صعّدت بريطانيا، والسويد، وألمانيا، وفرنسا، خلال الأسابيع الماضية، من انتقاد إسرائيل، مع تصاعد الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، إلى جانب التصعيد العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، على العكس من الخطاب القديم الذي كان دائماً ما يبرر تصعيد إسرائيل لهجماتها على القطاع، رغم الضغوط الشعبية والاحتجاجات التي اجتاحت أوروبا، مع تزايد أعداد الضحايا الفلسطينيين من النساء والأطفال في الغارات الإسرائيلية على القطاع.
في أبريل الماضي، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي، فرنسوا بايرو، بدء إجراءات الاعتراف بالدولة الفلسطينية بالتنسيق مع بريطانيا وكندا، في خطوة تواكب اعتراف إسبانيا وإيرلندا والنرويج.
وفي بريطانيا علقت حكومة حزب العمال الحاكم، مفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل، وفرضت عقوبات على مستوطنين إسرائيليين في الضفة الغربية، واستدعت السفير الإسرائيلي بسبب توسع إسرائيل في الحرب على غزة، وأعلنت أنها ستعترف بالدولة الفلسطينية "في الوقت المناسب" بالتنسيق مع شركاء دوليين.
أما ألمانيا، فقد عبر مستشارها الجديد، فريدريش ميرتس، الاثنين، عن غضبه من استهداف البنية التحتية المدنية في غزة، محذّراً من أن بلاده "لن تقف مكتوفة الأيدي إذا استمرت هذه الانتهاكات (الإسرائيلية)".
واستدعت السويد، السفير الإسرائيلي في ستوكهولم بسبب نقص دخول المساعدات إلى غزة، وطالب رئيس وزرائها، أولف كريسترسون، بفرض عقوبات أوروبية على تل أبيب، مطالباً خلال تصريحات لوكالة الأنباء السويدية TT، بأنه ينبغي على أوروبا ممارسة ضغوط دبلوماسية على إسرائيل للسماح بدخول المساعدات الإنسانية لغزة.
وكانت إسرائيل، سمحت، الأسبوع الماضي، بدخول كميات قليلة من المساعدات إلى غزة، لا تكفي احتياجات مليوني نسمة يعانون من حصار شديد لحوالي ثلاثة أشهر.
وهذا المشهد يشي بتغيير في طريقة تعامل حكومات الدول الغربية مع إسرائيل، فيما تتصاعد فيه المطالب بتحقيقات دولية ومساءلة قانونية، ما قد يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الدولية تُعيد النظر في كثير من الثوابت السابقة، ويطرح تساؤلات حادة حول مستقبل الدعم الدولي لها.
إعادة بناء "شرعية دبلوماسية"
مستشار السياسة الخارجية في البرلمان الأوروبي، ماريان دوريس، أرجع في تصريحاته لـ"الشرق"، تحول الحكومات الغربية في مواقفها تجاه إسرائيل وحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى عدة عوامل، من بينها أن "أوروبا تحاول إعادة تقييم مصداقية الغرب في الشرق الأوسط".
وأوضح دوريس أن "العديد من البلدان ترى ردود الفعل الغربية تجاه الحرب في أوكرانيا وغزة "متباينة"، مؤكداً أنه "يمكن النظر إلى الموقف الأكثر توازناً تجاه إسرائيل وفلسطين، على أنه محاولة من جانب الاتحاد الأوروبي لإعادة بناء الشرعية الدبلوماسية خارج تحالفاته التقليدية".
دوريس، أشار كذلك في تصريحاته لـ"الشرق"، إلى أنه "قد يكون هناك عامل آخر يتمثل في النمو الديموجرافي الناجم عن الهجرة"، لافتاً إلى أن "تغير المواقف الأوروبية قد يعود جزئياً إلى تأثير الأجيال الجديدة من المهاجرين غير الأوروبيين، إلى جانب صعود التيارات اليسارية والتقدمية داخل المؤسسات الأوروبية ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية، والتي يمكن أن يكون لها تأثير على آراء المفوضية الأوروبية".
أما جيمس موران، المسؤول السابق في شؤون الشرق الأوسط بالاتحاد الأوروبي، فاعتبر في تصريحاته لـ"الشرق"، أن التحول الأوروبي يعود في المقام الأول إلى الوضع الإنساني الكارثي، و"ضغط الرأي العام الأوروبي المطالب بتشديد موقف أوروبا تجاه حكومة نتنياهو".
وأكد المسؤول الأوروبي السابق، أن عنف المستوطنين الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية، "ساهم أيضاً في هذا التحول"، موضحاً أن "كل هذا لفت الانتباه دولياً إلى الحقوق الفلسطينية، وعزز الدعم الأوروبي لها".
وشدد موران على أن "دعم الفلسطينيين يتزايد في أوروبا، منذ أن صعّدت إسرائيل الحرب وخرقت وقف إطلاق النار"، مشيراً إلى أن "الحرب وما نتج عنها من مجازر غير مسبوقة أيقظت شرائح واسعة من الرأي العام الأوروبي على ضرورة تحقيق سلام عادل ودائم".
ولفت موران في تصريحاته لـ"الشرق"، إلى أنه "إذا استجابت إسرائيل بتحسين الوضع الإنساني للفلسطينيين في غزة، فإنه من غير المرجح أن يوقف ذلك التوجه في الاتحاد الأوروبي، نحو اعتراف أوسع بدولة فلسطينية"، موضحاً أن "الكل شاهد الاستقبال الحافل للفلسطينية أمل جادو الشكعة، خلال اعتمادها سفيرة في الاتحاد الأوروبي، الأسبوع الماضي".
محاولة للتماهي مع الرأي العام
من ناحيته، يرى مارك لافيرن، وهو دبلوماسي فرنسي سابق، وأستاذ لدراسات الشرق الأوسط في جامعة "تورز"، أنه "لا شيء مثل النبرة الفرنسية في دعمها الآن لفلسطين"، موضحاً أن "هناك تحولاً، ليس في الرأي العام فقط بل على المستوى الحكومي"، مستذكراً بتصريحات الرئيس الفرنسي السابق، شارل ديجول، بأن "إسرائيل هي الغازية في حرب عام 1967".
وأوضح لافيرن في حديثه لـ"الشرق"، أنه "كلما استمرت الحرب، ابتعدت حتى الأصوات اليهودية الفرنسية عن دعم المشروع الإسرائيلي".
وأشار إلى أن "الحكومة الفرنسية التي كانت مؤيدة بشدة لإسرائيل مضطرة الآن للتعبير عن بعض القلق بشأن النية الإسرائيلية تجاه تدمير القضية الفلسطينية"، موضحا أنه "حتى الآن دون الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل فرنسا، فلا يوجد تحول حقيقي في آراء الحكومة والرئيس".
وتابع لافيرن: "لا أرى أي التزام صادق يهدف لإقامة دولة فلسطينية"، مضيفاً: "حتى في حال الاعتراف الرسمي، فإنه سيكون رمزياً"، على حد وصفه، لافتاً إلى أن "ذلك مجرد محاولة لعدم النأي بالنفس عن الرأي العام السائد".
أما فابريس بالانش، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليون، فاعتبر في تصريحات لـ"الشرق"، أن "الثقة قد انهارت بين الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو"، موضحاً أن "ماكرون لا يريد التورط في حرب استباقية ضد إيران، إذ يشعر أن نتنياهو يحاول التلاعب به".
رسائل إنسانية لا حقوقية
من جانبه، يعتقد الدبلوماسي البريطاني السابق في الشرق الأوسط، جيرارد راسل، أن التحول الأوروبي تجاه إسرائيل، جاء بعد الأزمة الغذائية والإنسانية غير المسبوقة في قطاع غزة، مشدداً على أن "المساعدات الإنسانية والإغاثية مهمة".
وأشار راسل، وهو أيضاً مؤلف كتاب "ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط"، إلى أن تحذيرات توم فليتشر، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة، والذي يقود مطالب الأمم المتحدة بإدخال المساعدات إلى غزة، مع تفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزّة، "لاقت تفاعلاً واسعاً في لندن، ولأنه يحظى باحترام من سياسيي حزب العمال، فضلاً عن الضغط المتزايد ناحية الحزب منذ فترة طويلة لتهدئة الغاضبين من موقفه المؤيد نسبياً لإسرائيل أدى إلى تصعيد اللهجة ضد تل أبيب".
وأضاف راسل في تصريحاته لـ"الشرق"، أن "اللغة الرسمية البريطانية ضد إسرائيل غير مسبوقة"، قائلاً: "لا أعلم إن كانت الحكومة الحالية في إسرائيل ستكون مقبولة في المملكة المتحدة وفرنسا، ولكن من المرجح ألا تُتخذ بريطانيا أي خطوات أخرى، إذا اتخذت إسرائيل خطوات صغيرة بشأن المساعدات وما إلى ذلك".
وتابع: "أعتقد أن فرنسا وبريطانيا ودولاً أخرى، مترددة في استخدام الاعتراف بالدولة الفلسطينية كأداة سياسية، لأنهم يخشون أن يُشكل ذلك سابقة تاريخية، وبمجرد حدوثه، لن يُساعد الفلسطينيين مادياً على الأرض، إلا إذا اتبعته تلك الدول بإجراءات ملموسة ضد إسرائيل"، لافتاً إلى أن فرنسا أكثر ميلاً للاعتراف بفلسطين من بريطانيا.
ووافقه في الرأي، رئيس تخطيط السياسات في الحكومة البريطانية سابقاً، باتريك دايموند، إذ أوضح في تصريجاته لـ"الشرق"، أن "ما تفعله بريطانيا هو موقف إنساني، ضد القيادة الإسرائيلية الحالية فقط، وليس إسرائيل"، موضحاً أن "الحكومة بشكل عام تتعامل مع الملف إنسانياً، وليس نحو حقوق الشعب الفلسطيني".
تحول ألماني "متأخر"
من جانبه، يرى أندرياس رينيك، الدبلوماسي الألماني السابق، ومبعوث أوروبا للسلام في الشرق الأوسط سابقاً، أن "التحول الألماني جاء متأخراً"، مشيراً إلى أن "انتهاك إسرائيل للقانون الدولي، والقوة المفرطة ضد المدنيين في غزة، ساهما في زيادة الضغوط الداخلية والخارجية على ألمانيا منذ عام 2024".
وأوضح في تصريجات لـ"الشرق"، أن "التصريحات والتحفظات الأخيرة حذّرة، ولكنها مهمة جداً في الموقف الألماني الذي كان يراه الجميع، منحازاً لإسرائيل وغير محايد للموقف الإنساني".
أما إيفالد كونيج، وهو باحث متخصص في الشؤون الألمانية والأوروبية في مركز جنيف للدراسات، فأوضح في تصريحاته لـ"الشرق"، أن "ما قاله ميرتس، يُعدّ نقطة تحول تاريخية في العلاقات الألمانية الإسرائيلية".
وأضاف أنه "بينما تنتقد دولٌ متزايدة حكومة إسرائيل علناً على أفعالها في غزة، لا تزال ألمانيا متمسكة بدعمها أحادي الجانب لإسرائيل كدولة، حتى قبل تصريحات ميرتس، مباشرة بعد انتخابات البوندستاج (البرلمان)، دعا ميرتس، نتنياهو إلى زيارة ألمانيا، وقال إنه سيجد السبل والوسائل لاستقباله كضيف في ألمانيا رغم مذكرة التوقيف الدولية".
وتابع: "والآن، ولأول مرة، تُوجّه انتقادات علنية"، مؤكداً أن انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، "أصبحت عبئاً ثقيلاً" على الحكومة الألمانية.
واعتبر أن التحذيرات الألمانية كانت من خلال ميرتس خلال اتصال هاتفي فقط، إذ حذر نتنياهو من التصعيد، في وقت سابق، وقال كونيج: "لا تُبالغوا.. والآن، أصبح الانتقاد علنياً"، موضحاً أن ميرتس سيتصل بنتنياهو مجدداً هذا الأسبوع ليوضح له الأمر.
واستكمل إيفالد كونيج، تصريحاته لـ"الشرق"، متسائلاً: "لماذا غيّر ميرتس رأيه؟ لأنه شخصياً، والحكومة الألمانية، وفئة من الشعب، قد بلغوا أقصى درجات انتهاك حقوق الإنسان".
وتابع: "ما تستخدمه إسرائيل ضد المدنيين هو أيضاً أسلحة ألمانية، وما تحجبه إسرائيل من مساعدات ألمانية هو عبء ثقيلٌ على ألمانيا نظراً لمسؤوليتها التاريخية عن المحرقة (الهولوكوست)"، موضحاً أنه "عليها أن تتحلى بضبط النفس في انتقاد إسرائيل، ومن جهة أخرى، لم يعد بإمكانها الوقوف مكتوفة الأيدي بينما يُنتهك القانون الدولي على نطاقٍ واسع".