
بعد ساعات من دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى عزل قاضٍ فيدرالي سعى إلى وقف ترحيل أكثر من 200 مهاجر إلى السلفادور تتهمهم إدار ترمب بأنهم أعضاء في "عصابة فنزويلية"، أصدر رئيس المحكمة العليا، جون روبرتس، بياناً علنياً نادراً، يعارض فيه نهج ترمب، ما يعكس حدة الأزمة بين البيت الأبيض والقضاء، والتي يخشى مراقبون من تحولها إلى أزمة دستورية كاملة، مع سعي إدارة ترمب لتجاوز القضاء لتنفيذ أجندتها السياسية.
وقال رئيس المحكمة العليا في بيانه: "لأكثر من قرنين من الزمان، كان من المسلم به أن العزل ليس استجابة مناسبة للخلاف حول قرار قضائي. هناك آلية الاستئناف لهذا الغرض".
ويرى خبراء قانونيون في الولايات المتحدة، أن البلاد تتجه إلى أزمة دستورية، وقال إروين تشيميرينسكي، عميد كلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا، بيركلي: "نحن نعيش أزمة دستورية في هذه اللحظة، شهدنا خلال أول 18 يوماً من رئاسة ترمب العديد من الإجراءات غير الدستورية وغير القانونية. لم نرَ شيئاً كهذا من قبل"، وفق ما نقلت صحيفة "نيويورك تايمز".
وحتى الآن، لا تزعم إدارة ترمب أن لديها السلطة لتجاهل قرارات القضاء بشكل مباشر، لكنها تبدو وكأنها "تقترب من تبني هذا الطرح"، وفق CNN.
كيف بدأت الأزمة؟
بدأت الأزمة بين ترمب والقضاء مبكراً في رئاسته مع تعليق القضاء لعدد من أوامره التنفيذية، وقرارات إغلاق وكالات حكومية مثل وكالة التنمية USAID، لكن الأزمة وصلت ذروتها حتى الآن بعد نزاع بين الإدارة ومحكمة واشنطن الفيدرالية.
وجاء بيان روبرتس، بعدما وصف ترمب القاضي الفيدرالي في واشنطن، جيمس إي. بوسبيرج، بأنه "مجنون يساري متطرف" في منشور على "تروث سوشيال"، مطالباً بعزله، بعد أن أصدر السبت، أمراً للإدارة بإعادة الطائرات التي كانت تقل مهاجرين، قالت إدارة ترمب إنهم أعضاء في "عصابة فنزويلية" تحمل اسم "تريد دي أراجوا"، إلى الولايات المتحدة أثناء دراسته لمدى قانونية ترحيلهم.
وتحدت إدارة ترمب أمر القاضي، إذ لم ترسل الطائرات عائدة إلى الولايات المتحدة، وأرسلت طائرة ثالثة إلى السلفادور.
وقال ستيفن ميلر، المستشار في البيت الأبيض، في مقابلة على شبكة CNN الاثنين، "لا يمكن لقاضٍ في محكمة فيدرالية أن يمنع ترحيل إرهابيين أجانب إلى أراضٍ أجنبية أكثر مما يمكنه أن يوجه حركة طائرة (إير فورس ون) الرئاسية".
ونشر رئيس السلفادور، نجيب بوكيلة، منشور على منصة "إكس"، بدا فيها أنه يسخر من أمر القاضي بعد وصول الطائرات إلى أراضيه، إذا قال: "أوه.. تأخرت كثيراً"، مع وجه ضاحك وصورة لخبر يفيد بقرار القاضي بإعادة الطائرات.
ونشر بوكيله والبيت الأبيض مقطع فيديو يُظهر المُرحَّلين أثناء اقتيادهم إلى السجن في السلفادور، حيث سيتم احتجازهم لمدة عام. ويظهر المحتجزين وهم يُجبرون على حلاقة رؤوسهم، ووجوههم بالكامل قبل دخول السجن.
بدورها، رفضت إدارة ترمب الاثنين، الاستجابة لطلب القاضي بالحصول على إجابات بشأن ما إذا كانت الحكومة قد انتهكت أمره بترحيل أكثر من 200 شخص، من بينهم أفراد حددتهم السلطات على أنهم أعضاء في عصابة إجرامية فنزويلية، بالمخالفة لأوامره.
وصعد الجدل في محكمة المقاطعة الفيدرالية في واشنطن، النزاع بين البيت الأبيض والسلطة القضائية، خاصة بعد أن رفض محامٍ بوزارة العدل، الرد على أي أسئلة تفصيلية بشأن رحلات الترحيل إلى السلفادور، بحجة أن ترمب يتمتع بسلطة واسعة لترحيل المهاجرين من الولايات المتحدة مع القليل من الإجراءات القانونية الواجبة أو بدونها، مستنداً إلى القانون الغامض الذي يعرف باسم قانون الأعداء الأجانب لعام 1798.
مواجهة في المحكمة
وخلال جلسة المحكمة، قال القاضي بوسبيرج، إنه لا يعتزم البتّ في مسألة ما إذا كانت إدارة ترمب على حق في قرارها ترحيل المهاجرين بموجب قانون "الأعداء الأجانب"، والذي يمنح الحكومة صلاحيات واسعة لترحيل غير المواطنين بشكل فوري خلال أوقات الحرب، أو في حال وقوع غزو لأراضي الولايات المتحدة.
لكن في هذه المرحلة، كان القاضي مهتماً بمسألة أضيق نطاقاً، إذ أراد تحديد توقيت رحلات الترحيل إلى السلفادور لمعرفة ما إذا كانت قد انتهكت حكمه القضائي.
إلا أن محامي وزارة العدل أبهيشيك كامبلي رفض مراراً الإدلاء بأي تفاصيل حول الرحلات، مستشهداً بـ"الأمن القومي"، وأعاد التأكيد على موقف الحكومة بأنها لم تفعل شيئاً ينتهك أمر القاضي.
وقبل بدء الجلسة، حاول مسؤولو وزارة العدل إلغائها، وبعثوا برسالة إلى القاضي في وقت متأخر من بعد الظهر، لإبلاغه بعدم جدوى انعقاد المحكمة؛ لأنهم لا ينوون تقديم أي معلومات إضافية بشأن رحلات الترحيل.
كما أرسلت الوزارة خطاباً إلى محكمة الاستئناف الفيدرالية التي تشرف على القاضي بوسبيرج، مطالبة بإبعاده تماماً عن القضية، متهمة إياه باتباع "إجراءات غير عادية وغير سليمة" في التعامل مع الملف.
قيصر الحدود: لا يهمنا القضاء
وصعد توم هومان، الذي يُعرف بـ"قيصر الحدود" في إدارة ترمب، الجدل خلال مقابلة تلفزيونية، إذ قال إن الإدارة "ستواصل عمليات الترحيل رغم أوامر المحكمة".
وقال هومان خلال ظهوره على Fox News: "لن نتوقف. لا يهمني ما يعتقده القضاة – لا يهمني ما يعتقده اليسار. نحن قادمون".
سلطات الرئيس في مواجهة المحاكم
وتحولت القضية إلى نقطة اشتعال في الجدل الأكبر حول سلطات الرئيس ودور المحاكم في مراجعة قرارات السلطة التنفيذية.
ولم يتخذ بيان رئيس المحكمة العليا موقفاً مباشراً من هذا الجدل، رغم أنه كان قد تبنى سابقاً وجهة نظر واسعة لسلطات الرئيس، لا سيما في حكمه الصادر في يوليو الماضي، والذي منح ترمب حصانة كبيرة من الملاحقة القضائية.
لكن بيانه الأخير ركز على نقطة قانونية محدودة، إذ أكد أن الاستجابة الصحيحة لحكم لا يتفق معه أحد الأطراف هي "تقديم استئناف، وليس المطالبة بالعزل".
هل يمكن لترمب عزل القضاة؟
وقالت "نيويورك تايمز"، إنه من بين ثمانية قضاة فيدراليين فقط تمت إقالتهم في تاريخ الولايات المتحدة، كانت معظم الحالات بسبب سلوك إجرامي أو شخصي جسيم، وليس بسبب قراراتهم القضائية.
ويحتاج مجلس النواب إلى أغلبية بسيطة للتصويت على عزل أي قاضٍ أو مسؤول حكومي، لكن إدانته في مجلس الشيوخ تتطلب أغلبية الثلثين، مما يعني أن الجمهوريين سيحتاجون إلى دعم كبير من الديمقراطيين.
وبذلك، فإن الحديث عن العزل يبدو استعراضاً سياسياً أكثر من كونه تهديداً حقيقياً، وفق "نيويورك تايمز".
ومع ذلك، أعلن النائب براندون جيل، الجمهوري من ولاية تكساس، الثلاثاء، أنه تقدم رسمياً بمذكرة لعزل القاضي بوسبيرج، متهماً إياه بارتكاب "جرائم وجنح جسيمة".
انتقادات سابقة
رغم أن بيان روبرتس الأخير، يعد بياناً نادراً، إلا أنه ليس الأول لرئيس المحكمة العليا الذي تولى منصبه منذ 2005، إذ سبق أن أصدر بيانات مماثلة للدفاع عن استقلالية القضاء.
ففي عام 2018، انتقد روبرتس الرئيس ترمب بعدما وصف أحد القضاة الذين أصدروا قراراً ضد سياساته الخاصة باللجوء بأنه "قاضٍ تابع لأوباما"، مؤكداً أن "القضاء الأميركي ليس قضاءً تابعاً لأوباما أو ترمب أو بوش أو كلينتون، بل يتكون من مجموعة استثنائية من القضاة الذين يؤدون واجبهم بنزاهة".
وفي عام 2020، انتقد روبرتس زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، بسبب تصريحات قوية هاجم فيها القاضيين بالمحكمة العليا نيل جورستش وبريت كافانو، قائلاً إن تصريحاته كانت "غير لائقة وخطيرة".
وفي مقابلة مع Fox News الثلاثاء، سُئل ترمب عن بيان رئيس المحكمة العليا، فرد قائلاً: "حسناً، لم يذكر اسمي في البيان. لقد قرأته بسرعة، لكنه لم يذكر اسمي".
وأضاف أنه لن يتحدى قرار المحكمة، لكنه أصر على أن هناك "قضاة سيئين لا ينبغي السماح لهم بالبقاء في مناصبهم".