"كورونا" يطيح بأحلام أوروبا في "الاستقلالية العسكرية"

time reading iconدقائق القراءة - 13
جانب من تدريبات عسكرية ضمن عمليات لحلف شمال الأطلسي في جنوب ألمانيا  - AFP
جانب من تدريبات عسكرية ضمن عمليات لحلف شمال الأطلسي في جنوب ألمانيا - AFP
دبي-

حلّ فيروس كورونا ضيفاً ثقيلاً على أوروبا، فقلب رأساً على عقب الكثير من الخطط، وضرب عرض الحائط بعدد من الأولويات ضمن سياسات الاتحاد الأوروبي. ولعل الضحية الأكبر لذلك كانت الجهود الأوروبية لبناء قوة عسكرية ذات صدقيّة واستقلالية.

على مدى سنوات، وخصوصاً منذ أن تبَوّأ الرئيس ترامب سدة الرئاسة وبدأ يجاهر بشكوكه حيال حلف شمال الأطلسي والتحالفات الأوروبية والالتزامات متعددة الأطراف، سعى قادة أوروبيون مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باتجاه ما جرت تسميته بـ"الاستقلالية الاستراتيجية"، أي القدرة على الدفاع عن أوروبا، والتحرك في محيطها من دون التعويل بشكل كبير على الولايات المتحدة.

 وقبل أن يضرب الفيروس بقوة، على الرغم من الدعوات وتعالي الأصوات بشأن الخطر الذي تواجهه الكتلة نتيجة التكنولوجيات الجديدة وعدائية الصين وروسيا، قامت المفوضية الأوروبية بخفض الإنفاق العسكري الأوروبي المتوقع في موازنة السنوات السبع المقبلة.

معركة أخرى..

وبعدما تصدّع الاقتصاد نتيجة الوباء، من المتوقع أن تكون معركة الموازنة أكثر شراسة، على أن تكون الأولوية للتعافي وفرص العمل. ويُرجّح أن تتابع بروكسيل التركيز على الاستثمار في "صفقة خضراء" أوروبية من أجل إدارة أزمة المناخ، في ظل توقعات بأن يفقد الإنفاق العسكري زخمه، فتتهاوى الأصوات التي كانت تدعو أوروبا إلى الجسارة والتعويل على النفس. والحال ذاتها بالنسبة إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي قالت بعد انتخاب ترامب: "علينا كأوروبيين أن نمسك بزمام الأمور"، وأيضاً الرئيس الفرنسي  إيمانويل ماكرون الذي دعا في شهر فبراير مجدداً إلى "تعزيز قوة الدفاع الأوروبية". 

خلال الأسبوع المنصرم، قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل فونتيليز إن فيروس كورونا "سيعزز الحاجة إلى جهاز أمني أوروبي ودفاعي أكثر قوة، وإلى أوروبا أكثر قوة في العالم". ودعا إلى الحصول على مزيد من التمويل، قائلاً "إن الجائحة تمثل تهديداً جديداً وستسيء إلى البيئة الأمنية". 

وعلى الرغم من تعالي الأصوات، فمن المستبعد تغيير المنحى المتواضع باتجاه زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي. فالحكومات الأوروبية تعاني الأمرّين في شأن حجم موازنة الاتحاد، خاصة بعد الثغرة التي سببها خروج المملكة المتحدة منه. وكان ذلك قبل أن يضيف الفيروس عناصر جديدة من الشك والعجز الضريبي الشديد. أما الفوضى والمحورية الأميركية في التعامل مع الفيروس، فقد أشعرتا الأوروبيين بأنهم على درجة أكبر من الاستضعاف.

مسمار في نعش الثقة 

يقول المشرّع الأوروبي ووزير الدفاع البولندي السابق  رادوسلاف سيكورسكي إن "الجائحة شكّلت مسماراً إضافياً في نعش الثقة الأوروبية بالولايات المتحدة. وإذا كانت هذه الأزمة عززت زخم فكرة الاستقلالية الأوروبية، فإن مسألة التمويل أدت إلى تجميدها".

أما  القائد السابق للقوات الأميركية المسلحة في أوروبا، الجنرال بن هودجز، فكان موقفه صريحاً، إذ قال: "إذا لم يكن التمويل موجوداً، فإن هذا سيقضي على الجدية".

قبل سنتين، استحدث الأوروبيون بطبل وزمر برنامجين أساسيين، أولهما برنامج للمشتريات العسكرية المشتركة والاستثمار في المشاريع، معروف باسم "Pesco"، وهو برنامج مموّل من الدول المشاركة. وثانيهما صندوق الدفاع الأوروبي لتعزيز البحوث والتنمية العسكرية، وهو مموّل من موازنة الاتحاد الجديدة للسنوات السبع المقبلة، وتصل كلفته إلى 13 مليار يورو، ما يُعادل 1.86 مليار في السنة.

شكّل مشروع "Pesco" بداية متواضعة، ولكن الصندوق شكّل تقدماً مهماً لكونه مموّلاً من الموازنة المشتركة. ومن المقترحات الأساسية الأخرى بالاتفاق مع منظمة حلف شمال الأطلسي مبادرة حركية بقيمة 6.5 مليار يورو لتيسير حركة الأسلحة الثقيلة، مثل المدفعية والدبابات عبر أوروبا في حال نشوب أزمة مع روسيا. 

تجدر الإشارة إلى أنه بعد اندلاع الحروب الروسية على جورجيا وأوكرانيا وضم روسيا شبه جزيرة القرم وتنامي الضغط العسكري الروسي على دول البلطيق، ما عادت فكرة النزاع المسلّح مع موسكو أو وكلائها تبدو غريبة. علماً أن منظمة حلف شمال الأطلسي عززت قوة الردع، من خلال القوات المرابطة على طول الحدود مع روسيا، ولكن الحلف كان بحاجة إلى سبل ذات مصداقية لتعزيزها.

حائط مسدود

مفاوضات الاتحاد الأوروبي في حقبة ما قبل الفيروس، بشأن موازنة السنوات السبع المقبلة، كانت أكثر مشاحنة من العادة، نتيجة الثغرة التي أوجدها خروج المملكة المتحدة، لذا اصطدم الإنفاق العسكري بحائط مسدود. وخفضت المفوضية الأوروبية صندوق الدفاع بنسبة تزيد على النصف وصولاً إلى 6 مليارات دولار. وتراجع التمويل المقترح للعمليات العسكرية من 6.5 مليار دولار إلى 2.5 مليار دولار، وصولاً إلى 1.5 مليار دولار، فصفر دولار بحسب الطرح الأخير.

وبدأ الأوروبيون اليوم يتجادلون حول طريقة ضم صندوق التعافي من الفيروس إلى الخطة، وهم لا يكادون يأتون على ذكر ملف الدفاع.

يحذَّر بعض المحللين مثل كلوديا ماجور من "المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية" من أن ميزانية المفاوضات لم تستنزف بعد. وبالنظر إلى الجائحة، قد تقرر بروكسيل وضع موازنة لسنة أو سنتين، مرجِئة إلى موعد لاحق مسألة اتخاذ القرارات الحاسمة.

الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، حذّر من أن "أزمة الأشهر الستة الماضية لم تختفِ بعد". وقال في لقاء صحافي إن "الفيروس يزيد الطين بلّة، فنحن نواجه مطبات عديدة، منها مشاكل مع روسيا والصين والأمن السيبراني والإرهاب والحروب الأهلية في ليبيا وسوريا".

وأشار إلى أنه "خلال السنتين المنصرمتين فقط، بنت الصين 80 سفينة وغوّاصة جديدة، وتستثمر موسكو وبكين في قنابل جديدة وفي الطاقة النووية والطائرات من دون طيّار والأسلحة ذاتية التشغيل والذكاء الاصطناعي".

ستولتنبرغ أكد وجود معضلة التمويل، ولكنه أصر على أن القوات العسكرية التابعة لحلف شمال الأطلسي "برهنت عن عجز خلال الجائحة"، وعلى أن "الاستثمار في الدفاع قد يكون محرّكاً قوياً لتعافي الاقتصاد".

إشكالية التمويل

كان من البديهي بحسب ستولتنبرغ، أن "الاتحاد الأوروبي لا يستطيع الدفاع عن أوروبا" من دون الولايات المتحدة. من هنا، يعرب القائد الأطلسي عن أمله في أن تعمل أوروبا بشكل مكثف على ملف الدفاع، إلا أنه يؤكد أنها "لا تستطيع أن تحل محل الناتو".

أما هودجز الذي يعمل مع المركز الأوروبي لتحليل السياسة الأوروبية، فاعتبر أن "أي قائد أوروبي يتحدث عن الاستقلالية الاستراتيجية وعن جيش أوروبي، من دون أن يأتي بيورو واحد لدعم القدرة الحركية، لن يؤخذ كلامه على محمل الجد في الولايات المتحدة وكذلك وسط خصومها".

وتقول خبيرة شؤون الدفاع السويدي لدى الحلف الأطلسي، آنا فيسلاندر، إن "مشكلة التمويل تقضي على آمال أوروبا في تحقيق الاستقلالية". وتشير إلى أنه "بالنظر إلى طريقة التعامل مع ميزانية الاتحاد الأوروبي في شأن الدفاع قبل فيروس كورونا، لاسيما ما يخص الحركيّة العسكرية، وهو أكثر المشاريع أهمية، يُمكننا أن نقول إن هذا الحلم الساذج سيبقى خلفنا".

وتؤكد فيسلاندر أن "المخاطر المحدقة بأوروبا تصاعدت نتيجة ضعف القيادة الأميركية، والمشاحنات بين الولايات المتحدة والصين في شأن الفيروس"، لافتة إلى أن "هذا دليل على ضرورة أن تتحرك أوروبا بسرعة أكبر. وبالتالي، يجب أن يصبح الركن الأوروبي في حلف شمال الأطلسي أكثر قوة وأكثر وضوحاً".

أما نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق، جيم تاونسند، فرأى "مشاحنات إضافية" في أوساط الحلف، وقال: "سيصعب على الحكومات الأوروبية مثل حكومة إيطاليا أن تقول يجب تخصيص مبالغ أكبر للدفاع، وصولاً إلى نسبة 2% من إجمالي الناتج المحلي، عملاً بتوجيهات الحلف التي تشكّل هاجساً بالنسبة إلى ترامب".

بين الواقعي والنظري  

إن تراجع الإنفاق العسكري الأوروبي سيعقّد العلاقات مع واشنطن التي تواجه ضغوطاً خاصة بها، بصرف النظر عن هوية الرئيس المقبل. بحسب ما يقول ديريك شولي، نائب وزير الدفاع الأميركي السابق، الذي يشير إلى أنه "مع توفّر موارد أقل للاستثمار في قدرات جديدة، سيتواصل اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة لتوفير الأمن المشترك".

ولكنّ هذا "التعويل" الذي لا يحبذه الحزبان السياسيان في واشنطن "قد لا يُمكن التعويل عليه"، وفقاً لفيسلاندر الذي يرى أن واشنطن "ستركّز سهامها على الصين أياً كان الرئيس".

وقالت خبيرة شؤون الدفاع السويدي لدى حلف الأطلسي إن "على الولايات المتحدة أن تركّز على آسيا في الوقت الذي تقل فيه مواردها وتجد نفسها غير قادرة على شنّ حربين إقليميتين دفعة واحدة. ليس الأمر متعلقاً بتخلّف الأميركيين عن الدفاع عن أوروبا، وإنما السؤال هل سيستطيعون ذلك".

أما في بريطانيا التي لا زالت تضطلع بدور أساسي في أوروبا وحلف شمال الأطلسي، فأرجأ الفيروس مراجعة السياسة الخارجية والدفاعية التي يُفترض أن تسير بموازاة سياسة الإنفاق، بحسب نائب مدير مركز التفكير البريطاني في شؤون الدفاع "RUSI"، مالكون شالمرز الذي قال إن "الخيارات الكبرى وُضعت جانباً، وبات التركيز متمحوراً حول الجائحة، ما الذي فعله الدفاع وما الذي يستطيع فعله للتعاطي مع هذا التهديد المحوري". 

بدوره، يرى شولي أن "أميركا تواجه مطباً مماثلاً"، وقال:"سيكون هناك نقاش مماثل بشأن ماهية الأمن، بما أن الفيروس ألحق أضراراً وأسفر عن وقوع وفيّات تفوق ما يُمكن أن تحدثه أي سلطة تقليدية أخرى في الحقبة الوجيزة نفسها. 

هذا المحتوى بالشراكة مع "نيويورك تايمز"