
صيف عام 1990، بلغت الحرارة مستوى غير اعتيادي في الخليج العربي بتجاوزها 52 درجة مئوية. ما كان غير اعتيادي وزاد لهيب ذلك الصيف، هو اجتياز جحافل القوات العراقية نقطة العبدلي الحدودية بين الكويت والعراق.
في تلك الأثناء، كان وزير خارجية الكويت الدبلوماسي المتمرس حينها صباح الأحمد الصباح يجوب دول العالم لإنقاذ بلاده. نجح الوزير الذي كان قد قضى 27 عاماً على رأس خارجية بلاده حتى تلك الأزمة في الحصول على تأييد معظم دول العالم.
لكن على بعد 4000 آلاف كيلومتر عن المنطقة الملتهبة، وتحديداً موسكو، حقق الشيخ صباح إنجازه الأهم في الأزمة، إذ حصل على دعم الاتحاد السوفييتي الذي كان حليفاً تقليدياً وقوياً لعراق صدام حسين. أسهم التأييد السوفييتي للكويت بمرور القرارات المتعلقة بالأزمة في مجلس الأمن من دون استخدام حق النقض، وهي القرارات التي ساعدت في تحرير الكويت إثر تشكيل تحالف عسكري من 33 دولة.
الدبلوماسية
مواقف مفصلية عدة شهدها الشيخ صباح الأحمد خلال فترة توليه وزارة الخارجية، والتي بدأت عام 1963 وامتدت نحو 40 عاماً. أحد المواقف التي حفظها الشيخ صباح جيداً، وتحدث عنها لاحقاً في أكثر من مقابلة صحافية، هي لحظة فارقة في تاريخ الكويت الحديث، لحظة إعلان استقلالها. لم يمر هذا الحدث التاريخي من دون وضع الشيخ صباح بصمته عليه.
في 14 مايو عام 1963، كان الشاب ذو الـ 34 عاماً ينتظر في مبنى الأمم المتحدة، الواقع على الضفة الشرقية لنهر هدسون في نيويورك، تتويج جهود الاستقلال. ثم جاء الخبر بوافقتة الأمم المتحدة على طلب انضمام الكويت إليها.
خاطب رئيس الوفد الكويتي الشيخ صباح الأحمد الجمعية العامة للأمم المتحدة قائلاً إن "انتماء الكويت إلى النشاط الدولي يدل بوضوح على أن الاستقلال والعضوية في الأمم المتحدة ليسا نهاية بحد ذاتها، بل هما وسيلتان للمشاركة في المسؤولية لتحقيق حياة أفضل لشعبها وشعوب دول العالم". ثم سجلت صورة رفع الشيخ صباح علم بلاده أمام مبنى الأمم المتحدة.
أدوار الشيخ صباح، وهو وزير لخارجية بلاده، تعدت حدودها إذ لعب وساطات لا تنتهي في أعقد الأزمات العربية والإقليمية. في عهده وزيراً للخارجية، توسطت الكويت بين مصر والسعودية عام 1965 لحل الصراع العسكري بين الدولتين في اليمن. وتدين البحرين أيضاً له بوساطة أجراها مع إيران، بعد مطالبة الأخيرة بضم البحرين عام 1968، لكن الوساطة نجحت وانتهت باستقلال البحرين بعد استفتاء شعبي.
توسطت الكويت أيضاً بين الأردن والفصائل الفلسطينية في أحداث "أيلول الأسود" عام 1970، وبين اليمن الشمالي والجنوبي في أكثر من مناسبة، وبين السعودية وليبيا في 1982. كما قادت الكويت أكثر من وساطة بين العراق وإيران لإيقاف الحرب التي اندلعت بينهما بين عامي 1980 و1988. هذه الجهود والوساطات جعلت الشيخ صباح يحصل على لقب عميد الدبلوماسية الكويتية والعربية.
الإعلام
لم تكن الخارجية أول حقيبة وزارية يتولاها الشيخ صباح الأحمد، إذ شغل منصب أول وزير إعلام في بلاده عام 1962. كانت الكويت حينها قد دخلت مرحلتها الذهبية التي سميت بسببها "لؤلؤة الخليج". في ذلك العصر الذهبي شكلت الكويت إحدى منارات الثقافة في المنطقة، وتولت وزارة الإعلام فيها الدور الأبرز في دعم الفنون والثقافة، فتأسست المجلات والمسارح والفرق الفنية والموسيقية ومبادرات النشر والترجمة، وأُنتجت البرامج والمسلسلات التلفزيونية والإذاعية.
دور الشيخ الصباح في المجال الإعلامي والثقافي بدأ قبل توليه أول وزارة إعلام في البلاد وتأسيسها. ففي عام 1957، أضيفت إلى مهامه من بين مهام رسمية عدة رئاسة "دائرة المطبوعات والنشر"، وخلالها أصدرت الدائرة الجريدة الرسمية للبلاد تحت اسم "الكويت اليوم"، إضافة إلى تأسيسه أول مطبعة حكومية.
ومن إنجازاته في "دائرة المطبوعات"، إصدار أشهر مطبوعة عربية ثقافية في الوطن العربي، التي جمعت العرب على اختلاف أقطارهم، وهي مجلة "العربي". انطلقت المجلة بتوجيهات مباشرة منه واستقدم لرئاسة تحريرها المفكر المصري د. أحمد زكي. في ديسمبر عام 1958، صدر العدد الأول من المجلة بتصدير كتبه الشيخ صباح، وصف فيه هذه المجلة بـ"هدية الكويت للعرب".
رئاسة الوزراء
في عام 2003، أنهى الشيخ صباح الأحمد مسيرته الطويلة في الخارجية. غادر مكتبه المليء بالذكريات في مقر الوزارة الذي يطل على البحر في قلب مدينة الكويت التاريخي، والذي يحاذي مسجد الدولة الكبير ويجاور الديوان الأميري وبيوت آل الصباح التاريخية. غادر عميد دبلوماسية بلاده مكتبه الذي دخله شاباً في الثلاثينات من عمره، وتركه وهو يبلغ 74 عاماً.
لم يذهب الشيخ صباح الأحمد بعيداً من مكتبه العزيز، بصدور مرسوم أميري في 13 يوليو 2003 يسند إليه رئاسة الوزراء.
فصل جديد في تاريخ البلاد كتبه تولي الشيخ صباح رئاسة الحكومة. قبل هذا التاريخ، جرى العرف في الكويت، منذ إقرار دستورها عام 1962، على تولي ولي العهد رئاسة الوزراء، لكن بسبب مرض ولي العهد حينذاك، الشيخ سعد العبد الله الصباح، اعتذر عن تشكيل الوزارة. استدعى الاعتذار، للمرة الأولى في تاريخ دولة الكويت، الفصل بين منصبي ولاية العهد ورئاسة الحكومة التي تولاها الشيخ صباح الأحمد الصباح، واستمر هذا الفصل قائماً حتى يومنا الحالي.
عرف عن الشيخ صباح الأحمد انحيازه إلى حقوق المرأة. على الرغم من بعض المعارضة، إذ أقر خلال رئاسته للحكومة، قانون حقوق المرأة السياسية ونجح بتمريره في مجلس الأمة في مايو 2005، وسرعان ما أسند أول وزارة إلى امرأة كويتية. بعدها، شاركت نساء الكويت للمرة الأولى في التاريخ في انتخاب أعضاء مجلس الأمة وترشح عدد منهن في الانتخابات التي أجريت في يونيو 2006.
الإمارة
في 15 يناير 2006، كان رئيس الوزراء الشيخ صباح الأحمد الصباح في زيارة إلى سلطنة عمان. عند ساعات الظهيرة، قطع التلفزيون الرسمي الكويتي بثه ووضع آيات من القرآن الكريم. في تلك الأثناء، كان الشيخ صباح ينتظر إقلاع طائرته من مدرج مطار مسقط الدولي، بعد أن قطع الزيارة فور سماعه نبأ وفاة أمير الكويت، أخيه غير الشقيق، الشيخ جابر الأحمد الصباح.
بعد 9 أيام من وفاة الشيخ جابر، صوّت مجلس الأمة على نقل صلاحيات الحكم إلى مجلس الوزراء برئاسة الشيخ صباح الأحمد، بسبب مرض ولي العهد الشيخ سعد العبد الله الذي كان قد تولّى الحكم، بحسب النص الدستوري. وما لبث مجلس الوزراء أن اجتمع واتخذ قراراً بالإجماع بتزكية الشيخ صباح الأحمد أميراً للبلاد وفقاً لأحكام الدستور.
خلال فترة إمارته، أعاد الشيخ صباح عجلة التنمية والتطوير في البلاد، بعد تأثرها بالغزو العراقي عام 1990. عادت الكويت لتشهد مشاريع ضخمة في البنى التحتية التي كانت رائدة فيها خلال عصرها الذهبي في الستينات والسبعينات.
سارت مشاريع تحديث البلاد بوتيرة سريعة، وأبرزها "جسر جابر الأحمد الصباح"، الذي يعد رابع أطول جسر بحري في العالم، ويربط مناطق عدة حيوية في البلاد بعضها ببعض، إضافة إلى "مدينة صباح الأحمد البحرية".
لم يخلع الشيخ صباح عباءة الدبلوماسية حتى بعد توليه الإمارة، فأعاد إلى الكويت سمعتها كوسيط إقليمي ودولي يحظى بقبول الأطراف في النزاعات المختلفة. توسطت الكويت في الحرب اليمنية التي اندلعت منذ دخول الحوثيين العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، كما لعب أمير الكويت دور الوساطة في الأزمة الخليجية، بين السعودية والإمارات ومصر والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى.
في عهده، فتحت الكويت صفحة جديدة مع العراق، واضعة خلفها تاريخاً مريراً من العلاقات بين البلدين. لم يقبل الأمير أن يترك الجار وحيداً في أزمته التي خلفتها سيطرة تنظيم داعش على مساحات واسعة منه، فدعامطلع عام 2018 إلى مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق، الذي وصلت تعهدات الدول المانحة فيه إلى 30 مليار دولار أميركي.
وفي عهده أيضاً، اختيرت الكويت في 9 سبتمبر 2014 "مركزاً للعمل الإنساني" وسُمي الشيخ صباح الأحمد "قائداً للعمل الإنساني"، وذلك في حفل أقامته منظمة الأمم المتحدة. حاز الشيخ صباح أوسمة وجوائز رفيعة عدة، آخرها وسام الاستحقاق العسكري الأميركي بدرجة القائد العام، وذلك لدوره في حل النزاعات وتجاوز الانقسامات في الشرق الأوسط. ويعد هذا الوسام مرموقاً للغاية في السياسة الأميركية، ونادراً ما يتم منحه، ولا يكون ذلك إلا من قبل الرئيس الأميركي، ومُنح آخر مرة عام 1991 قبل منحه للشيخ صباح قبل وفاته بـ 11 يوماً.
بينما يودع الكويتيون والعرب الأمير الراحل، ويستعد ولي عهده الشيخ نواف الأحمد الجابر لأداء القسم، تبقى مواقف الشيخ صباح وإسهاماته في الكثير من القضايا العربية شاهدة على مسيرة رجل قضى 65 عاماً في الخدمة العامة.