منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على إيران، وجّه جيرانها رسائل دعم وطمأنة، بما في ذلك جارتها الشمالية أذربيجان، التي تنظر إليها طهران بعين الريبة، نظراً لعلاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، لا سيما في المجال العسكري.
ولكن بعد يوم من بدء الحرب، تواصل وزير الخارجية الأذربيجاني جيهون بيراموف مع نظيره الإيراني عباس عراقجي، مؤكداً أن أراضي أذربيجان أو مجالها الجوي لا يمكن استخدامها من قبل أي دولة ضد طرف ثالث، وخاصة إيران، التي وصفها بـ"الدولة الصديقة والجارة".
لكن هذا الاتصال لم يكن مجرد حديث عادي بين مسؤولي دولتين جارتين، بل يُخفي وراءه سنوات من العلاقة المليئة بالتوتر والشكوك، خصوصاً بسبب علاقات أذربيجان بإسرائيل، الخصم الاستراتيجي لإيران.
تعود العلاقات بين أذربيجان، الدولة المسلمة ذات الغالبية الشيعية، وإسرائيل إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتعمّقت في العقد الأخير عبر تعاون اقتصادي ودفاعي.
إلا أن هذا التحالف ربما يثير قلقاً كبيراً في إيران، من أن تستغل تل أبيب علاقتها الوثيقة مع باكو لتضييق الخناق عليها، بينما تخوض مواجهة عسكرية غير مسبوقة مع إسرائيل منذ 13 يونيو الجاري.
تاريخ علاقات أذربيجان وإسرائيل
بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، أقامت أذربيجان علاقات دبلوماسية مع إسرائيل عام 1992. وبينما كانت العديد من الدول الخارجة من الفضاء السوفيتي السابق مترددة في الانفتاح على تل أبيب، اتبعت باكو نهجاً مختلفاً، مدفوعاً بمصالح متعددة المستويات.
وفي حديث لـ"الشرق"، وصف الدكتور أحمد شهيدوف، رئيس معهد أذربيجان للديمقراطية وحقوق الإنسان، هذه العلاقة بأنها "فريدة من نوعها، ليس فقط في منطقتنا، بل على مستوى العالم الإسلامي بأكمله".
وأضاف: "للوهلة الأولى، قد يعتقد المرء أن دولة مسلمة ذات أغلبية شيعية وناطقة بالتركية، مثل أذربيجان، لن تكون على وفاق مع إسرائيل، لكن في الواقع تقوم علاقات البلدين على مصالح متبادلة براغماتية، وعلى تاريخ من التسامح والتعايش".
وأشار شهيدوف إلى أن أذربيجان هي موطن لواحدة من أقدم وأكبر الجاليات اليهودية في العالم الإسلامي. وتعتبر بلدة كراسنيا سلوبودا (المستوطنة الحمراء) في منطقة قوبا، البلدة الوحيدة خارج إسرائيل التي يقتصر سكانها على اليهود فقط. وأضاف أن اليهود والمسلمين عاشوا في أذربيجان جنباً إلى جنب لقرون في سلام واحترام متبادل، ما أسس جسراً ثقافياً واجتماعياً بين البلدين.
كما لفت إلى أن أذربيجان تعاونت مع إسرائيل في مجالات مثل الزراعة، إدارة المياه، وتكنولوجيا الرعاية الصحية، حيث تم إدخال أنظمة الري بالتنقيط الإسرائيلية على نطاق واسع في القطاع الزراعي الأذربيجاني، خاصة في المناطق الجافة.
من جانبه، أوضح الأكاديمي والخبير في الشأن الإسرائيلي الدكتور محمود يزبك، أن إسرائيل تحصل على جزء كبير من وارداتها النفطية من أذربيجان، حيث كانت تزوّدها بنسبة تتراوح بين 40% إلى 60% من احتياجاتها النفطية حتى عام 2020.
ويتم نقل الشحنات من أذربيجان إلى ميناء جيهان التركي عبر خط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان، ومن هناك تُشحن إلى إسرائيل.
ورغم أن العلاقة في مجال الطاقة تشكل جزءاً أساسياً من التقارب بين أذربيجان وإسرائيل، إلا أن التعاون الدفاعي منح علاقات البلدين زخماً استراتيجياً أكبر. ولفت يزبك إلى أن العديد من الوزراء الإسرائيليين من أصول روسية، الذين خدموا في الحكومات المتعاقبة، ساهموا بشكل كبير في تطوير العلاقات مع أذربيجان، مستفيدين من صلاتهم خلال الحقبة السوفيتية.
تعاون عسكري متزايد بين أذربيجان وإسرائيل
منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين أذربيجان وإسرائيل قبل أكثر من 3 عقود، شهد التعاون العسكري بينهما نمواً في مجالات دفاعية متعددة.
وأبرم البلدان في فبراير 2012، صفقة بقيمة 1.6 مليار دولار، اشترت خلالها أذربيجان من شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI) طائرات مسيرة وأنظمة مضادة للطائرات، وصواريخ.
وخلال السنوات العشر الماضية، برزت إسرائيل كمورّد رئيسي للسلاح لأذربيجان، حيث شكّلت الصادرات العسكرية الإسرائيلية بين عامي 2016 و2020 حوالي 70% من واردات أذربيجان من الأسلحة الرئيسية. وشملت هذه الصادرات طائرات مسيرة متطورة، وأنظمة دفاع صاروخي، ومدفعية، وتقنيات استطلاع.
وفي عام 2023، عززت أذربيجان قدراتها العسكرية من خلال صفقة كبرى أخرى مع إسرائيل، تضمنت قمرين صناعيين متطورين ونظام الدفاع الصاروخي "باراك إم إكس"، بقيمة حوالي 1.2 مليار دولار.
وقال شهيدوف إنه خلال الحرب الثانية في إقليم ناجورنو قره باغ عام 2020، أحدثت الذخائر الجوالة الإسرائيلية الصنع من طراز "Harop" (المعروفة أيضاً بالمسيرات الانتحارية) تأثيراً حاسماً في ساحة المعركة، حيث استهدفت أنظمة الدفاع الجوي ومراكز القيادة ووحدات المدفعية الأرمينية بدقة عالية، مما أحدث تأثيراً كبيراً على نجاح أذربيجان العملياتي.
ويمتد التعاون ليشمل أيضاً قدرات الاستطلاع، إذ تستفيد أذربيجان بشكل كبير من الاستخبارات الإسرائيلية القائمة على الأقمار الاصطناعية، مثل أقمار "تيك سار" (TecSAR). كما شاركت في تطوير مشترك لإنتاج طائرات مسيرة محلية، مما يعزز قدراتها في المراقبة والدقة التشغيلية.
تقارير استخباراتية وقلق إيراني
تحدثت تقارير سابقة عن أنشطة استخباراتية إسرائيلية في أذربيجان، أو حتى عن استخدام إسرائيل للأراضي الأذربيجانية في عمليات ضد إيران. ففي تقرير نُشر عام 2012، زعمت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية أن إسرائيل تبني قواعد جوية في أذربيجان، وهو ما نفته رسمياً السلطات الأذربيجانية آنذاك.
وفي يناير الماضي، ذكرت ورقة بحثية صادرة عن "مركز بيجان-السادات للدراسات الاستراتيجية"، ونشرت تفاصيلها صحيفة "جيروزاليم بوست"، أن "التعاون الاستخباراتي بين أذربيجان وإسرائيل كان محورياً في مواجهة النفوذ الإيراني، مستغلة قرب الحدود"، معتبرةً أن أذربيجان هي "الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة التي وقفت بثبات إلى جانب إسرائيل خلال الحرب الأخيرة ضد حركة حماس وحزب الله".
وأضافت الصحيفة أن "مساهمات أذربيجان تمتد إلى توفير معلومات استخباراتية بالغة الأهمية تُعقّد العمليات الإيرانية، بالإضافة إلى رفضها الرضوخ لضغوط طهران لقطع العلاقات مع إسرائيل".
وتشير تقارير إلى تعاون استخباراتي وسيبراني بين إسرائيل وأذربيجان، طما يرى محللون أن باكو شكّلت نقطة حيوية لعمليات استخباراتية إسرائيلية، بما في ذلك العملية التي قادها الموساد في عام 2018 لاستخراج أرشيف نووي إيراني من طهران.
وأثار هذا التعاون العسكري قلق طهران، التي راقبت باهتمام تطور العلاقات بين إسرائيل وأذربيجان، حيث تُمثّل الأخيرة موقعاً مهماً على الحدود الشمالية الغربية لإيران، إضافة إلى كونها بوابة للوصول إلى آسيا الوسطى.
وفي مقابلة مع قناة "الشرق"، قال النائب في البرلمان الأذربيجاني جيهون ماميدوف، إنه كان لدى إيران شكوك بشأن وجود تعاون بين باكو وتل أبيب ضد مصالحها، لكن المسؤولين الإيرانيين والأذربيجانين قاموا بزيارات متبادلة على مستوى عالي لإزالة أي شبهة بهذا الخصوص، مؤكداً أن بلاده لن تسمح لإسرائيل باستخدام أراضيها في الحرب مع إيران.
قلق إيراني من تقارب باكو وتل أبيب
يقول المحلل السياسي الإيراني سعيد شاوردي لـ"الشرق"، إن أذربيجان اختارت تعزيز علاقاتها مع إسرائيل إلى أبعد الحدود، من خلال تعاون اقتصادي وتجاري وعسكري وأمني، إلى جانب العلاقات الثقافية.
ولفت إلى أن هذا التقارب يثير قلق طهران، نظراً لموقع أذربيجان الجغرافي الحساس شمال إيران، ما يجعل هذا التحالف يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الإيراني.
وأضاف شاوردي: "إيران تتهم أذربيجان بأنها أصبحت قاعدة استراتيجية لإسرائيل، تشمل عمليات تجسس واستخبارات على أراضيها تستهدف الداخل الإيراني، بما في ذلك العاصمة طهران والمحافظات الشمالية"، مشيراً إلى أن "هناك تقارير تتحدث عن استخدام إسرائيل للأراضي الأذربيجانية لأغراض تنصت وتشويش إلكتروني، وربما حتى لجمع معلومات متعلقة بإطلاق الصواريخ من داخل إيران، وهو ما يعزز قدرة إسرائيل على الإنذار المبكر".
ورغم نفي الحكومة الأذربيجانية هذه المزاعم، يعتقد المحلل السياسي محمود يزبك أن "إسرائيل استفادت من أذربيجان كمركز لجمع المعلومات عن إيران، بما يشمل التجسس وتجنيد العملاء والأنشطة الاستخباراتية، الذين تم استغلال قربهم الجغرافي لاختراق إيران".
وأضاف أن "إسرائيل استطاعت سابقاً التوسط لدى الولايات المتحدة حتى تحصل أذربيجان على أسلحة أميركية متطورة، مقابل خدمات تقدمها أذربيجان لإسرائيل، خاصة في مجالات الطاقة".
وعما إذا كانت إسرائيل تسعى لاستثمار صلاتها بأذربيجان في الحرب الحالية بهدف حصار إيران، أو زيادة الضغط عليها، رأى يزبك أن "إسرائيل تحاول توريط أذربيجان هذه المرة، لكن الدولة الواقعة جنوب القوقاز لم تستجب حتى الآن".
ومع ذلك، يتساءل الأكاديمي: "هل يغير الضغط الأميركي موقف باكو؟ هذا ما سيجيب عنه المستقبل".
تاريخ من التوتر بين طهران وباكو
شهدت العلاقات بين طهران وباكو توترات عديدة على مدى السنوات الماضية، شملت اعتقال أفراد على الحدود، هجوم على بعثات دبلوماسية، واعتقال عملاء.
وفي أكتوبر 2022، أجرت إيران تدريبين عسكريين كبيرين قرب الحدود مع أذربيجان، واعتبرت أنها "إشعار مناسب" لجارتها الشمالية.
وفي نوفمبر من نفس العام، اعتقلت السلطات الأذربيجانية 19 شخصاً بتهمة تلقي تدريبات من قبل إيران لتنفيذ عمليات في أذربيجان. وتكررت هذه الاعتقالات في سنوات لاحقة بتهم مشابهة.
إلا أن العلاقات ساءت أكثر في يناير 2023، بعد تعرض سفارة أذربيجان في طهران لهجوم مسلح، قتل أحد موظفيها وأصاب اثنين آخرين، لتقوم باكو بإغلاق سفارتها وإخلاء موظفيها، ولم تبق سوى على القنصلية العامة في تبريز.
وبحسب تقرير لموقع "إيران إنترناشيونال"، وصل التوتر بين البلدين إلى حد أن الحرس الثوري الإيراني حشد في بعض الأحيان مقاتليه على الحدود مع أذربيجان. إذ لطالما توجست طهران من التعاون العسكري بين أذربيجان وإسرائيل، التي تعد مزوداً مهماً للأسلحة لباكو، وتساورها الظنون بأن تل أبيب قد تستخدم الأراضي الأذرية للتحرك ضدها.
وأشار سعيد شاوردي لـ"الشرق" إلى أن إيران "اعتقلت عدداً من الجواسيس الذين اعترفوا بتلقي تدريبات في أذربيجان على يد عناصر تابعة للموساد، بهدف تنفيذ هجمات وأعمال تجسس داخل إيران".
وأضاف: "سبق أن ادّعت إسرائيل حصولها على وثائق نووية إيرانية تم تهريبها عبر الأراضي الأذربيجانية، رغم نفي كل من طهران وباكو لهذه المزاعم".
كما تطرق شاوردي إلى حادثة سقوط طائرة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي العام الماضي، والتي وقعت عقب لقائه مع نظيره الأذربيجاني إلهام عليف وافتتاح سد مشترك. وأضاف أنه "رغم غياب اتهامات رسمية، ربطت بعض الأوساط الإعلامية في إيران بين الحادثة وفرضية وجود تشويش إلكتروني في المنطقة الحدودية".
مع ذلك، يرى المحلل السياسي الإيراني أن العلاقات بين إيران وأذربيجان لا تزال مستقرة نسبياً، والخلافات محكومة بسقف سياسي، مشيراً إلى أن الطرفين "يدركان حاجتهما لبعضهما البعض، ومن المرجح أن تستمر في التعاون الاقتصادي والأمني المشترك بما يخدم المصالح المشتركة".
من بين المسائل الخلافية مع أذربيجان أيضاً، اعتراض إيران على إقامة ممر "زنجازور" الذي من شأنه منح أذربيجان حرية الوصول دون عوائق إلى جمهورية ناخجوان المتمتعة بالحكم الذاتي عبر مقاطعة سيونيك في أرمينيا، ما يعني أيضاً ربط تركيا عبر أذربيجان ببقية الدول الناطقة بالتركية. إلا أن إيران ترى أن هذا الممر يُهدد حدودها التاريخية مع أرمينيا، حليفتها في المنطقة.
وأوضح شاوردي أن "قطع هذا الاتصال الجغرافي (مع أرمينيا) قد يخنق تواصل إيران مع القوقاز وآسيا الوسطى". وتابع: "رغم توقف تنفيذ المشروع فعلياً، لكن طهران تعتبر هذا الملف حساساً للغاية".
سياسة باكو الخارجية
رداً على سؤال بشأن احتمالية استعداد أذربيجان للتعاون مع إسرائيل للضغط على إيران خلال الحرب الحالية، اعتبر أحمد شهيدوف، رئيس معهد أذربيجان للديمقراطية وحقوق الإنسان، أن "هذا موضوع حساس، وغالباً ما يُساء فهمه".
وأوضح أن "هناك الكثير من التكهنات تفترض أن العلاقات بين أذربيجان وإسرائيل قد تُستخدم ضد إيران، لكن في الحقيقة، الأمر أكثر تعقيداً مما يُشاع. أولاً، تشترك أذربيجان بحدود طولها 765 كيلومتراً مع إيران، ولديهما روابط تاريخية ودينية وعرقية عميقة، ويعيش اليوم أكثر من 30 مليون أذري العرق داخل إيران. وهذا وحده يجعل علاقتنا مع إيران دقيقة وحساسة للغاية".
وأضاف: "من الناحية الرسمية، وهو ما كررته أذربيجان مراراً، فإنها لا تسمح باستخدام أراضيها ضد أي دولة مجاورة، هذه قاعدة راسخة في سياستها الخارجية، نعم، هناك تعاون عسكري وأمني مع إسرائيل، لكنه يهدف فقط إلى تعزيز قدرات أذربيجان الدفاعية، من الطبيعي أن تكون لإسرائيل مصالح استراتيجية في جنوب القوقاز، وباكو لاعب إقليمي رئيسي في المنطقة، لكن أن تسمح باستخدام أراضيها كمنصة انطلاق لعمليات ضد إيران، فهذا ببساطة غير واقعي، ولا يتماشى مع السياسة الأذربيجانية الخارجية، ولا مع مصالح أمنها القومي".
ويرى رئيس معهد أذربيجان للديمقراطية وحقوق الإنسان في حديثه لـ"الشرق"، أن "باكو لن تتورط في صراع ليس صراعها، فشراكة أذربيجان مع إسرائيل تقوم على الاحترام والمصالح المتبادلة، ولا تأتي على حساب علاقاتنا مع جيراننا الآخرين، بما في ذلك إيران".