
يسعى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، مارك روته، إلى أن تكون القمة السنوية للحلف المقررة في يونيو المقبل "موجزة وواضحة"، في محاولة لتجنب حالة الانقسام العلني بشأن أوكرانيا، التي طغت على أعمال القمة قبل عامين، كما أعلن لأول مرة أن الحلفاء يتجهون نحو إقرار مستهدف جديد للإنفاق الدفاعي يبلغ 5% من الناتج المحلي الإجمالي لدول الحلف.
وحسبما أفاد مسؤولون ودبلوماسيون أوروبيون لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فإن عاملين قد يجعلان روته أمام اجتماع أكثر تعقيداً، أولهما الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي يُتوقع أن يحضر القمة ويخالف حلفاءه في الرأي بشأن مستقبل أوكرانيا، وثانيهما أوكرانيا نفسها التي تسعى للانضمام إلى الناتو، وهو هدف يعارضه ترمب.
وقالت "نيويورك تايمز"، إن "قمة الناتو، المقررة يومي 24 و25 يونيو المقبل في هولندا، تأتي فيما تتراجع الولايات المتحدة عن تحمل المسؤولية الأساسية في حماية أوروبا، مما يثير حالة من الغموض العميق بشأن أمن القارة.
وقد حذر مسؤولون في إدارة ترمب، نظراءهم الأوروبيين، من أن تغييرات كبيرة وشيكة ستطرأ على آليات تناوب القوات الأميركية، وذلك رغم سعيهم إلى طمأنة الحلفاء بشأن استمرار التزام واشنطن تجاه الناتو.
ترمب وزيلينسكي
وفي الوقت ذاته، يعمل ترمب على تقليص الدعم العسكري لأوكرانيا، وتخلى عن جهود التوصل إلى وقف لإطلاق النار في الحرب، ويسعى إلى تطبيع العلاقات مع روسيا.
وفي ضوء كل ذلك، يبقى دور أوكرانيا في القمة غير محسوم، لا سيما في ظل موقف ترمب المتحفظ تجاه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي يُتوقع أيضاً أن يشارك في القمة. وحتى الآن، لم يتضح ما إذا كان زيلينسكي سيتلقى دعوة لحضور العشاء الافتتاحي للقمة، وفق "نيويورك تايمز".
وقال ماثيو جي. ويتاكر، السفير الأميركي الجديد لدى الناتو، خلال مؤتمر عُقد هذا الشهر في العاصمة الإستونية تالين: "أتوقع تماماً حضور زيلينسكي في لاهاي. أما بخصوص صفته، فما زلنا في طور النقاش".
ورجح مسؤولون، ألا تتضمن القمة هذا العام اجتماعاً لمجلس "الناتو-أوكرانيا"، الذي يجمع الطرفين، كما حدث في الأعوام السابقة.
وأفاد بعضهم بأن زعماء الحلف سيجتمعون لبضع ساعات فقط في اليوم التالي للعشاء الافتتاحي، وذلك لإقرار أهداف إنفاق جديدة تتيح للدول الأوروبية أن تحل تدريجياً محل الولايات المتحدة كضامن رئيسي للدفاع التقليدي عن القارة.
ويخطط الحلف أيضاً لعقد منتدى موازٍ لصناعة الدفاع، قد يشارك فيه زيلينسكي، بحسب "نيويورك تايمز".
وكان زيلينسكي، قد أدى أدواراً بارزة في قمتي الناتو السابقتين خلال عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن. ففي قمة ليتوانيا قبل عامين، سارت الأمور بشكل سيء حين طالب زيلينسكي وحلفاؤه بتحديد جدول زمني لانضمام أوكرانيا إلى الحلف، بينما كانت قمة العام الماضي في واشنطن أكثر هدوءاً، وطغت عليها تساؤلات حول القدرات الذهنية لبايدن.
غياب الوضوح
وفي عام 2008، أقر الناتو بأن أوكرانيا وجورجيا "ستصبحان عضوين في الحلف"، لكنه لم يحدد موعداً أو آلية واضحة لذلك.
ولم يرَ بايدن وبعض القادة الآخرين، أن أوكرانيا مؤهلة للانضمام ما دامت تخوض حرباً مع روسيا، ورفضوا تحديد موعد أو مسار للعضوية.
وقد تضمن البيان الختامي لقمة العام الماضي، وعداً بمواصلة دعم كييف، لكنه اكتفى بالإشارة إلى أن أوكرانيا تسير على "طريق لا رجعة فيه نحو التكامل الأوروبي-الأطلسي الكامل، بما يشمل عضوية الناتو".
وقال مسؤولون إن بيان هذا العام سيكون "قصيراً وموجزاً"، وما زال قيد الصياغة.
وتعهد الحلفاء الأوروبيون، بمواصلة دعم أوكرانيا، من أجل التوصل إلى تسوية سلمية عادلة، ثم تقديم ضمانات أمنية تحول دون أي توغلات روسية جديدة. ورغم تطلعهم إلى دعم أميركي موازٍ، فإنهم لا يتوقعون أن يوافق ترمب والكونجرس على تقديم أي مساعدات مالية إضافية لأوكرانيا.
ومع ذلك، لم يُقدم ترمب حتى الآن على تعطيل شحنات الأسلحة الأميركية المشمولة بحزمة المساعدات البالغة 61 مليار دولار، والتي أُقرت خلال ولاية بايدن. كما أنه لم يعاود وقف تزويد أوكرانيا بالمعلومات الاستخباراتية والأقمار الاصطناعية الأميركية، كما فعل لفترة وجيزة حين عبر عن استيائه من رفض زيلينسكي المبدئي لدعم وقف إطلاق نار مؤقت.
ورغم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أوضح أنه لا يستعجل إنهاء الحرب، فإن ترمب لم يُنفذ تهديداته بزيادة الضغوط الاقتصادية على موسكو، بل صرح الأسبوع الماضي قائلاً: "روسيا تريد إقامة تجارة واسعة النطاق مع الولايات المتحدة عندما تنتهي هذه المجزرة الكارثية، وأنا أوافق على ذلك".
وأضاف ترمب: "هناك فرصة هائلة لروسيا لخلق وظائف وثروات ضخمة. إمكانياتها لا حدود لها".
دور أميركا في أمن أوروبا
وفي تالين، بذل السفير ويتاكر، جهوداً كبيرة لطمأنة الحلفاء بأن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بالتحالف، وبالدفاع الجماعي، وبمظلتها النووية فوق أوروبا. وقال: "سنبقى في هذا التحالف، وسنظل شريكاً عظيماً وحليفاً موثوقاً".
لكنه حذر في الوقت نفسه من أن المراجعة الجارية لوضع القوات الأميركية، والمقرر الانتهاء منها في وقت لاحق من العام الجاري، قد تسفر عن سحب أو إعادة تمركز بعض الجنود الأميركيين المتمركزين في أوروبا، والبالغ عددهم 84 ألفاً.
وأكد ويتاكر للمسؤولين، أن "واشنطن لن تسمح بوجود أي فجوات أمنية" في الحلف قبل أن تتمكن القوات الأوروبية من تعويض القدرات الأميركية الأساسية. لكنه شدد على أن الولايات المتحدة تريد تنفيذ ذلك بسرعة. وقال: "لا تخطئوا التقدير.. لن يكون هذا نقاشاً يمتد لعقد من الزمن".
ورأت توري تاوسيج، الزميلة البارزة في "المجلس الأطلسي"، أن الغموض الذي يكتنف مستقبل القوات الأميركية في أوروبا سيعقد جهود الناتو في مراجعة متطلبات القدرات العسكرية للدول الأعضاء، كما سيعرقل التخطيط الأوروبي لاستبدال الدعم الأميركي الموجه إلى كل من الحلف وأوكرانيا.
وقالت إن "مناقشة أهداف القدرات الجديدة للناتو دون معرفة موقف الولايات المتحدة أو احتياجات أوكرانيا وتأثيرها على تلك القدرات، ينذر بفراغ محتمل في المستقبل".
أما مايكل كوفمان، الخبير في الشؤون العسكرية والأوكرانية لدى مؤسسة "كارنيجي"، فقال إنه من الصعب على الأوروبيين أن يحققوا في الوقت نفسه أهداف الناتو المتعلقة بدفاعاتهم الذاتية، ويواصلوا دعم أوكرانيا إلى أجل غير مسمى. وأضاف: "الأمر سيتطلب تقديم تنازلات".
ويبدو أن مسؤولي إدارة ترمب لا يولون اهتماماً كبيراً لكيفية إنفاق الحلفاء الآخرين لموازناتهم الدفاعية، طالما أن إجمالي هذا الإنفاق يبلغ 5% من ناتجهم الاقتصادي السنوي.
معيار جديد للإنفاق الدفاعي
ولأول مرة، صرح الأمين العام لحلف الناتو بأن الحلفاء يتجهون نحو معيار جديد للإنفاق الدفاعي يبلغ 5% من الناتج المحلي الإجمالي للدول جالأعضاء في الحلف، حسبما نقلت مجلة "بوليتيكو".
وقال روته خلال جلسة أسئلة وأجوبة في الجمعية البرلمانية لحلف الناتو في الولايات المتحدة: "أفترض أننا سنتفق في لاهاي على هدف أعلى للإنفاق الدفاعي يبلغ 5% إجمالاً".
وطوال أشهر، ضغط ترمب وطالب قادة دول الناتو، بزيادة ميزانياتهم الدفاعية بشكل كبير، في ذلك الوقت، رفض العديد من الحلفاء الفكرة واعتبروها مجرد كلام سياسي، لكن تصاعد التوترات مع روسيا وتجدد الاهتمام بالتأهب العسكري لأوروبا غيّر مسار النقاش.
وصرح رئيس الوزراء الهولندي، ديك شوف، في وقت سابق من الشهر الجاري، أن روته وجّه رسالة إلى قادة الناتو يدعوهم فيها إلى الوصول إلى نسبة 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري، و1.5% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على البنية التحتية والأمن السيبراني وغيرها من المجالات خلال السنوات السبع المقبلة.
في حين لم يُحدّد روته، التركيبة الدقيقة لهدف الـ 5%، قال إن خط الأساس للإنفاق العسكري التقليدي سيكون "أعلى بكثير من 3%"، مع توقع تخصيص أموال إضافية لدعم البنية التحتية والخدمات اللوجستية.
تُشير أحدث أرقام حلف الناتو إلى أن 23 من أصل 32 عضوًا فيه في طريقهم لإنفاق 2% على الأقل بحلول هذا الصيف - وهي قفزة كبيرة مقارنةً بالدول الثلاث التي أنفقت هذا القدر عند تحديد الهدف عام 2014 في أعقاب العدوان الروسي الأول على أوكرانيا.
ومع ذلك، لم يصل أيٌّ منها إلى نسبة الـ 5% بعد. وتتصدر بولندا هذه القائمة بنحو 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أعلنت ليتوانيا ولاتفيا عن خطط للوصول إلى أو تجاوز 5% خلال العامين المقبلين.