
يواجه اللاجئون السوريون في ألمانيا، مصيراً غامضاً مع تصاعد تصريحات المسؤولين الألمان، وعلى رأسهم المستشار فريدريش ميرتس، بشأن إعادة بعض فئات اللاجئين إلى بلادهم بدعوى انتهاء الحرب في بلادهم، فيما تتنامى موجة العداء الشعبي تجاه المهاجرين في كافة أنحاء أوروبا.
ويأتي هذا الخطاب، رغم تحذيرات خبراء اقتصاديين من أن تقليص أعداد المهاجرين قد يفاقم أزمة نقص العمالة في السوق الألمانية، التي تحتاج سنوياً إلى مئات الآلاف من الكفاءات للحفاظ على استقرار قوة العمل.
وفي ظل هذه الأجواء، انخفض عدد السوريين الوافدين إلى ألمانيا، إلى النصف تقريباً منذ الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد، بحسب أحدث بيانات صادرة عن المكتب الفيدرالي الألماني للإحصاء "ديستاتيس".
فبين يناير وسبتمبر 2025، وصل نحو 40 ألف سوري إلى ألمانيا، مقارنةً بما يقارب 74 ألفاً و600 سوري خلال الفترة نفسها من العام الماضي، بنسبة انخفاض تصل إلى 46.5%.
ولا يوجد تفسير واضح لهذا الانخفاض الحاد، إذ يُرجح ارتباطه بعوامل عدة، بحسب سيلين تينيه، الأستاذة في معهد علم الاجتماع بجامعة برلين الحرة، إذ اعتبرت في تصريحات لـ"الشرق"، أن "من بين هذه العوامل، تغيّر نظرة السوريين إلى ألمانيا التي لم تعد تعتبر وجهة مرحبة ومنفتحة كما كانت في السابق".
توضح تينيه، أن "النقاشات العامة حول العودة، والقيود المتزايدة على المساعدات الاجتماعية، تعكس مناخاً أقل ترحيباً"، مشيرةً إلى أن بعض السوريين باتوا يرون أن هناك "درجة من الاستقرار في بعض مناطق سوريا، رغم أن الوضع لا يزال غير آمن بالنسبة لكثيرين"، ولذلك، "لم يعد ثمن ومخاطر الهجرة البعيدة مبرّراً".
ورأت أن تراجع أعداد المهاجرين السوريين يعكس أيضاً "تغيّرات في الفرص والسياسات والانطباعات، وليس ببساطة نهاية للحرب".
تصاعد الضغوط السياسية
وتتواصل في ألمانيا النقاشات العامة بشأن إعادة اللاجئين، وسط تصاعد الخطاب السياسي الداعي إلى تشديد السياسات. فقد أشار المستشار الألماني فريدريش ميرتس، المنتمي إلى "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" المحافظ، بأن "الحرب الأهلية في سوريا قد انتهت، ولم يعد هناك مبرر للجوء في ألمانيا، وبالتالي يمكننا البدء في إعادة اللاجئين".
وهدد بـ"ترحيل أولئك الذين يرفضون العودة إلى البلاد في المستقبل". وأثارت هذه التصريحات ردود فعل غاضبة من منتقدين يرون أن سوريا ما تزال غير آمنة للعائدين.
وسبق لميرتس أن دعا الرئيس السوري أحمد الشرع، لزيارة ألمانيا لمناقشة أوضاع السوريين ذوي السجلات الجنائية.
وتبدو أبواب اللجوء في ألمانيا، آخذة في الانغلاق، بعد أن طويت صفحة سياسة "الباب المفتوح" التي انتهجتها المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، ليس فقط تجاه السوريين، بل أيضاً تجاه لاجئين آخرين.
وفي اتصال هاتفي حديث، طلب ميرتس من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي العمل على "منع تدفق أعداد كبيرة من الشباب الأوكرانيين إلى ألمانيا، وحثهم على البقاء في بلدهم، حيث هناك حاجة ماسة إليهم".
اللجوء من أوكرانيا
أشار المستشار الألماني، إلى أن حكومة بلاده تعتزم إدخال تعديلات على نظام المساعدات الاجتماعية المخصصة للاجئين الأوكرانيين، بهدف جعل العمل خياراً أكثر جاذبية من الاعتماد على الإعانات.
وبحسب وزارة الداخلية الألمانية، ارتفع عدد الرجال الأوكرانيين بين سن 18 و22 عاماً الوافدين إلى ألمانيا أسبوعياً من 19 شخصاً في منتصف أغسطس الماضي إلى ما بين 1400 و1800 بحلول أواخر أكتوبر.
ويعيش حالياً في ألمانيا، أكثر من 1.2 مليون لاجئ أوكراني، إلى جانب نحو 1.2 مليون سوري. وتشير بيانات المكتب الاتحادي للإحصاء "ديستاتيس"، إلى أن عدد سكان ألمانيا يبلغ حالياً نحو 83.5 مليون نسمة، من بينهم 14.1 مليون أجنبي.
ولا يزال ملف الهجرة يثير انقساماً عميقاً في ألمانيا، لا سيما بعدما دفع حزب "البديل من أجل ألمانيا" AfD، اليميني المتشدد، بهذه القضية إلى صدارة الجدل السياسي، مطالباً بعمليات "عودة جماعية" أو ترحيل لأشخاص من أصول مهاجرة، وردّت الأحزاب الرئيسية بخطاب أكثر تشدداً لتجنّب خسارة الناخبين قبل الانتخابات البرلمانية المقررة في عام 2029.
مزايدة انتخابية
لكن تشديد الخطاب لم يساعد "الاتحاد المسيحي الديمقراطي" CDU، على استعادة موقعه. ففي نوفمبر الماضي، كان الدعم له ولـ"البديل من أجل ألمانيا"، شبه متساوٍ (26% للأول، مقابل 25% للثاني)، مقارنة بـ29% و23% على التوالي في يونيو.
ويثير التصعيد في الخطاب المناهض للهجرة، تساؤلات في أوساط اقتصادية وسياسية في ألمانيا، بشأن ما إذا كانت الحكومة "تطلق النار على قدميها"، في وقت تواجه فيه البلاد أزمة حادّة في سوق العمل، خصوصاً في ما يتعلق بالعمالة الماهرة.
وتشير تقديرات اقتصاديين، إلى أن ألمانيا تحتاج إلى جذب ما بين 280 ألفاً و400 ألف مهاجر مؤهَّل سنوياً، للحفاظ على استقرار قوتها العاملة على المدى الطويل.
ووفق دراسة أجراها معهد الاقتصاد الألماني IW، وهو مركز أبحاث خاص، فإن نحو 487 ألف وظيفة للعمالة الماهرة ظلت شاغرة في عام 2024، مع احتمال ارتفاع العدد إلى 768 ألف وظيفة بحلول عام 2028.
ويُساهم نحو 80 ألف سوري حالياً في سد فجوات ما يُعرف بـ"المهن الحيوية"، وهي وظائف "تعاني من نقص حاد في العمالة الماهرة"، ويصعب إيجاد من يشغلها.
وتُعد هذه الظاهرة بارزة في ألمانيا، وتشمل مجالات مثل: الرعاية الصحية (كالممرضين والأطباء)، وتقنية المعلومات (مثل مطوري البرمجيات)، والهندسة (الميكانيكية والكهربائية)، والحِرَف الفنية المتخصصة (كالسباكين واللحّامين)، وقطاع النقل (مثل سائقي الشاحنات).
احتياجات سوق العمل
ويعمل السوريون في طيف واسع من المهن، من بينها الهندسة والبناء والتعليم. ويشكّل الأطباء السوريون أكبر مجموعة من الأطباء الأجانب في ألمانيا، إذ يقدَّر عددهم بحوالي 6 آلاف طبيب.
على الرغم من مساهمة المهاجرين، بما في ذلك السوريين، في دعم الاقتصاد الألماني، إلّا أن المواقف الشعبية تجاههم أصبحت أكثر عدائية. ففي عام 2015، رأى 21% من الألمان أن البلاد يجب أن تستقبل عدداً أقل من اللاجئين، بينما ارتفعت هذه النسبة إلى 68% في عام 2025، وفق استطلاع أجرته شركة "إنفرا تست دي ماب" Infratest dimap المختصة في قياس الرأي العام.
انكماش اقتصادي وتحديات متزايدة
وترى سيلين تينيه، أن هذا التحوّل في الرأي العام يرتبط بجملة من العوامل، على رأسها القلق الاقتصادي، مشيرة إلى أنه "عندما يتباطأ الاقتصاد أو ينكمش، يصبح الناس أكثر حساسية تجاه ما يرونه منافسة على السكن والوظائف والمزايا الاجتماعية".
وعلى الرغم من أن ألمانيا لا تزال ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، وأكبر اقتصاد في أوروبا، فإنها تواجه تحديات متزايدة.
وحسبما يشير يورج جوتمن، الأستاذ في معهد القانون والاقتصاد بجامعة هامبورج، فإن الاقتصاد الألماني "انكمش بنسبة 0.9% في عام 2023، و0.5% في عام 2024"، استناداً إلى بيانات مجلس الخبراء الاقتصاديين الألمان، وهو هيئة أكاديمية استشارية للحكومة.
وأضاف جوتمن، في تصريحاته لـ"الشرق"، إلى أن الركود الاقتصادي الذي استمر عامين يبدو أنه انتهى هذا العام، لكن وتيرة النمو لا تزال بطيئة. وأشار إلى أن ألمانيا "ستواجه صعوبات كبيرة دون الهجرة، وخاصة الهجرة الماهرة"، داعياً إلى "خفض الحواجز التنظيمية أمام دخول المهاجرين إلى سوق العمل". لكنه نبّه إلى أن البيروقراطية الألمانية غالباً ما تتحرك ببطء.
نهلة عثمان، محامية ألمانية سورية، تعمل في مجال الهجرة منذ 20 عاماً، أشارت في تصريحات لـ"الشرق"، إلى أن معادلة الشهادة الجامعية في ألمانيا، تستغرق عادةً ما بين 12 شهراً و3 سنوات، وذلك بحسب الولاية، والتخصص، ومدى اكتمال الوثائق. وفي بعض المجالات، مثل الطب والهندسة، قد تكون المدة أطول بسبب الحاجة إلى اجتياز امتحانات إضافية.
وترى في الأمر، تناقضاً، إذ توضح أن ألمانيا "تعاني من نقص حاد في الكفاءات والعمالة، وفي الوقت نفسه تعرقل الإجراءات البيروقراطية البطيئة اندماج السوريين المؤهلين بسرعة في سوق العمل".
وتتابع عثمان: "يمكن القول إن الحكومة لا تتصرف دائماً بما يخدم مصالحها، لأن هذه الإجراءات تؤخر الاندماج في سوق العمل فالعقبات البيروقراطية كبيرة جداً".
ورغم الخطاب العدائي والإجراءات المعقّدة لدخول سوق العمل، لا يفكّر الكثير من السوريين في العودة إلى وطنهم.
وهنا تشير نهلة عثمان، إلى أن "السوريين الذين اندمجوا بشكل جيد، ولديهم إقامة آمنة ووضع مادي مريح، عادةً لا يفكرون بشكل فعّال في العودة إلى سوريا"، مرجعة ذلك إلى "الوضع الأمني، وآفاق المستقبل داخل سوريا، وظروف العائلة".
وتلفت عثمان، في تصريحاتها لـ"الشرق"، إلى أن التفكير في خيار العودة إلى بلدهم الأم، ممكن، ولكن بعد الحصول على الجنسية الألمانية.
وتعتبر أن هناك العديد من المقترحات مثل "النماذج المرنة للعودة"، من بينها السماح بما يُعرف برحلات "تقصّي الحقائق" للراغبين في العودة، لافتة إلى أن "الاطلاع المباشر على الوضع، دون الخوف على الوضع القانوني في ألمانيا، قد يزيد من عدد العائدين طوعاً".
النموذج التركي
يلقي ما يُعرف بـ"النموذج التركي" في قضية المهاجرين، المبني على الاتفاقيات الثنائية بين ألمانيا وتركيا، إذ تم السماح للعمال الأتراك بالعمل في ألمانيا لفترات محددة، ثم العودة بشكل مرن مع إمكانية الرجوع لاحقاً، بظلاله على النموذج السوري، وهنا توضح نهلة عثمان أن "تطبيق ذلك على سوريا قد يعني عودة مؤقتة مع إمكانية إعادة الدخول إلى ألمانيا للعمل أو التدريب".
وتتحدث عثمان عن العديد من المقترحات التي قالت إنها لم تُبحث بشكل كافٍ حتى الآن، وهو ما تسبب في شعور بـ"الإحباط لدى كثير من الناشطين، رغم أن الإمكانيات واضحة".
لكنها تضيف أنه تم عرض هذه المقترحات على عدد من المسؤولين الألمان "الذين أظهروا أنهم يأخذونها على محمل الجد، وسيناقشونها مع سلطات الأجانب ووزراء الداخلية في الولايات" الألمانية.
وقبل الذكرى السنوية الأولى للإطاحة بنظام بشار الأسد، تتراجع أعداد السوريين الوافدين إلى ألمانيا بشكل حاد، لكن لا تزال عمليات العودة الطوعية الواسعة النطاق إلى سوريا غائبة. ووفق المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين، عاد ألفان و869 شخصاً فقط إلى سوريا في الفترة بين 13 يناير ونهاية أكتوبر 2025، ضمن برنامج مشترك بين الحكومة الفيدرالية الألمانية والولايات، يوفر دعماً مالياً وتنظيمياً للعائدين.
ورغم تصاعد التصريحات السياسية بشأن الترحيل وإعادة اللاجئين، يرى مراقبون أن هذه التصريحات أقرب إلى "الاستعراض السياسي" منها إلى تنفيذ فعلي، محذّرين من أن هذا الخطاب قد يبعث برسائل سلبية إلى المهاجرين المؤهلين الذين تحتاج إليهم ألمانيا بشدة.













