
مهدت المحكمة العليا الأميركية، الطريق أمام الرئيس دونالد ترمب لتنفيذ أجندته السياسية بعراقيل قضائية "أقل"، بعدما عطّلت الأسبوع الماضي قدرة القضاة الفيدراليين على تجميد أوامر البيت الأبيض التنفيذية على المستوى الفيدرالي، وسط تحذيرات من المنتقدين بأن قرار المحكمة قد يمنح ترمب بما وصفوه بـ"رئاسة إمبراطورية".
في الظاهر، يتعلق قرار المحكمة العليا بمسألة قانونية إجرائية بشأن ما إذا كان القضاة الفيدراليون لديهم سلطة إيقاف تنفيذ أمر رئاسي في الولايات الأميركية الخمسين. وقررت هيئة المحكمة أن القضاة الفيدراليين لديهم صلاحية البت في قضايا بين الأطراف المعنية بالدعوى القضائية، ولا يجب أن تكون أوامرهم القضائية مرتبطة بالجغرافيا، لتنطبق على كل الولايات الخمسين.
لكن تأثير القرار يتجاوز حدود الشكل القانوني، ويعيد تعريف "حدود السلطة التنفيذية" في وقت بالغ الحساسية، تشهد فيه الولايات المتحدة معارك بين السلطتين القضائية والتنفيذية، وجدلاً قانونياً بشأن "حدود" سلطات الرئيس.
رئاسة إمبراطورية
المستشار القانوني الأول في The Lawfare Project، وهي مؤسسة بحثية قانونية دولية غير ربحية ومقرها نيويورك، جيرارد فيليتي، اعتبر في تصريحات لـ"الشرق"، أن قرار المحكمة العليا "يجعل من الصعب على المدّعين الحصول على إيقاف شامل لتطبيق أوامر تنفيذية معينة، ويزيد من احتمالية صدور أحكام متباينة في قضايا متشابهة، فبعض المحاكم قد تصادق على أوامر تنفيذية، بينما تعارضها محاكم أخرى".
وأضاف فيليتي، أن "قرار المحكمة العليا يقلّص بدرجة كبيرة من سلطة القضاء في أن يكون رقيباً مباشراً على القرارات التنفيذية، خصوصاً على مستوى محاكم الدرجة الأولى"، محذراً من أن هذا الحكم يسرع العودة إلى مرحلة "الرئاسة الإمبراطورية"، التي شهدتها الولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين.
وأطلق المؤرخ الأميركي آرثر شليزنجر الابن، في عام 1973، مصطلح "الرئاسة الإمبراطورية"، لوصف توسع سلطات الرئاسة لتتجاوز الحدود الدستورية، وهي فترة بدأت منذ منتصف القرن العشرين مع الحرب العالمية الثانية، واستمرت خلال الحرب الباردة.
وانتهت فترة "الرئاسة الإمبراطورية" في سبعينيات القرن الماضي، عقب فضيحة "ووترجيت" ونهاية حرب فيتنام. آنذاك، لتُظهر المحاكم استعداداً لإصادر أحكام ضد الرئاسة، مثلما حدث عندما أجبرت المحكمة العليا، الرئيس السابق ريتشارد نيكسون، على تسليم تسجيلات مكتبه البيضاوي. وعمل مشرعون من الحزبين معاً لسن قوانين تفرض قيوداً جديدة أو تعيد العمل بقيود سابقة على ممارسة السلطة التنفيذية.
الخبير الاستراتيجي الجمهوري، ماثيو كلينك، يرفض هذه الفكرة، ويشدد على أن قرار المحكمة العليا، لا يمنح ترمب "رئاسة بصلاحيات أكبر أو رئاسة إمبراطورية"، مشيراً إلى أن حصل هو "تصحيح لوضع غير طبيعي، حيث كان من الممكن لقاضٍ غير منتخب في منطقة واحدة أن يوقف قرارات رئيس منتخب على مستوى البلاد".
وقال كلينك لـ"الشرق"، إن المحكمة العليا "لم تنتصر لترمب، بل أنصفته ضد تسييس عمل القضاة الفيدراليين، إذ كان الديمقراطيون يعرقلون أجندة ترمب عبر رفع قضايا في محاكم جزئية في مقاطعات ديمقراطية، ليصدر القاضي الفيدرالي بالمحكمة قراراً بوقف الأمر التنفيذي في سائر البلاد".
وأضاف أن "هذا القرار سيعود بالفائدة على جميع الرؤساء في المستقبل، سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين، وبالتالي من غير الصواب القول إنه يهم ترمب فقط".
سلاح "الحظر الشامل"
وقبل صدور قرار المحكمة العليا، كان لدى أكثر من 1000 قاضٍ فيدرالي يشتغلون في 91 محكمة جزئية في الولايات الخمسين، صلاحية إصدار أوامر "الحظر الشامل" Nationwide injunctions على مستوى البلاد، بموجبها يمكن لقاض فيدرالي واحد إيقاف الحكومة عن تنفيذ سياسات معينة. أما الآن، فأحكام هؤلاء القضاة لن تنطبق إلا على الأطراف الفعلية التي رفعت الدعوى القضائية.
وخلال ولاية ترمب الثانية، استخدم القضاة الفيدراليون، أوامر الحظر الشامل لإيقاف سياسات ترمب التي أقرها بأوامر تنفيذية، بما في السياسات المتعلقة بإقالة موظفين حكوميين، وتعليق تمويل المساعدات الخارجية، ومنع نقل نساء متحولات جنسياً في السجون الفيدرالية إلى أقسام الرجال. بعض تلك الأوامر بالحظر الشامل أبطلتها محاكم استئناف أعلى، لكن العديد منها، بقيت مجمدة.
وبحسب البيت الأبيض، أصدر القضاة الفيدراليون، 40 أمراً بالحظر الشامل ضد أوامر ترمب التنفيذية في ولايته الثانية، وجاءت 35 من هذه الأوامر بالحظر الشامل من 5 مقاطعات ديمقراطية في ولايات كاليفورنيا، ماريلاند، ماساتشوستس، واشنطن بالإضافة إلى واشنطن العاصمة.
وترى إدارة ترمب أن قضاة المحاكم الجزئية، يستخدمون هذه الأوامر للتدخل في أجندة الرئيس بطرق تتجاوز الدور الدستوري الممنوح للقضاة الفيدراليين. أما منتقدو ترمب، فيرون أن تزايد استخدام هذه الأوامر يرجع إلى ما يعتبرونه ميلاً متزايداً من الإدارة لتجاوز القانون في سبيل تحقيق أهدافها السياسية.
الخبير الاستراتيجي الجمهوري، اعتبر أن "ما فعله قرار المحكمة العليا هو ببساطة استعادة التوازن الذي كان الكونجرس قد حدّده في القوانين التي أُقرت أواخر القرن الثامن عشر بهذا الشأن. وكما أوضح الحكم، فإن الأوامر القضائية الشاملة لم تكن جزءاً من العلاقة بين السلطة التنفيذية والقضائية إلا في وقت ما من القرن العشرين".
ورغم أن بعض الباحثين يعيدون جذور أوامر الحظر الشاملة إلى أوائل القرن العشرين، إلا أن استخدامها الواسع كأداة لكبح السلطة الرئاسية يُعد حديثاً نسبياً، وقد تم توجيهها ضد رؤساء من كلا الحزبين.
وبحسب تقرير لمركز "خدمات أبحاث الكونجرس"، فقد أُصدر 12 أمر حظر شامل خلال فترة رئاسة جورج دبليو بوش، و19 أمراً خلال رئاسة باراك أوباما، و86 أمراً من هذا النوع خلال الولاية الأولى للرئيس ترمب.
ماذا بعد إبطال الحظر الشامل؟
الخبير القانوني جيرارد فيليتي، أشار إلى أنه من دون أوامر قضائية شاملة، "يمكن لأوامر الرئيس التنفيذية أن تُطبّق في بعض المناطق القضائية بينما يتم الطعن فيها في مناطق أخرى، إلى أن تتدخّل المحكمة العليا وتصدر قراراً نهائياً. على سبيل المثال، قد يدخل قرار إنهاء حق المواطنة بالولادة حيّز التنفيذ في مناطق محددة قبل أن تُصدر المحكمة العليا تفسيراً واضحاً للتعديل الرابع عشر في الدستور"، الذي ينص على حق الجنسية بالولادة.
وأضاف في تصريحات لـ"الشرق": "أما الترحيلات الجماعية، فقد تُنفّذ بشكل مجزأ: محاكم محلية قد توقفها ضمن نطاقها، لكن ليس على مستوى البلاد، مما يتيح تطبيقها في ولايات أخرى. وبالمثل، قد تُستخدم سلطات الطوارئ، مثل قانون التمرد، على نطاق واسع قبل أن يُشكّل القضاء استجابة فعالة. هذه التجزئة ستخلق سباقاً فعلياً نحو المحكمة العليا، باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على إعادة فرض الاتساق القانوني على مستوى البلاد".
وبالرغم من هذا الوضع، يشير فيليتي، إلى أنه "لا تزال لدى المحاكم أدوات لتقييد السلطة التنفيذية. يمكننا توقّع لجوء أكبر إلى الدعاوى الجماعية، التي يمكن أن تحقق تأثيراً واسعاً من دون أن تُوصف بأنها تشمل كل البلاد. كما أن المحاكم لا تزال قادرة على إعلان أن سياسة ما غير دستورية، وهو قرار لا يُطبّق مباشرة إلا على الأطراف المعنية، لكنه يحمل وزناً قانونياً كبيراً ويحفّز على المزيد من التقاضي".
وعلى نطاق أوسع، يضيف الخبير القانوني: "لا تزال القضايا قابلة للاستئناف السريع أمام المحكمة العليا، التي تبقى صاحبة القول الفصل. لكن، من حيث المبدأ، يبدو أن عهد التدخل القضائي السريع ضد السياسات التنفيذية الواسعة قد انتهى، وسيلعب القضاء الآن دوراً أبطأ وأكثر تفاعلاً مما كان عليه سابقاً في كبح السلطة الرئاسية".
ماذا عن دور الكونجرس؟
وعن الأدوات المتاحة للمحاكم من أجل كبح أي تجاوزات محتملة للبيت الأبيض في ظل الوضع القانوني الجديد، يقول الخبير في الشؤون الحكومية الأميركية جيف لي لـ"الشرق"، إنه "لا تزال هناك إمكانية للطعن من خلال محاكم الاستئناف العليا، التي قد تنحاز إلى الجهة التي تتحدى الإجراء التنفيذي. لكن ذلك يستغرق وقتاً، ولا توجد ضمانات بأن المحكمة العليا ستنظر القضية. الأدوات المتاحة في يد القضاء باتت أضيق بكثير الآن".
وحذر من أن ما تشهده الولايات المتحدة في هذه الحالة، هو "تقليص ملحوظ لقدرة المحاكم على كبح توسع سلطات الرئيس"، خصوصاً في ظل تراجع الدور الرقابي للكونجرس على حكم الرئيس ترمب.
وأوضح جيف لي: "ستكون هناك آثاراً كبيرة لقرار المحكمة العليا. ليس فقط عبر منح إمكانية تنفيذ السياسات الحالية، بل أعطته إمكانية تنفيذ أي أمر تنفيذي يصدر عن البيت الأبيض مستقبلاً. وحتى في حال أراد الكونجرس إصدار تشريعات لعكس تلك السياسات، فإن الرئيس يستطيع استخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي تشريع من هذا النوع، ولا يمكن لتشريعات الكونجرس تجاوز الفيتو الرئاسي سوى بحصولها على ثلثي الأصوات، وهو أمر شبه مستحيل في ظل سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب والشيوخ".
ولفت الخبير إلى أن هذا الوضع يجعل "السلطة متركزة في يد البيت الأبيض، ولن تتمكن المحاكم من عرقلة هذه الإجراءات إلا في نطاق ضيق جداً، ما لم يُصدر حكم من محكمة عليا بهذا الخصوص".