
وضع الاتحاد الأوروبي خططاً لتصنيف بعض مشاريع الغاز الطبيعي والطاقة النووية استثمارات "خضراء"، بعد خلاف استمر عاماً بين الحكومات بشأن أي من الاستثمارات تعد صديقة للبيئة، لكن تلك الخطط أثارت انتقادات دول أوروبية مثل ألمانيا والنمسا ولوكسمبورج وإسبانيا التي رفضت تلك الخطوة واعتبرتها "استفزازاً" وذهبت إلى التهديد بمقاضاة المفوضية الأوروبية.
أصل الخلاف
تبنت المفوضية الأوروبية مجموعة من المعايير والمقترحات لدعم تحوّل الكتلة التي تضم 27 دولة نحو مستقبل حياد الكربون، وستحصر المفوضية الأوروبية بموجب تلك المعايير تصنيف "خضراء" على المشاريع الصديقة للبيئة فعلاً.
لكن ما أثار الانتقادات هو قرار المفوضية تصنيف الطاقة النووية خضراء ومستدامة.
حجة وحجة مقابلة
تنحصر المواجهة بشكل أساسي بين ألمانيا وفرنسا، فبينما تستعد الأولى لإنهاء عمل المفاعلات النووية في البلاد بشكل كامل بنهاية 2022، تخطط فرنسا التي تنتج أكثر من ثلثي طاقتها من المفاعلات النووية التوسع فيها.
التخلص من الانبعاثات
الحجة الأساسية للمفوضية الأوروبية هي أنه لتحقيق هدف الحياد الكربوني والحفاظ على المناخ وتحقيق هدف الاحترار العالمي، يجب التخلص من المصادر التي تنتج انبعاثات الكربون وعلى رأسها الوقود الأحفوري، والانتقال إلى مصادر أخرى للطاقة المتجددة، وتنضم إليها الطاقة النووية باعتبار أنها لا تنتج انبعاثات كربونية.
تقييم علمي
المفوضية الأوروبية تقول إنه لتحقيق أهداف الاتحاد الأوروبي المناخية يجب تحقيق أهداف الخطة الأوروبية الخضراء. وشرحت أنها كلفت في 2020 تقييماً معمقاً لمعرفة ما إذا كان عليها أن تضم الطاقة النووية ضمن النشاطات المستدامة، وقام مركز الأبحاث المشترك JRC بمسودة تقرير حول معيار "لا أضرار كبيرة" للطاقة النووية.
"خطر لكنها ليست أكثر خطراً"
ووافق تقرير "JRC" الواقع في 387 صفحة على إضافة الطاقة النووية للتصنيف وفي إحدى نتائجه، و قال "لم يظهر التحليل أن هناك أي دليل علمي بأن الطاقة النووية تحدث ضرراً أكبر للإنسان أو البيئة أكثر من إنتاج الكهرباء بتقنيات مدرجة بالفعل في التصنيف كنشاطات تعالج مشكلة الاحترار العالمي".
كما أن "الإطار القانوني للاتحاد الأوروبي يوفر نظام حماية ملائم للعمال والجمهور والبيئة، وكذلك لإدارة المخاطر بشكل يجعل المخاطر المتبقية مخاطر مقبولة".
وفي المادة 31 يقول إن معدل الوفيات التي تتسبب فيها الحوادث الخطيرة للطاقة النووية، مماثلة (وأقل في ما يتعلق بالجيل الثالث من المفاعلات) للتقنيات الأخرى التي يتم بها إنتاج الكهرباء، وأن أقصى العواقب لحادث منفرد عالية، ولكنها مماثلة للتقنيات الأخرى.
وفي الخلاصة الأخيرة يقول التقرير إن هناك الكثير من الأدوات والطرق التي تستخدم لتوفير دليل علمي يدعم التخلص الآمن من النفايات المشعة.
الحجة المقابلة
لكن الحجة المقابلة تقول إن الطاقة النووية لا ينتج عنها انبعاثات كربون، ولكنها تنتج مواد إشعاعية ذات سمية عالية.
مهندس التخلص من المفاعلات
وزير الطاقة الألماني الأسبق، راينر باك، مهندس عملية إنهاء عمل المفاعلات النووية في ألمانيا، والمدير الحالي لمؤسسة الحياد المناخي، اعتبر في حوار مع "Clean Eergy Wire" أنه "من العبث تصنيف تكنولوجيا تنطوي على مخاطر المفاعلات النووية، كبديل أخضر ومستدام".
وقال إن ما يزيد من عبثية الأمر هو أن "هذه المفاعلات تنتج نفايات مشعة تظل سامة لفترة لا يمكن تخيلها.. لمليون سنة، وهو ما لم نجد له حلاً آمناً حتى الآن".
واعتبر أن قرار المفوضية الأوروبية "يلغي فكرة التصنيف من الأساس"، لكنه قال إن ذلك التصنيف لن يمنع انتقال الطاقة في ألمانيا. وشرح باك، أن النقطة الحاسمة لعملية الانتقال في ألمانيا كانت في 26 أبريل 1986 حين وقعت "كارثة تشيرنوبل"، إذ غير غالبية الألمان رأيهم في الطاقة النووية بشكل حاسم.
مفاعلات جيدة.. ولكن
وفند باك حجة استخدام المفاعلات النووية صغيرة الحجم كبديل متجدد للطاقة النووية، قائلاً "إن هذه المفاعلات التي لا تنتج نفايات مشعة، لديها عيب كبير: ألا وهو أنها غير موجودة".
وقال إن هناك 400 مفاعل نووي في العالم تغطي 1% من إنتاج الكهرباء عالمياً، وإذا كان الهدف هو أن تحل محل الوقود الأحفوري فسنحتاج إلى آلاف من تلك المفاعلات الصغيرة. ولأنها صغيرة الحجم يجب أن تعمل باليورانيوم المخصب، وحينها يصبح خطر تحويل الوقود النووي بشكل غير شرعي لبناء قنبلة حقيقياً.
واعتبرت وزيرة البيئة الألمانية شتيفي ليمكه، أنه سيكون من "الخطأ" تصنيف الغاز والطاقة النووية بين المصادر "الخضراء"، مضيفة أن الطاقة الذرية "يمكن أن تؤدي إلى كوارث بيئية مدمرة".
دور حاسم للطاقة النووية
المفوض الأوروبي للأسواق الداخلية، تيري بريتون، اعتبر الاثنين، أن الاتحاد الأوروبي سيحتاج إلى استثمارات في الطاقة النووية تبلغ 500 مليار يورو بحلول 2050 إذا أراد الاتحاد الأوروبي تحقيق هدف الحياد الكربوني، حسبما نقل موقع “World Nuclear News” عن بريتون في حوار لصحيفة "لا جورنال دو ديمانش".
وجدد بريتون التأكيد على الدور المحوري للطاقة النووية في الاتحاد الأوروبي لتحقيق هدف صفر انبعاثات كربون". وقال بريتون "إذا أردنا تحقيق الحياد الكربوني، فإنه من الضروري أن نستعد لإنتاج الكهرباء من مصادر خالية من الانبعاثات الكربونية في أوروبا، علماً بأن الطلب على الكهرباء نفسه يتضاعف خلال 30 عاماً".
وشدد على أن الخطة الأوروبية "حاسمة في جلب التمويل اللازم للقيام بذلك".
وبحسب Eurostat تبلغ إجمالي مساهمة الطاقة النووية في إنتاج الطاقة الكلي في أوروبا 13.1% فيما تبلغ نسبة الغاز الطبيعي 22.3% وتحتل المواد البترولية الصدارة بنسبة 36.3% و15.5% للطاقة المتجددة.
فرنسا تدعم تصنيف الطاقة النووية
يُنظر إلى إدراج الطاقة النووية ضمن الطاقة الخضراء، على نطاق واسع بأنه انتصار فرنسي، إذ حثت حكومة باريس على ضمان أن القواعد الجديدة لا تعاقب التكنولوجيا التي توفر ما يقرب من ثلثي كهرباء بلادها كما يمكنها من الحصول على تمويل أوروبي لمشروعاتها.
وتستمد فرنسا 70% من طاقتها الكهربية من الطاقة النووية، ويعد هذا نتاج سياستها طويلة الأمد التي تعتمد على أمن الطاقة بحسب منظمة "World Nuclear Association".
وتعتبر فرنسا أكبر مصدر صافي للكهرباء نظراً لتكلفة إنتاجها الرخيصة، وتجني أرباحاً سنوية من وراء بيع الكهرباء تقدر بـ3 مليارات يورو. وتأتي 17% من الطاقة الكهربائية التي تنتجها فرنسا من وقود نووي معاد تدويره.
وتملك فرنسا 56 مفاعلاً نووياً تنتج 61.370 ألف ميجاواط، إضافة إلى مفاعل تحت الإنشاء ينتظر أن ينتج 1630 ميجاواط، وأغلقت 14 مفاعلاً كانت تنتج نحو 5.549 ميجاوط.
وفي أكتوبر الماضي، قال وزير المالية الفرنسي برونو لو مير، إنه ينبغي اعتبار الطاقة النووية من مصادر الطاقة الخضراء، ضمن تصنيف الاتحاد الأوروبي. ونقلت وكالة "بلومبرغ" الأميركية، عن لو مير قوله خلال فعالية يوم المناخ بالعاصمة باريس، إن فرنسا تدعو المفوضية الأوروبية إلى تبني هذا النهج.
الموقف الألماني
يعارض الرأي العام الألماني الطاقة النووية، ولا يؤيد بناء مفاعلات نووية. ولكن على رأس قائمة المعارضين "حزب الخضر"، وخصوصاً مرشحته السابقة للمستشارية أنالينا بيربوك، والتي تتولى حقيبة الخارجية في الحكومة الجديدة.
لكن للأمر جذور تاريخية. بعد كارثة "فوكوشيما" النووية التي وقعت في اليابان عام 2011، قررت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل تسريع التخلي عن الطاقة النووية في ألمانيا. وبحلول 2021 كان لدى ألمانيا 6 مفاعلات نووية أغلقت 3 منها الجمعة 31 ديسمبر، ويتبقى 3 مفاعلات ستقوم بإغلاقها نهاية 2022.
وكانت الخطة الأصلية للتخلي عن المفاعلات النووية قد وضعها التحالف الحكومي عام 1998 ولكنها ألغيت في 2009 وأعادت ميركل تقديمها بعد حادثة فوكوشيما.
وبحسب منظمة “World Nuclear Association”، فإنه حتى العام 2011 كانت ألمانيا تعتمد على الطاقة النووية في توليد ربع الطاقة الكهربائية التي تنتجها من 17 مفاعلاً نووياً.
ولدى ألمانيا واحداً من أرخص أسعار الكهرباء المباعة بالجملة، ولكن السعر الذي تباع به للمستهلك ضمن الأغلى في أوروبا نظراً لسياسات الطاقة التي تطبقها ألمانيا، إذ تلتهم الضرائب والرسوم الإضافية نحو نصف تكلفة الطاقة للمستهلك المحلي.
وطبقاً للمنظمة تعتمد ألمانيا على الفحم في إنتاج 30% من الطاقة يليه طاقة الرياح بنسبة 21%، والغاز الطبيعي بنسبة 15% والطاقة النووية بنسبة 12% والوقود الحيوي بنسبة 9% والطاقة الشمسية بنسبة 8% والطاقة الهيدروكهربية بنسبة 4%.
وستقوم ألمانيا بتعويض هذه الطاقة النووية، عن طريق الطاقة المتجددة، إذ تحصل على إمداداتها بشكل كبير من الوقود الأحفوري خصوصاً الغاز.
إسبانيا: ضد الغاز والطاقة النووية
أما إسبانيا فعلى النقيض من الطرفين، إذ عارضت إدراج الطاقة النووية والغاز الطبيعي ضمن الطاقة الخضراء، بحسب صحيفة "إل باييس" الإسبانية. وقالت الحكومة الإسبانية التي يقودها تحالف حكومي وسط – يسار، أن الغاز الطبيعي والطاقة النووية لا يمكن اعتبارهما ضمن الطاقة الخضراء أو المستدامة بغض النظر عن مواصلة الاستثمار فيهما من عدمه.
وقالت وزارة الانتقال البيئي الإسبانية في بيان، إنه "ليس منطقياً ويرسل إشارات خاطئة بشأن الانتقال في مجال الطاقة بالنسبة للاتحاد الأوروبي ككل".
النمسا ولوكسمبورج
تعارض كل من النمسا ولوكسمبورج تصنيف الطاقة النووية على أنها خضراء، وهدد وزير المناخ والطاقة في النمسا ليونور جيويسلر، بأن فيينا ستبحث مقاضاة المفوضية حال "استمر تصنيف الطاقة النووية على أنها خضراء".
في حين وصف وزير الطاقة في لوكسمبورج، كلود تورمز، إدراج الطاقة النووية بأنه "استفزاز".
أزمة التخلي عن النووي
بخلاف الطاقة النووية التي تنتجها أوروبا على أراضيها، فالغاز الطبيعي ليس كذلك. تستورد أوروبا أغلب الغاز الطبيعي من روسيا التي تتهم بـ"استخدام الغاز كسلاح"، وهو ما يرفع الأسعار، الأمر الذي تنفيه موسكو.
ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية بين روسيا وأوروبا، على غرار بيلاروسيا، ونورد ستريم 2، وأوكرانيا، فيصبح من الصعب الاعتماد على الغاز كلياً، ويضع أوروبا تحت رحمة الضغوط الروسية.