسب ما قاله هيليه لـ"الشرق"، خطابه "ويزيد تطرفه إذا ما نفذ الاتحاد الديمقراطي المسيحي إجراءات تقييدية في سياسة الهجرة".

وأضاف هيليه، أنه لا ينبغي أن تكون ردة فعل حزب "البديل" هي "المعيار" بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وعلى الحكومة الجديدة أن "تهتم بدمج المهاجرين الموجودين في ألمانيا، والذين يُسمح لهم بالبقاء هنا"، مشيراً إلى أن تحسين إدارة سياسة الهجرة يعني أيضاً "وجوب استقطاب عدد كبير من العمالة الماهرة من الخارج، إذ تعاني كثير من القطاعات في ألمانيا نقصاً في الكوادر".

وحذر من أن خطاب المحافظين "يجب ألا يشيطن مسألة الهجرة بحد ذاتها؛ لأن ذلك سيلحق الضرر أيضاً بالاقتصاد"، هذا فضلاً عن أن ذلك يندرج ضمن المسؤولية التاريخية والإنسانية لألمانيا أن تمنح الحماية للأشخاص الذين يفرون من الحرب والعنف.

ويريد حزب الاتحاد المسيحي، أن يعود بعجلة "الإعانة الاجتماعية" إلى الوراء، بإرجاعها إلى نظامها السابق الذي كان يسمى "هارتس 4" أو (Hartz IV)، بعد سنتين من تغييره إلى نظام "دخل المواطن" (Bürgergeld)، وكان يُعد مرحلة جديدة في نظام الدعم الاجتماعي، حيث يقدم مزيداً من الدعم المالي، ويلتزم بتسهيل الاندماج في سوق العمل.

والغاية الأساسية منه هي توفير حماية اجتماعية أفضل للفئات الأكثر احتياجاً، مع إعطاء فرصة أكبر لتطوير مهاراتهم وتحسين أوضاعهم المعيشية. بينما تعرض سابقاً نظام "هارتس 4" لانتقادات واسعة بسبب صرامة الشروط، وانخفاض قيمة المساعدات المالية، والضغط الذي كان يُمارس على المستفيدين لقبول وظائف منخفضة الأجر.

الطموح الأوروبي والتقلبات الأميركية

وعلى الصعيد الدولي، لا تملك ألمانيا ترف الاختيار بين الانكفاء أو التوسع؛ فالتحديات الأمنية على حدود القارة الأوروبية، وضرورة دعم دول مثل أوكرانيا، بالإضافة إلى التوتر المستمر مع روسيا، تفرض مقاربة مختلفة للسياسة الخارجية الألمانية.

وزاد الأمر تعقيداً أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تبدو غير مستعدة لتحمّل أعباء الدفاع الأوروبية كما في السابق، بل تلوّح أحياناً برسوم جمركية على واردات الاتحاد الأوروبي، وتعيد طرح الشكوك بشأن مدى قوة التزام واشنطن بحلف "الناتو".

يبدو أن حكومة ميرتس ستراهن على رفع الإنفاق الدفاعي لتوجيه رسالة لواشنطن بأن برلين تأخذ ملف الأمن الأوروبي بجدية. في الوقت ذاته، من المرجح أن تُعزّز الحكومة الألمانية علاقات أوثق مع فرنسا ودول أوروبية أخرى تبحث عن صيغة مستقلة للدفاع، مع إبقاء باب التنسيق مفتوحاً مع الحليف الأميركي تفادياً لأي تصدع كبير عبر الأطلسي.

وتحتاج ألمانيا إلى أن تستعيد تماسكها وبسرعة، فحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، الذي يستغل تراجع الاقتصاد والشعور العام بالركود، حل في المركز الثاني، وحصد 20% من الأصوات، وهو الآن في أقوى حالاته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت نفسه، يُهدد تقارب ترمب مع روسيا وانتقاده لأوروبا، بقلب النظام الدولي ومكانة ألمانيا فيه. وفي مواجهة هذين الاختبارين، يتعيّن على البلاد أن تتجدد وتعيد توجيه مسارها في آنٍ معاً.

وهذه المهمة تتطلب، بحسب ما يراه الكاتب والصحفي الألماني لوكاس هيرمسماير، "زعيماً برؤية جديدة للمستقبل".

وقال هيرمسماير في مقال نشره في صحيفة "نيويورك تايمز"، إن ذلك "لا ينطبق، لسوء الحظ، على ميرتس، فالتزامه بتخفيض الضرائب للأثرياء، وفرض قيود صارمة على المهاجرين، وتقليص المساعدات لمتلقي الإعانة الاجتماعية يجعله شخصية تنتمي إلى الماضي". 

وتابع: "برنامجه عبارة عن محاولة لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، لزمن كانت فيه البلاد تعتمد على الطاقة الرخيصة والصادرات الوفيرة لتدفعها نحو مكانة عالمية". أما اليوم، فألمانيا بحاجة ماسة إلى التغيير، وبدلاً من ذلك، تحظى بميرتس: "رجل الأمس بأفكار الأمس".

تصنيفات

قصص قد تهمك

نستخدم في موقعنا ملف تعريف

نستخدم في موقعنا ملف تعريف الارتباط (كوكيز)، لعدة أسباب، منها تقديم ما يهمك من مواضيع، وكذلك تأمين سلامة الموقع والأمان فيه، منحكم تجربة قريبة على ما اعدتم عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك تحليل طريقة استخدام موقعنا من قبل المستخدمين والقراء.