
يضع عام 2026 أميركا اللاتينية أمام تحديات جسيمة، مع انتخابات رئاسية حاسمة في أكثر من دولة بالقارة الجنوبية، قد تعيد رسم التوازن الإقليمي بين معسكري اليسار واليمين، وذلك في وقت تصعّد فيه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضغوطها على فنزويلا سعياً على ما يبدو إلى تغيير النظام، عبر حشد عسكري غير مسبوق في منطقة البحر الكاريبي، ما يعزز مؤشرات على أن الأميركيتين باتتا من بين المناطق التي تحظى بتركيز متزايد في حسابات الإدارة الأميركية.
وبعد فوز اليمين بالرئاسة في بوليفيا بانتخاب رودريجو باز، وفي تشيلي باختيار خوسيه أنطونيو كاست عام 2025، قد تعزز هذه القوى الأيديولوجية نفوذها من خلال الانتخابات الرئاسية المرتقبة في كولومبيا وبيرو، والمقرر إجراؤها في أبريل ومايو على التوالي.
وفي حين يقود كولومبيا حالياً المقاتل السابق في جماعة "إم-19"، جوستافو بيترو، والمنتمي لليسار والذي لا يتردد في انتقاد توجهات ترمب نحو القارة، وهو موقف دفع البيت الأبيض لتوجيه اتهامات لبيترو، من غير أدلة واضحة، بالتورط في تهريب المخدرات، تكافح بيرو التي يحكمها رئيس البرلمان خوسيه جيري، خلفاً للرئيسة المعزولة دينا بولوارتي، لتجاوز عقد من الاضطراب السياسي تعاقب فيه ثمانية قادة على السلطة.
أما في البرازيل، فيبدو أن الرئيس اليساري الحالي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، يمتلك فرصة حقيقية للاستمرار في منصبه، في وقت تحاول فيه أحزاب اليمين تحديد مرشحيها لانتخابات أكتوبر، بعد إدانة الرئيس اليميني السابق جايير بولسونارو.
وبينما قد تسهم خريطة القوى الجديدة في القارة في تشكيل كتلة أكثر تماسكاً من الدول المتماهية مع ترمب، فإن هذا الاصطفاف قد يزيد أيضاً الضغوط على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، الذي يواجه حالياً حصاراً عسكرياً وتهديدات مستمرة من الولايات المتحدة.
"العنف السياسي"
ويرى كريومار دي سوزا، المحلل السياسي البرازيلي والرئيس التنفيذي لشركة "دارما لاستشارات المخاطر السياسية والاستراتيجية" Dharma Political Risk and Strategy، أن التحديات الرئيسية لهذه الدول ستصبح داخلية، وتتمثل في ضمان إجراء الانتخابات بشكل سلمي.
في العام الماضي، أُغتيل المرشح الرئاسي الكولومبي ميجيل أوريبي بالرصاص خلال فعالية سياسية في العاصمة بوجوتا. وفي بيرو، كان تصاعد العنف من الذرائع الرئيسية التي ساقها الكونجرس لإقالة الرئيسة السابقة دينا بولوارتي في أكتوبر.
وأوضح دي سوزا لـ"الشرق": "ستواجه السلطات في بيرو تحدي إجراء انتخابات سلمية على الصعيد المؤسسي".
وأشار إلى أن العمليات الانتخابية في البرازيل باتت تتسم بالعنف المتزايد، حيث شهد عام 2018 محاولة اغتيال للمرشح آنذاك جايير بولسونارو، قبل أن يفوز بالانتخابات في العام نفسه.
كما شابت العملية الانتخابية في 2022 حوادث عنف سياسي، بلغت ذروتها باقتحام الكونجرس والمحكمة العليا والقصر الرئاسي في يناير 2023، بعد فترة وجيزة من تولّي منافسه اليساري لولا دا سليفا منصبه.
مكافحة الجريمة المنظمة
وإلى جانب العنف السياسي، يبرز تحدي مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، كأولوية للمنطقة ولإدارة ترمب التي صنفت هذه المنظمات "إرهابية"، ويرى دي سوزا أن "الجريمة باتت تنخر مؤسسات الدولة من الداخل".
ويشكل التركيز الأميركي المتجدد على أميركا اللاتينية تحدياً آخر، إذ لفت دي سوزا إلى تأثير تصريحات وزير الخزانة سكوت بيسنت الداعمة لفوز حزب خافيير ميلي في انتخابات التجديد النصفي في الأرجنتين في أكتوبر، متوقعاً تكرار محاولات التأثير الأميركية.
ومع إعادة تنظيم السياسة الخارجية الأميركية المنصوص عليها في استراتيجية الأمن القومي التي نُشرت مؤخراً، والتي تركز على أميركا اللاتينية، يتوقع دي سوزا زيادة في الجهود الأميركية للتأثير على ديناميكيات الأعمال والاستثمار في المنطقة، مع استخدام الجغرافيا السياسية كمتغير تحكم رئيسي.
استراتيجية قابلة للتغيير
ويرى دي سوزا أن سياسة الرسوم الجمركية "نجحت مع بعض الدول، لكنها لم تنجح مع البرازيل، التي تتمتع باقتصاد أكثر تعقيداً"، مذكّراً بأن البيت الأبيض تراجع عن فرض رسوم جمركية بنسبة 50% على المنتجات البرازيلية في أعقاب موقف لولا دا سيلفا الحازم.
واعتبر دي سوزا أن استراتيجية ترمب تجاه أميركا اللاتينية ستكون قابلة للتغيير، وتتأرجح بين نهج القوة الصلبة، كما نراه في حالة فنزويلا، والتعاون القوي، كما يجري بناؤه مع البرازيل، وبين ممارسات تتعامل مع الرؤساء والقادة بوصفهم تابعين، وهو الأسلوب الذي يتبعه ترمب مع خافيير ميلي في الأرجنتين.
توازن العلاقات مع الصين والولايات المتحدة
من جانبه، يرى أندريس مالامود، عالم السياسة الأرجنتيني والباحث الأول في معهد العلوم الاجتماعية بجامعة لشبونة، أن أحد أبرز تحديات أميركا اللاتينية في 2026 سيكون "إيجاد توازن في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة".
وأضاف مالامود لـ"الشرق"، أن"أيديولوجيات الحكومات الوطنية لها تأثير محدود على المنطقة، إذ تعتمد ديناميكياتها على عاملين خارجيين: أداء الأسواق الدولية وصراع الهيمنة بين الولايات المتحدة والصين".
وبحسب مالامود، بات دعم ترمب يشكل رصيداً سياسياً واقتصادياً لحكومات أميركا اللاتينية، معتبراً أن "النفوذ السياسي للصين لم يكن يوماً مرتفعاً إلى حد كبير".
وأشار إلى أنه "في ظل التقدم الحالي لحكومات اليمين في المنطقة، فإن النفوذ الجيو- اقتصادي الصيني المتزايد قد يدخل مرحلة جمود، لكنه من غير المرجح أن يتراجع".
تفاقم أزمة المهاجرين
وفي موازاة ذلك، يُرجّح أن تُفاقم التداعيات المحتملة للحملة العسكرية التي تشنها الإدارة الأميركية ضد فنزويلا أزمة الهجرة.
وبحسب الأمم المتحدة، غادر 7.9 مليون شخص فنزويلا بحثاً عن ظروف معيشية أفضل خلال العقد الماضي. وقد توزع 6.7 مليون من هؤلاء في دول أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي.
وفي مؤشر على تعاظُم حجم وتداعيات هذه الظاهرة، تعهد الرئيس التشيلي المنتخب حديثاً خوسيه أنطونيو كاست، خلال حملته الانتخابية، بأنه سيطرد المهاجرين غير النظاميين من البلاد.
وتزامن الدخول غير المنضبط للأجانب غير النظاميين -غالبيتهم من الفنزويليين- عبر الحدود الشمالية لتشيلي مع ارتفاع معدلات العنف، ما دمج قضايا الهجرة والأمن في النقاش العام.
ومع اقتراب فوز كاست في الانتخابات، وتأكيد ذلك في 14 نوفمبر الماضي، حاول مهاجرون غير نظاميين في تشيلي مغادرة البلاد باتجاه بيرو، ما دفع الأخيرة إلى إعلان حالة الطوارئ وتشديد الرقابة على الحدود.
وبدأ كاست، الذي سيتولى منصبه في تشيلي في مارس، في إجراء محادثات مع قادة أميركا الجنوبية لتنسيق جهد مشترك لإعادة المهاجرين الفنزويليين غير النظاميين المنتشرين في القارة إلى بلادهم.
ويشمل المقترح الذي قدمه الرئيس المنتخب إنشاء "ممر إنساني" بالتنسيق مع الأرجنتين وبيرو وبوليفيا والإكوادور، وحتى كولومبيا والبرازيل، لتسهيل عودة هؤلاء المهاجرين إلى فنزويلا.
تماسك نظام مادورو.. "أقوى مما يُعتقد"
في المقابل، قد يؤدي الحصار البحري الأميركي الهادف إلى منع صادرات النفط الفنزويلية إلى خنق نظام مادورو اقتصادياً، وإضعاف قدرة البلاد على استيراد السلع الأساسية، ما قد يفضي إلى عودة سيناريو نقص الغذاء والدواء، على غرار ما شهدته البلاد خلال العقد الماضي.
وحذَّر أندريس سيربين، عالم الأنثروبولوجيا والمحلل الدولي المتخصص في شؤون فنزويلا وأميركا اللاتينية والكاريبي، ورئيس المجلس الأكاديمي لمعهد (CRIES)، في حديث لـ"الشرق" من تداعيات اقتصادية حادة وارتفاع في الأسعار نتيجة تراجع التمويل الحكومي مع تقلص القدرة على بيع النفط.
غير أن سيربين يرى أن التوقعات بأن يؤدي الضغط الأميركي إلى تفكك التماسك العسكري المحيط بمادورو، بأنها "غير دقيقة"، مضيفاً: "منذ عهد الرئيس السابق هوجو تشافيز، جرت عمليات تطهير ممنهجة داخل القوات المسلحة، ما ساهم في تعزيزها، بوصفها قاعدة قوة حاسمة لتشافيز ومن بعده لمادورو".
وأشار إلى أن النخبة السياسية العسكرية في فنزويلا ستظل موحدة حول مادورو ما دامت تحتفظ بقدرتها على ممارسة أنشطتها الاقتصادية، وما دامت أي عروض للعفو لا تعود بالنفع إلا على جزء من المؤسسة العسكرية التي تسند النظام.
وعلى خلاف ما يهدف إليه ترمب، نوّه سيربين أيضاً إلى أن ادعاء الرئيس الرئيس الأميركي بأن كاراكاس استولت على أصول نفطية أميركية، قد يثير ردود فعل سلبية في فنزويلا، حتى داخل الأوساط التي لا تصطف مع مادورو.
ولفت إلى أن النفط له بُعد مرتبط بهوية الفنزويليين، فبالنسبة لهم "لطالما شكّلت عائداته عنصراً أساسياً، وكان تحكّم الدولة في الريع النفطي عاملاً محورياً. فالنفط جزء مما يعتبره الفنزويليون ملكاً لهم"، مستنتجاً بأنه "لن يكون رد الفعل القومي أمراً مستغرباً، إذ أن مثل هذه الادعاءات لا تهدد سيادة فنزويلا فحسب، بل تهدد أيضاً أحد أهم موارد بقائها".
كلمة السر.. البرازيل والمكسيك
وعلى الرغم من حالة الجمود الظاهرة واستمرار العسكرة التي دفعت كثيرين إلى استبعاد احتمال شن هجوم عسكري مباشر على الأراضي الفنزويلية، يرى سيربين أن المكسيك والبرازيل، اللتين عرضتا بالفعل تقديم المساعدة، قد تضطلعان بدور وساطة بين إدارة ترمب وحكومة مادورو.
وخلص إلى القول إن "العامل الحاسم في التوصل إلى مخرج دبلوماسي لمادورو يكمن في مبادرات من المكسيك والبرازيل، وهما أكبر دولتين وأكثرهما نفوذاً في الأميركيتين، وقد أعربتا عن استعدادهما للتوسط في النزاع في نهاية المطاف".
ويبقى مآل الضغوط العسكرية سؤالاً مفتوحاً، غير أن الوضع الراهن يمثّل سيناريو غير مسبوق في أميركا اللاتينية، ويُشكّل أحد أبرز مصادر التوتر التي سيتعين التعامل معها في 2026.











