
مع زيارة رئيس إيران مسعود بيزشكيان إلى باكستان بداية الشهر الجاري، والإعلان عن اتفاقيات اقتصادية، عادت الأنظار لتتركز على العلاقة بين البلدين الجارين، خصوصاً أنها أول زيارة خارجية له منذ وقف إطلاق النار مع إسرائيل.
يتشارك البلدان حدوداً يزيد طولها عن 900 كيلومتر، ويكمل كل منهما الآخر في العديد من القطاعات الاقتصادية، خصوصاً الطاقة، وهو ما يفترض أن يكون داعماً كبيراً لزيادة التبادلات التجارية.
لكن على أرض الواقع يختلف الوضع، إذ لا يزال التبادل التجاري بين البلدين ضمن نطاق ضيق جداً، في وقت تدخل على الخط العديد من العوامل التي تعيق تطوير هذه العلاقات.
توقيع 12 اتفاقية بين إيران وباكستان
جاءت زيارة الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان إلى باكستان بدعوة من رئيس الوزراء شهباز شريف، حيث جرى توقيع نحو 12 اتفاقية تعاون في مجالات مختلفة.
بزشكيان شدد على أن الهدف الرئيسي يتمثل في رفع قيمة التبادل التجاري بين البلدين إلى 10 مليارات دولار سنوياً، وهو هدف أكد وزير الخارجية الباكستاني محمد إسحق دار على إمكانية تحقيقه، معتبراً أن "باكستان تقف إلى جانب إيران في تحقيق هذا الهدف المشترك".
هذا التصريح لم يكن الأول من نوعه، إذ ورد الرقم في تصريحات إيرانية سابقة. ففي أبريل 2024، كشف الرئيس السابق إبراهيم رئيسي، الذي توفي في حادث تحطم طائرة مروحية، عن خطط لـ"تعزيز التفاعلات الاقتصادية إلى مستوى 10 مليارات دولار"، مضيفاً خلال زيارته باكستان، أن هذا الهدف "يمكن تحقيقه بالتأكيد".
تحديات مباشرة أمام الوصول إلى هذا الرقم
لكن تحقيق هذا الهدف يصطدم أولاً بضرورة زيادة الحركة التجارية بنسب يصعب تحقيقها على المدى القريب.
بحسب بيانات وزارة التجارة الباكستانية، سجل حجم التبادل التجاري في 2019 (آخر سنة نُشرت فيها البيانات)، نحو 537.3 مليون دولار. أي أن التجارة البينية يفترض ارتفاعها 1760% لتصل إلى المبلغ المحدد.
التدقيق في الأرقام يظهر عائقاً جديداً، فبحسب البيانات ذاتها، صدرت باكستان ما قيمته 4.6 مليون دولار فقط إلى إيران خلال ذلك العام، وهو انخفاض عن مستويات 2017 التي سجلت 26 مليون دولار.
لم تنكر الوزارة وجود تحديات أمام التجارة الثنائية، إذ أرفقت مع البيانات بنداً خاصاً عددت فيه بعض العوائق مثل غياب القنوات المصرفية، وجود عوائق غير جمركية تتمثل في ضريبة الطرق الباهظة وضريبة الحمولة على الشاحنات الباكستانية، بالإضافة إلى رسوم باهظة تفرضها إيران على صادرات المواد الغذائية.
رغم أن هذه الأرقام تعود لعام 2019، فإن بيانات أحدث تكشف أن التفاوت لا يزال قائماً بشكل كبير. إذ يشير "مرصد التعقيدات الاقتصادية" إلى أن إيران صدرت إلى باكستان ما قيمته 943 مليون دولار في 2023، شكل النفط والغاز والمشتقات النفطية نحو 60% منها، في حين أن باكستان صدرت بضائع قيمتها 9.9 مليون دولار في العام ذاته، غالبيتها آليات تُستخدم في عمليات البناء والتشييد.
لا يوجد تفاصيل بشأن الاتفاقيات الموقعة بين البلدين خلال زيارة بيزشكيان الأخيرة، لكنها شملت مذكرات تعاون في مجال النقل والترانزيت، بالإضافة إلى التعاون التجاري والاقتصادي، وهما مجالان يندرجان تحت العوائق التي حددتها الوزارة.
أبرز أسباب التقارب بين البلدين
تكرار التصريحات الإيرانية بشأن زيادة التبادل التجاري، والتي لاقت دعماً من الطرف الآخر، توحي بأن هناك إرادة بتعزيز العلاقات التجارية، ولو لم تصل إلى هذه الأرقام في المراحل الأولى.
يرى الخبير بمجال الطاقة والأستاذ الزائر في جامعة "جورج ميسون" أمود شكري، أن محاولات تحسين العلاقات تعود بدرجة رئيسية إلى "التحديات الأمنية المشتركة، ولاسيما نشاط المجموعات المسلحة على الحدود".
وأضاف في تصريحات لـ"الشرق"، بأن طهران ترى في هذا التقارب فرصة لـ"تأمين حدودها الشرقية، كما يوفر قنوات بديلة لتصدير الطاقة، وهو أمر حيوي في ظل الضغوط الاقتصادية المتزايدة بفعل العقوبات".
يوفر تعميق الانخراط مع باكستان لإيران من حيث المبدأ، سوقاً أكثر استقراراً لتصدير النفط والغاز، والأهم "بوابة استراتيجية إلى جنوب آسيا، تساعدها على مواجهة عزلتها الدولية" وفق شكري، مضيفاً أن تعزيز التقارب يمكن أن يفتح الباب أمام "الالتفاف على العقوبات الأميركية عبر آليات المقايضة أو التعامل بالعملات المحلية".
أما إسلام آباد، فتسعى بحسب شكري إلى "إيجاد حلول لعجزها المزمن في الطاقة، وتنويع علاقاتها التجارية بعيداً عن الشركاء التقليديين مثل الولايات المتحدة والهند"، ما يعزز استقلالها الاستراتيجي.
لم يختلف فريدريك شنايدر، زميل بارز في "مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية" في تحليله لأسباب التقارب. إذ اعتبر أن أسباب التقارب الأخير "مزيج من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية".
وأضاف في تصريحات لـ"الشرق" أن إيران "تواجه ضغوطاً اقتصادية حادة بسبب العقوبات الغربية، وتستعد لاحتمال فرض عقوبات إضافية إذا ما تم تفعيل آلية سناب باك" (إعادة فرض العقوبات التي أقرها مجلس الأمن ورفعت بموجب الاتفاق النووي لعام 2015).
التوترات الجيوسياسية قد تعود بعد هدوء مؤقت
أما ما خص الأسباب السياسية، فرأى شنايدر أنه رغم استمرار وقف إطلاق النار بعد الحرب المفاجئة التي شنتها إسرائيل على إيران، فإن "أياً من القضايا الجوهرية لم تحل، كما أن المحادثات النووية تبدو متوقفة بشكل دائم، ما يعني أن تصعيداً جديداً شبه حتمي"، وبالتالي هناك حاجة لتنويع الشركاء التجاريين.
أما على الجانب الباكستاني، فعلى الرغم من أن الاقتصاد يبدو مستقراً بعد أن حصلت الحكومة على حزمة دعم من صندوق النقد الدولي العام الماضي، وتلقيها مراجعة إيجابية أولى في مايو، إلا أن "أمامه طريقاً طويلاً، وتحسين العلاقات الاقتصادية الثنائية مع إيران يُعد مكسباً سهلاً"، وفق شنايدر.
وتماماً كإيران، تواجه باكستان نزاعاً مجمداً مع الهند. فرغم التوصل لوقف النار، لكن نزاع إقليم كشمير لم يُحل، ما يجعل "نشوب صراع مستقبلي أمراً مرجحاً".
ولفت إلى أن المصالح الاستراتيجية بين البلدين متقاربة في كثير من الجوانب، إذ يواجهان "حركة انفصالية عابرة للحدود على حدودهما المشتركة. ويحتاج الطرفان إلى تنويع شراكاتهما الاستراتيجية تحسباً لتصعيد مستقبلي محتمل".
تحديات خارجة عن إرادة البلدين
رغم ذلك، فإن لائحة التحديات أمام البلدين لترسيخ هذا التعاون تطول، والكثير منها خارجة عن إرادة البلدين.
أبرز هذه التحديات تتمثل في العقوبات الأميركية المفروضة على طهران، بحسب رئيس تحرير موقع "الإندبندنت الأردية" بكر عطياني.
وأوضح في تصريحات لـ"الشرق"، أن باكستان تتخوف من قانون "كاتسا" (مواجهة خصوم أميركا من خلال العقوبات)، والذي يسمح لواشنطن بفرض عقوبات على أي دولة تتعامل تجارياً مع إيران، ما قد "يؤثر على المعاملات المالية في باكستان وعلى حركة التجارة الباكستانية في العالم".
التجارة الحدودية بين البلدين تواجه عوائق أخرى، في مقدمتها المشكلات الأمنية على الحدود، والبنية التحتية الضعيفة جداً في هذه المناطق، بالإضافة إلى عمليات التهريب، وفق عطاني، لافتاً إلى تقارير تشير إلى أن نحو 40% إلى 50% من التجارة الحدودية غير رسمية.
نبه عطاني المقيم في باكستان، إلى أن سردية تطوير العلاقات تعود إلى سنوات طويلة، فـ"الحديث عن الاتفاقيات الثنائية بدأت عام 1999، وتم بلورتها والسير بها ببطء". وحتى بعد زيارة رئيسي، "تم افتتاح سوقين بين البلدين، لكنها أسواق صغيرة جداً لا يمكن تسميتها تجارة حرة بين البلدين في هذه المناطق".
خط الأنابيب أبرز الأمثلة على آثار العقوبات الأميركية
يرسم خط أنابيب الغاز بين باكستان وإيران أوضح صورة عن تأثير العقوبات الغربية عموماً والأميركية خصوصاً. فهذا الخط الذي بدأ تصوره الأولي في 1995 بعد التوقيع على الاتفاقية الأولية، لم يتم افتتاحه حتى الآن.
يبلغ طول خط الأنابيب نحو 2750 كيلومتراً، وكان مشروعاً مشتركاً بين كلّ من إيران والهند وباكستان. انسحبت الهند منه عام 2009 بعد توقيعها اتفاقاً مع الولايات المتحدة عام 2008 لشراء معدات نووية.
من جهتها، أكملت إيران بناء خطوط الأنابيب الواقعة على أراضيها بحلول 2011 باستثمار قدره مليارا دولار، في حين لا يزال الجزء الباكستاني غير مكتمل لحد كبير بسبب المخاوف من العقوبات الأميركية، ما دفع إيران بالتهديد إلى اللجوء للتحكيم الدولي.
ويرى شكري في هذا السياق، أن "العقبات المستمرة، منها نقص الطاقة داخل إيران، والتوترات الجيوسياسية، والأثر المثبط للعقوبات، تجعل تدفق الغاز فعلياً أمراً غير مرجح في المدى القصير".
وأضاف الخبير في مجال الطاقة أنه "على الرغم من استمرار المشاورات الثنائية وتصوير الجانبين للمشروع باعتباره ذا أهمية استراتيجية، فإن التردد في التنفيذ لا تزال السمة الأبرز للمشروع"، معتبراً أن مستقبل الخط "سيعتمد على القدرة على تجاوز القيود العملية والضغوط السياسية الخارجية، ما يجعل تحقيقه أمراً غير مضمون في الوقت الراهن".
روسيا والصين تزيدان من تعقيد المشهد
لا تقتصر التحديات على الملفات الثنائية، بل تمتد إلى شبكة أوسع من العلاقات والتحالفات الدولية المؤثرة على الطرفين، فإيران وباكستان لديهما علاقات متشابكة مع كلّ من روسيا والصين، في حين أن باكستان تُعتبر حليفة مباشرة للولايات المتحدة الأميركية. واللافت أن توقيع المذكرات مع إيران، جاء بعد أيام من اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، يتضمن أيضاً "تطوير احتياطيات النفط الضخمة لديها".
هذا التشابك يزيد من تعقيدات العلاقة بين البلدين والولايات المتحدة. ويرى شنايدر في هذا الإطار أن البلدين يُعدان ركيزة لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية، معتبراً أن أولويات واشنطن تتمثل في "تعطيل الممر الاقتصادي الصيني"، وإذا رأت أن باكستان هي "الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، فقد تمارس عليها مزيداً من الضغط من خلال عقوبات اقتصادية".
قد تتغاضى الولايات المتحدة عن خطط تعزيز العلاقات بين إيران وباكستان، ولكنه احتمال ضعيف وفق شنايدر، الذي رجح أن تمارس واشنطن ضغوطاً "اقتصادية ودبلوماسية، وربما محاولات تغيير النظام بشكل مباشر أو غير مباشر في إيران وربما في باكستان"، ما قد يؤدي إلى "زعزعة استقرار المنطقة بأسرها".
ونبه إلى أن الضغط قد يدفع باكستان إلى "الارتباط بشكل أوثق بالحلفاء الآسيويين المحتملين أكثر من الولايات المتحدة، فتقرر الاصطفاف معهم".
أما الرضوخ للضغط الأميركي، فقد "يخلق توترات داخلية هائلة وربما اضطرابات شعبية قد لا تستطيع الحكومة تحملها".
ورأى أن "هناك معسكرين يبرزان، أحدهما تقوده الولايات المتحدة والآخر تقوده الصين. وفي حين أن إيران ثابتة في أحد المعسكرين، فإن موقعي باكستان والهند في حالة تقلب"، مضيفاً: "إذا استمرت الاتجاهات طويلة المدى الحالية، فسوف تنتهي باكستان في النهاية بعلاقة قوية مع الصين وإيران".
أما شكري، فاعتبر أن الكثير من أوجه التعاون الراهنة "ذات طابع تكتيكي يمليه الاحتياج الفوري"، ولكنها توحي بـ"إمكان حدوث إعادة تموضع طويل الأمد".
وأوضح أنه "مع استثمار كل من طهران وإسلام آباد قدراً ملحوظاً من الجهد السياسي في تعزيز الثقة والتعاون المؤسسي، يبدو أن الشراكة مهيأة لتتجاوز الحسابات قصيرة المدى، إذا استمرت الاتجاهات الحالية".
ملفات داخلية أكثر تعقيداً وحساسية
وإذا كانت الضغوط الدولية تشكل تحدياً مشتركاً، فإن الملفات الداخلية لا تقل تعقيداً في صياغة سياسة البلدين تجاه بعضهما البعض.
واعتبر عطياني أن "باكستان حليفة للولايات المتحدة"، ولكن هناك بعض الملفات السياسية الشائكة التي قد تدفعها إلى التعاون مع إيران.
من هذه الملفات "نشاط الهند في إيران ضد باكستان"، مشيراً إلى أن البلاد "تصنف الهند في العقيدة العسكرية بأنها عدو"، بالإضافة إلى ميناء تشابهار الذي ساهمت الهند في تطويره لمنافسة ميناء جوادر الباكستاني والذي ساهمت الصين في تطويره، ناهيك عن "حضور جيش تحرير بلوشستان على الطرف الإيراني من الإقليم" الذي تصنفه إسلام آباد تنظيماً إرهابياً، وهو ملف أدى في 2024 إلى تبادل للقصف بين إيران وباكستان.
بالإضافة لذلك، فإن إيران التي ينص دستورها على مبدأ "تصدير الثورة" تُتهم بتمويل ودعم جماعات مسلحة داخل باكستان، على غرار "لواء زينبيون" والذي شارك في القتال إلى جانب إيران في سوريا، ما فاقم التوترات بين البلدين.
توضح مؤشرات عدّة أهمية تطوير العلاقة بين البلدين، خصوصاً وسط ملفات شائكة ومعقدة بين الجانبين، لكن الظروف الجيوسياسية قد تحتم على باكستان اختيار طرف في هذه المعادلة.
وبحسب السياق التاريخي ونسب التجارة بين الجارتين خلال السنوات الماضية، والتوترات الجيوسياسية، فإنها على الأرجح لن تختار أن تكون في الصف الإيراني والمراهنة بإغضاب الولايات المتحدة، على الأقل في الوقت الحالي، وتحديداً بعد الخلاف بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء ناريندرا مودي، بعدما ضاعف الرسوم الجمركية على الهند لشراء نفط روسيا، ما قد يشكل فرصة لا تعوض أمام إسلام آباد لزيادة علاقاتها الاقتصادية مع واشنطن.