
تلعب تركيا في "المنطقة الرمادية" منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، مستفيدة من عدم حاجة الأطراف المتصارعة إلى مواقف حاسمة، فلا حلف شمال الأطلسي (الناتو) دخل الحرب، ولا روسيا تحتاج إلى مضائق تركيا المغلقة صورياً أمام الجميع.
وتضرب تركيا على أوتار الأزمة عبر طائراتها المسيّرة التي تقاتل الروس من جهة، وعدم إغلاق مجالها الجوي أمام الروس من جهة أخرى، ورفضها التصويت في المجلس الأوروبي لصالح العقوبات على روسيا من دون أن تعترض عليها.
وتقف تركيا بين روسيا من جهةوالولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، تحاذر فيها إغضاب أي من الطرفين المتصارعين وتسترضيهما في معركة لم تتطلب حتى الآن موقفاً حاسماً منها، وسط "تفهّم" روسي للموقف التركي، و"تفهّم" أميركي مقابل لمناورة تتيح لأنقرة مواصلة علاقاتها الاستراتيجية مع موسكو.
وحالت الملفات التي تتقاطع فيها أنقرة وموسكو حول قضايا إقليمية أو ملفات اقتصادية دون اتخاذ تركيا موقفاً ينهي دينامية اتصالية تمتد من البحر الأسود، ولا تنتهي عند شواطئ المتوسط، مروراً بـ"مختبر سوتشي" وآليات التنسيق حول الملف السوري.
موقف "رمادي"
تتآلف جميع تلك العناصر وتفضي إلى موقف "رمادي" لا ترى فيه موسكو تصعيداً، ولا يرى فيه حلف "الناتو" تحدياً لإرادة الغرب من دولة تعتبر أساسية فيه.
فالجانب الروسي لم يقرأ في قرار إغلاق المضيقين الحيويين تصعيداً عسكرياً ضده، طالما أن تركيا لم تحذُ حذو دول الاتحاد الأوروبي بإغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية، بحسب ما يقول الدبلوماسي الروسي ألكسندر زاسبيكين في تصريحات لـ"الشرق"، لافتاً إلى أن "الاتصالات مع أنقرة لا تزال قائمة"، مضيفاً: "نحن جيران مع تركيا، ومرت العلاقات بمحطات جيدة وأخرى متوترة، وهذا الأمر طبيعي"، ولكنه شدد على أن "قنوات الاتصال لا تزال مفتوحة، و"نحن نتواصل مع كل الأطراف أثناء الأزمة".
أما الجانب التركي، فلم يتخطَ في موقفه ما بدا أنه "قرار رمزي غير مؤذٍ"، وفق ما يقول المطلعون على الشأن التركي. فالمقارنة بين موقف كل من تركيا والاتحاد الأوروبي، تشير إلى أن تركيا نأت بنفسها عن التصعيد؛ في وقت أغلقت الأزمة قنوات الاتصال بين دول الاتحاد الأوروبي وروسيا، وأغلقت الأولى المجال الجوي ودخلت العلاقات مرحلة القلق.
وعلى الرغم من مساعي تركيا لإرساء استراتيجية "التوازن الدقيق" في تعاطيها مع ملف الحرب الروسية - الأوكرانية المستمرة منذ أكثر من أسبوع، إلا أن حالة الاصطفاف الدولي بين روسيا والدول الأوروبية والغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، "تزج بها، شاءت أم أبت، في خانة الترجيح الملزم، ما يضعها أمام رهان صعب لاختيار الجهة التي ستكون قادرة على تغيير شكل النظام الدولي لاحقاً"، بحسب ما يقول الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية طه عودة أوغلو.
ويقول أوغلو لـ"الشرق"، إن "تركيا من الناحية العملية أعلنت مراراً رفضها المطلق للحرب والتزامها الحياد، لكن كل التصريحات الصادرة من أنقرة، حتى اللحظة، يمكن أن تُترجم بأنها انحيازية بامتياز لا سيما مع تواصل إمداد تركيا لأوكرانيا بمسيّرات (بيرقدار) التي تزعج روسيا. وذلك بالتوازي مع إعلان وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف، قبل يومين، أن بلاده تستعد لتلقي شحنة جديدة من الطائرات التركية المسيّرة التي أظهرت فاعلية كبيرة في القتال ضد الروس والدفاع عن الأراضي الأوكرانية، خصوصاً بعد نشر ضباط أوكرانيين فيديوهات يتحدثون فيها عن دور هذا السلاح في تغيير مسار الحرب وحسم المعارك وإيقاع خسائر روسية بشرية ومادية فادحة".
ولا شك أن تركيا استجابت لضغوط أميركية حين أغلقت مضيقي الدردنيل والبوسفور. ويقول زاسبيكين: "نرى ضغطاً أميركياً على كثير من البلدان، ومن الطبيعي أن يطاول تركيا، وهي عضو في الناتو"، ولكنه ينظر إلى إغلاق المضيقين على أنه "خطوة رمزية" تتخطى سياقاتها العملية.
ورغم أن هذه الخطوة لا تراها موسكو ذات تأثيرات على عمليتها العسكرية في أوكرانيا، إلا أنها بالتأكيد ترخي بظلالها على العلاقة بين البلدين التي "تعتريها بعض الصعوبات"، كما يقول زاسبيكين، سفير روسيا السابق في لبنان، مضيفاً أن "خسائر العقوبات والتصعيد لن تقتصر على روسيا وحدها، بل سيعاني الجميع نتيجتها، خصوصاً الدول الأوروبية".
فضاء مشتعل
وفي حال أن ظروف تركيا دفعتها للحفاظ على "شعرة العلاقات" الرفيعة مع موسكو ومع "الناتو" في الوقت نفسه، فتركيا التي أعادت فتح ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي أخيراً، مع تقدم أوكرانيا بطلب مشابه، تأخذ على أوروبا استبعادها من الاتحاد. وهي تنظر إلى نفسها أنها تحمل أوزار الحرب السورية وملف اللاجئين، ولكنها لن تتجه إلى محاكمة أوروبا على مواقف سابقة، طالما أن الأزمة الأوكرانية التي باتت أزمة دولية شاملة، تحوز بعض الفرص لتركيا ولسواها، حيث تحاول كل دولة أن تخلق مجالاً للمساومة وتحصيل الأرباح، وفق ما يقول الباحث في الأمن الروسي الدكتور محمد سيف الدين الذي يؤكد لـ"الشرق" أن أزمة أوكرانيا الآن "تحوّلت بالنسبة لكل القوى العالمية إلى مساحة للمناورة ومحاولة الاستفادة من الأزمة في هذا الفضاء المشتعل".
وهناك مجموعة من المصالح تجعل تركيا تستفيد من الأزمة، فعلى الضفة الروسية هناك فضاء مشترك جغرافياً يتمثل ببحر القوقاز والبحر الأسود. مثّل هذا الفضاء نقطة للصراع التاريخي بين السلطنة العثمانية والإمبراطورية الروسية، قبل أن يتم وضع حد له قبل نحو مئتي عام، وهو متغير يؤشر إلى أن العلاقات تتحسن بشكل مطرد على ضوء التجارة المتبادلة بين الطرفين التركي والروسي، وتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا عبر السيل التركي الذي كان واحداً من الخطوط الأساسية لتصدير الغاز الروسي إلى تركيا قبل أن تتوتر العلاقات بين البلدين إثر التدخل الروسي في سوريا. في تلك الفترة في عام 2015، "وجد الجانبان الروسي والتركي أنهما في موقع نقيض، ما تسبب بتعثر المصالح التجارية قبل أن يتم الحفاظ على الحد الأدنى منها، عبر إعادة ضخ الغاز الروسي بحدود تكفي الحاجة التركية، والتنسيق بخصوص المضائق".
ولا ينظر سيف الدين إلى الخطوتين التركيتين على أنهما مؤشران للتصعيد ضد روسيا، فيقول إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "يحاول الاستثمار بالقيمة المضافة لطائرة بيرقدار في أوكرانيا، على غرار استثماره فيها في أذربيجان وأرمينيا، لكن تلك الفرص أقل في مواجهة روسيا المتطورة تقنياً مما يخفف من فعاليتها".
أما مسألة إغلاق المضائق، فلا يراها مؤثرة بالنظر إلى أن روسيا "حوّلت البحر الأسود إلى بحيرة روسية، تمتلك فيها سيطرة عسكرية تمكنها من قضم السواحل الأوكرانية"، فضلاً عن أن موسكو ليست بحاجة إلى عبور سفن من المتوسط إلى البحر الأسود، في وقت "ليست تركيا طرفاً في الحرب، طالما أن أوكرانيا ليست دولة عضواً في الناتو".
من جهته، يعرب أوغلو عن اعتقاده بأن السبب الأساسي وراء تريث تركيا في إظهار موقفها العملي على الأرض "يعود إلى محاولتها استكشاف خبايا هذا الغزو الروسي المفاجئ لأوكرانيا الذي ترى أنه غير مبرر، في ظل المطالب التعجيزية التي تسوقها روسيا شرطاً لإيقاف الحرب"، موضحاً أن "الأمر بالنسبة لتركيا وللعالم كله، هو أبعد من مجرد غزو عادي، إذا لم يكن هناك هدف أكبر بكثير من مجرد حرب تزيد من الفوضى والاختلال في المنطقة برمتها وتتجاوزها إلى محاولة إحداث تغيير جذري في القواعد الحاكمة للنظام العالمي، خصوصاً مع دخول الصين على الخط وإعلان دعمها المطلق لموسكو".
وعليه، تقول أنقرة إنها ستبقى على تواصل مع الروس والأوكرانيين لممارسة دور دولة الإطفاء في سبيل إخماد هذه الحرب في أسرع وقت، قبل أن تطال تداعياتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية دولاً عديدة في المنطقة، قد تكون هي واحدة منها، على اعتبار ما يربطها من علاقات قوية بالبلدين.
اقرأ أيضاً: