
شكّلت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى فرنسا، الأربعاء، خطوة متقدمة ضمن مساعي السلطة الجديدة في دمشق لنيل الشرعية الدولية، بما يعزز فرصها في كسب الاعتراف الدولي المطلوب، ويمهّد الطريق لرفع العقوبات المفروضة على البلاد، والموروثة من عهد النظام السابق، فضلاً عن تبديد المخاوف المرتبطة بخلفية بعض رموز القيادة الحالية.
واعتبر مراقبون في حديثهم لـ"الشرق" أن هذا التحرك يعكس رغبة فرنسية في ترسيخ نفوذها في سوريا، على نحو مشابه لدورها في لبنان، مستفيدة من إرثها الاستعماري في البلدين، وهذا ما قد يمهد لباريس الطريق أمام دور فاعل في مشاريع إعادة الإعمار المرتقبة، وضمان موطئ قدم دائم لها، في ظل منافسة متزايدة مع ألمانيا وإيطاليا.
وقالت مصادر في الإليزيه إن "سوريا لها وضع خاص بالنسبة لفرنسا، مثل لبنان".
وبرز ملف حماية الأقليات بقوة في محادثات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره السوري أحمد الشرع، خاصة في ظل التطورات الأخيرة في الساحل السوري والمناطق ذات الغالبية الدرزية.
وأفادت مصادر مطلعة لـ"الشرق" أن قضية المقاتلين الأجانب في سوريا كانت من أبرز النقاط الحساسة التي طرحت خلال اللقاء أيضاً، إذ أعرب ماكرون عن معارضة بلاده لانخراط هؤلاء في صفوف الجيش السوري، بينما رأى الشرع أن بعضهم يستحق نيل الجنسية السورية، تقديراً لدورهم في القتال ضد النظام السابق.
فرنسا أكثر اندفاعاً
جاءت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى فرنسا رغم اشتراط فرنسا تشكيل حكومة سورية تضم مكونات المجتمع المدني، وضمان الأمن اللازم لعودة اللاجئين، فضلاً عن تأمين الاستقرار وحماية الأقليات. ورغم أن الدول الغربية ترى أن هذه الشروط لم تُنفذ بالكامل، إلا أن الزيارة مضت قدماً.
وأثارت الزيارة انتقادات من اليمين المتطرف الفرنسي بسبب ماضي الشرع القتالي في سوريا، إلا أن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، دافع عنها بشدة، مؤكداً في حديث لإذاعة RTLB أن الامتناع عن الحوار مع السلطات الانتقالية في دمشق "سيُعد تصرفاً غير مسؤول تجاه الشعب الفرنسي، وسيفتح الباب على مصراعيه أمام عودة تنظيم داعش".
أما زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبين، فقد عبّرت عن "الصدمة والاستياء" إزاء استقبال ماكرون للشرع في قصر الإليزيه، معتبرة ذلك خطوة مرفوضة بالنظر إلى ماضي الشرع.
وتُظهر التطورات الأخيرة أن فرنسا هي الأكثر اندفاعاً بين دول الاتحاد الأوروبي لتطبيع علاقاتها مع السلطات السورية الجديدة، وتعمل بوضوح على هذا الأساس.
وأوفدت باريس دبلوماسييها لإعادة افتتاح سفارتها في دمشق، المغلقة منذ 14 عاماً، وزار وزير الخارجية جان نويل بارو العاصمة السورية، ليكون أول مسؤول أوروبي يخطو هذه الخطوة.
وفي سياق التمهيد لهذا التقارب، نظّمت فرنسا مؤتمراً لدعم سوريا في فبراير الماضي، أعقبه أول اتصال هاتفي بين ماكرون والشرع في مارس، على هامش محادثات أجراها الرئيس اللبناني الجديد جوزاف عون في باريس.
حماية الأقليات
يعتبر ملف حماية الأقليات محوراً أساسياً في المحادثات بين فرنسا وسوريا، إذ حرصت باريس على طرحه بشكل مباشر على دمشق، استناداً إلى ما شهدته مناطق مثل الساحل السوري، وحمص، والسويداء، وجرمانة، وصحنايا من توترات أمنية.
وأكد الشرع مجدداً، خلال زيارته إلى باريس، تشكيل لجنتي تحقيق خاصتين بهذه الحوادث.
وتترقّب عدة دول أوروبية، إلى جانب الولايات المتحدة ومنظمات حقوقية وأممية، نتائج عمل هاتين اللجنتين.
قالت مصادر في الإليزيه، في معرض تقييمها لزيارة الشرع، إن ماكرون شدد خلال لقائه مع نظيره السوري على أن فرنسا "لم تغيّر موقفها يوماً، وظلت ثابتة في دعمها للشعب السوري، ولسوريا حرّة، تعددية، ذات سيادة، تنعم بالسلام والاستقرار مع جيرانها"، وأن "ما كانت فرنسا تطالب به في الماضي، لا تزال تطالب به اليوم.
وأشارت المصادر إلى أن قمة المانحين لدعم سوريا، التي عُقدت في باريس، جاءت مشروطة بتنفيذ السلطات السورية لالتزاماتها تجاه الشعب السوري والمجتمع الدولي، معتبرة أن المسار الانتقالي "لا يزال ناقصاً"، وأن "القلق المتزايد من التوترات الطائفية وأعمال العنف المتنقلة من الساحل إلى المناطق الدرزية وغيرها، يُعد دليلاً واضحاً على هشاشة الوضع".
وانطلاقاً من ذلك، شدد الرئيس الفرنسي خلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب اللقاء على ضرورة "محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، وعدم السماح بإفلاتهم من العقاب".
"مكافحة الإرهاب"
كان ملف "مكافحة الإرهاب" جزءاً أساسياً من المباحثات بين ماكرون والشرع، وركيزة في "خارطة الطريق" التي حددها الرئيس الفرنسي خلال مؤتمره الصحافي، لا سيما في ما يتعلق بمحاربة تنظيمي "داعش" و"القاعدة".
وضمن هذه الخارطة، أبدى ماكرون استعداد بلاده لرعاية مفاوضات بين لبنان وسوريا لترسيم الحدود بين البلدين، مشيراً إلى تحسن ملحوظ في الوضع على الحدود السورية اللبنانية، ومؤكداً أن التعاون بين بيروت ودمشق "يكتسب أهمية بالغة".
وفي ما يخص الوضع الداخلي في سوريا، أعرب ماكرون عن أمله في تنفيذ الاتفاق القائم بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" بشكل كامل، مشيراً إلى أن فرنسا ستواصل التنسيق مع الولايات المتحدة وشركائها في ما يخص ملف العقوبات المفروضة على سوريا.
وكشف الرئيس الفرنسي أنه أكد للشرع استعداده "للقاء في منتصف الطريق" في حال واصل الرئيس السوري السير في مسار الانفتاح والإصلاح، لافتاً إلى أن "استقرار سوريا أساسي لأمن المنطقة، ولأمن أوروبا".
وأكد ماكرون أن بلاده لا تسعى لفرض دروس على سوريا، بل تشارك الشعب السوري تطلعاته نحو "العدالة والكرامة".
دور اقتصادي لفرنسا
أفادت مصادر في الإليزيه بأن باريس تسعى إلى لعب دور فاعل في الملف السوري، من خلال الحفاظ على موطئ قدم سياسي واقتصادي لها في البلاد، وضمان حصة في مشاريع إعادة الإعمار المرتقبة، فور استقرار الأوضاع ورفع العقوبات الدولية المفروضة على دمشق.
وفي هذا السياق، تمثّل "أول الغيث" بتوقيع شركة CMA CGM، التي يديرها رجل الأعمال اللبناني-الفرنسي رودولف سعادة، عقداً مدته 30 عاماً مع الحكومة السورية، لتطوير وتشغيل "ميناء اللاذقية"، وذلك بحضور الشرع شخصياً، في خطوة اعتُبرت مؤشراً واضحاً على انخراط باريس المباشر في رسم ملامح المرحلة الاقتصادية المقبلة في سوريا.
وصرّح وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، الذي رافق الشرع إلى فرنسا، بأن الزيارة كانت "تاريخية"، مشيراً إلى أنها شكّلت نقطة تحول في مسار رفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، وساهمت في تعزيز الأمن الإقليمي وتهيئة بيئة دائمة للسلام والاستثمار في المنطقة.
وأضاف الشيباني أن أهمية هذه الزيارة لا تقتصر على مستواها السياسي، بل تعكس أيضاً إرادة دمشق في ترسيخ علاقات دولية قائمة على التعاون المشترك، والاحترام المتبادل مع مختلف الأطراف الدولية.
ويرى سمير عيطة، رئيس تحرير "لوموند ديبلوماتيك" سابقاً ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب، في حديث لـ"الشرق"، أن الزيارة تمثل "خرقاً"، معتبراً أنها "خطوة كبيرة من فرنسا تجاه السلطة الجديدة"، والتي تمنحها شرعية من قبل دولة كبرى عضوة في الاتحاد الأوروبي، والناتو، ومجلس الأمن الدولي.
كما اعتبر عيطة أن توقيع اتفاقية استثمار مرفأ اللاذقية يمثل "هدية لماكرون"، وقد يكون "مقدمة لعودة شركات فرنسية كبرى إلى سوريا، مثل توتال ولافارج".
نقاشات عميقة
واعتبر جورج مالبرونو، كبير المحللين في صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية، أن زيارة الشرع إلى باريس تمثل "بداية اعتراف دولي بحكم الرئيس الشرع"، وإن كانت مراسم الاستقبال "فاترة"، بحسب تعبيره.
وأضاف أن الشرع "لم يُستقبل من قبل وزير كما يقتضي البروتوكول، بل من قبل جنرال عسكري، ولم يفرش له السجاد الأحمر في قصر الإليزيه"، ورغم ذلك، أشار مالبرونو إلى أن "ماكرون وعد بالعمل خلال قمة الاتحاد الأوروبي في الأول من يونيو المقبل على الدفع نحو رفع مزيد من العقوبات عن سوريا".
من جهته، استبعد سمير عطية أن تُقدم الشركات الفرنسية على استثمارات واسعة في سوريا في ظل استمرار العقوبات الأميركية، مشيراً إلى أن شركات مثل "توتال" و"لافارج" ستدرس خطواتها بعناية لتفادي أي تبعات قانونية أو اقتصادية محتملة.
أما في ما يخص التوترات في مناطق الساحل السوري ومناطق الدروز، قال مالبرونو إن الملف كان محور نقاشات معمقة بين الجانبين، مع قلق فرنسي واضح من احتمال انفلات الأوضاع، وهو ما قد تكون له تداعيات على الأمن الأوروبي.
وفي ما يتعلق بآفاق العلاقة المستقبلية بين باريس ودمشق، أوضح مالبرونو أن فرنسا "تحلم بالعودة إلى سوريا"، في ظل سباق اقتصادي واضح مع ألمانيا وإيطاليا، إذ تعتبر باريس أن إعادة الإعمار فرصة استراتيجية للعودة السياسية والاقتصادية.
أما في الشق العسكري، فأشار سمير عيطة إلى أن الملف "صعب وشائك"، مشيراً إلى وجود فصائل مسلّحة غير منضوية تحت سلطة الجيش السوري الجديد، بالإضافة إلى العلاقة الحساسة مع إسرائيل.
واعترف الشرع بوجود مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل لتهدئة الأوضاع، غير أن ماكرون طالب بتطوير هذا التعاون نحو خطوات أكثر وضوحاً.
المقاتلون الأجانب "نقطة خلاف"
وأشار مالبرونو إلى أن أبرز نقاط التقاطع بين الرئيسين ماكرون والشرع تمحور حول ملف "محاربة حزب الله"، وإن نسي الرئيس الفرسي أنه كان منذ أشهر على تواصل مباشر مع هذا الحزب في لبنان.
أما عيطة، فأشار إلى ما وصفه بـ"النقطة الأكثر حساسية" في المحادثات، وهي "ملف المقاتلين الأجانب" في سوريا، معتبراً أن هذه المسألة "ظلت خلافية طوال اللقاءات"، إذ عبّر ماكرون عن "رفضه القاطع لدمج هؤلاء في الجيش السوري الجديد". لكن الشرع، بحسب عيطة.
وفي المؤتمر الصحافي المشترك، حاول الرئيس السوري التخفيف من حدّة الموقف قائلاً: "تكلمنا (مع ماكرون) عن من بقي في صفنا حتى التحرير.. فمن بقي في صفنا (المقاتلون الأجانب ) أكدنا لجميع الدول التزامهم بالقانون السوري، ولن يشكلوا تهديداً لا لبلدانهم ولا لدول الجوار.. أما مسألة الجنسية، فهي من اختصاص الدستور، وعند صياغته سيتضح من هو السوري ومن يستحق الجنسية".