كشف مسؤولون في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن إجراء اجتماعات سريّة أميركية أوروبية، قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، لصياغة خطة حصار اقتصادي غير مسبوق لروسيا، وفق ما ذكرته وكالة "أسوشيتد برس".
وذكر تقرير الوكالة أنه قبل أيام من اجتياح روسيا لأوكرانيا، أرسل بايدن وفداً سريّاً إلى دول أوروبية، ضمّ خبراء في تتبّع تدفق الأموال وشرائح الكمبيوتر وسلع أخرى في كل أنحاء العالم.
وكُلّف بايدن، الوفد السرّي، بإلحاق أقصى قدر ممكن من العقوبات المؤلمة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ما يصعّب عليه تمويل حرب طويلة الأجل في أوكرانيا، ويحرم موسكو من امتلاك تكنولوجيا مُستخدمة في الحروب الحديثة.
ووفقاً لما نقلته الوكالة، فقد أجرى الوفد اجتماعات سريّة مكثفة في بروكسل وباريس ولندن وبرلين، كانت تستمر غالباً لنحو 6 ساعات، بهدف وضع تفاصيل خطة حصار اقتصادي لروسيا، إذ تحفّظ الأوروبيون على سعي واشنطن لفرض عقوبات على بعض الصادرات إلى موسكو، ما سيرغم شركاتهم على التخلّي عن مليارات الدولارات من العائدات السنوية للتبادل التجاري مع روسيا.
"لعبة استراتيجية"
وجاء في تقرير "أسوشيتد برس"، أنه عندما كان المجتمعون يبلغون طريقاً مسدوداً، كان المفاوضون الأميركيون يتصلون بوزيرة التجارة جينا ريموندو، التي قالت لنظرائها الأوروبيين: "يمكنكم أن تقولوا لا الآن، ولكن عندما تخرج أكياس الجثث من أوكرانيا، فلن ترغبوا في أن تكونوا رافضين. افعلوا الصواب".
ونقلت "أسوشيتد برس" عن وزيرة التجارة الأميركية قولها إن سرعة التوصل لاتفاق كانت نتيجة التهديد بهجوم روسي وشيك على أوكرانيا.
وأضافت أن الجميع توافقوا على ضرورة "الاتحاد والبقاء معاً"، وتابعت: "إذا سبّبتم ألماً كافياً، وعزلتم بوتين، فستنتهي هذه الحرب".
وأشارت "أسوشيتد برس" إلى أن أغنى دول العالم، بمعزل عن الصين، فرضت عقوبات تتقاطع فيها قوتها مع نقاط ضعف روسيا، التي تعتمد على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان في تزويدها بأحدث التكنولوجيا وفي الاستثمارات، فقرّر الحلفاء عزل موسكو.
وتحدثت الوكالة عن "لعبة استراتيجية" تستهدف دفع روسيا إلى دوّامة انحدار، بحيث يسحب المستثمرون الأجانب أموالهم بعد الغزو. وأضافت أن ذلك شكّل أيضاً عرضاً للوحدة، يمكن أن يخضع لاختبار في الأسابيع المقبلة، نتيجة اعتماد الحلفاء على الوقود الأحفوري.
وقدّر خبراء في الاقتصاد، الخميس، أن دول الاتحاد الأوروبي حوّلت منذ بدء الحرب في 24 فبراير، أكثر من 13.3 مليار يورو إلى روسيا، من أجل تزويدها بالنفط والغاز الطبيعي والفحم.
شلّ قدرات بوتين
وكانت محادثات الحلفاء حاسمة في الفترة التي سبقت الحرب، لكن الاتحاد الأوروبي لم ينتظر توجيهات الولايات المتحدة للتحرّك، إذ كان أعضاؤه يتشاورون منذ شهور.
ونقلت "أسوشيتد برس" عن دبلوماسي في الاتحاد الأوروبي، تحدث شريطة عدم الكشف عن اسمه، القول إن العقوبات التي شملت حظر صادرات تم تحديدها منذ يناير.
ولفت إلى أن دول الاتحاد نجحت في فرض عقوبات على روسيا، منذ احتلالها أجزاء من إقليم دونباس في شرق أوكرانيا عام 2014. ولكن هذه المرة، ردّت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على غزو أوكرانيا، عبر مجموعة من السياسات لشلّ قدرة بوتين على القتال، من خلال حرمانه من شراء أشباه الموصلات وأجهزة الكمبيوتر ومعدّات الاتصالات والليزر وأجهزة الاستشعار، التي تشكّل جزءاً من العتاد الحربي.
واعتبرت الوكالة أن هذا الضغط في سلسلة التوريد، سيرغم روسيا على البحث عن قطع غيار في مقاتلات ودبابات ومعدات أخرى تستخدمها الآن، ما يؤدي إلى تآكل قدرتها العسكرية والاقتصادية.
تجميد الأصول الروسية
وفي مؤشر على نجاح مبكّر، يلفت مسؤولون أميركيون إلى إغلاق مصانع سيارات لشركة "لادا" في روسيا، وأكثر من 300 مؤسّسة أوقفت تعاملها مع موسكو، بما في ذلك شركات لتصنيع الرقائق، مثل Infineon الألمانية التي أعلنت أنها أوقفت كل عمليات التسليم لروسيا، المباشرة وغير المباشرة، إضافة إلى الدعم الفني.
وبعد أيام على بدء الغزو، جمّد الحلفاء الأصول الأجنبية للمصرف المركزي الروسي. وقال مسؤولان بارزان في إدارة بايدن إن هذا الخيار لم يُطرح في البداية على الحلفاء، خشية أن تنقل روسيا أموالها في وقت مبكّر. وانتظرت الإدارة بدء الغزو لطرح تجميد الأصول، وأرغمت صور القصف والموت الأوروبيين على الموافقة عليه بشكل شبه فوري، بحسب "أسوشيتد برس".
تجميد الأصول منع موسكو من استخدام نصف الأرصدة الخارجية البالغة 600 مليار دولار. وأغلقت السلطات الروسية سوق الأسهم وتراجعت قيمة الروبل، فيما أُعدّت العقوبات بحيث تصبح تأثيراتها المالية أكثر شدّة بمرور الوقت، بالتزامن مع صمود أوكرانيا.
وأشاد نائب رئيس المفوضية الأوروبية، فالديس دومبروفسكيس، بـ"تنسيق جيد جداً" بين تلك الدول، معتبراً أن العقوبات "قاسية والأسواق المالية الروسية على وشك الانهيار". وأقرّ بأن العقوبات تكبّد الحلفاء تكاليف، مستدركاً أن الثمن أقلّ بكثير من عواقب انتشار الحرب.
"اختبار أوروبي"
ومع ذلك، تشهد كل جولة جديدة من العقوبات اختباراً لوحدة دول الاتحاد الأوروبي، أكثر من أيّ وقت.
ووفقاً للتقرير، إذا فُرض حظر على النفط والغاز الروسيين، فستكون ألمانيا وإيطاليا، اللتان تعتمدان بشكل كبير على قطاع الطاقة الروسي، في موقف صعب لاحتواء سعي أعضاء من أوروبا الشرقية، مثل بولندا ودول البلطيق، التي تريد ضرب موسكو بأشدّ ما يمكن وفي أقرب وقت ممكن، علماً أن الولايات المتحدة أقلّ اعتماداً على النفط والغاز الطبيعي الروسيين، ما سهّل على بايدن حظر تلك الواردات.
وبحسب "أسوشيتد برس"، هناك خطر أن تفشل العقوبات في كبح جماح بوتين، أو أن تبقى روسيا قادرة على إيجاد طرق لاستيراد سلع. وتُظهر بيانات تجارية حلّلتها شركة Import Genius أن الصين حلّت مكان ألمانيا في عام 2021، بوصفها أبرز مصدر إلى روسيا، علماً أن مسؤولين أميركيين ذكروا أن موسكو طلبت مساعدة من بكين.
وقال أوليفييه بلانشار، أبرز الخبراء الاقتصاديين سابقاً في صندوق النقد الدولي، وهو الآن باحث في "معهد بيترسون للاقتصاد الدولي"، إن العقوبات على روسيا تأثيراتها تشبه وقع قصف المصانع الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، ما عطّل آلة الحرب النازية بطرق جعلت إطالة أمد القتال مستحيلاً، علماً أن خبراء اقتصاديين أدوا دوراً في اختيار الأهداف.
ويوصي بلانشارد بتوسيع ضوابط التصدير، من الإنتاج المرتبط بالدفاع إلى "أيّ شيء يخلخل الإنتاج" في الاقتصاد الروسي.
أما تانيا بابينا، وهي أستاذة في العلوم المالية بجامعة كولومبيا، ووُلدت في أوكرانيا، فاعتبرت أن العقوبات لا تكبح الطغاة، وحذرت من أن بوتين قد يرسّخ حكمه أكثر في نهاية المطاف، إن لم تتخذ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إجراءات أكثر صرامة، تشمل إضافة عقوبات تحظر النفط والغاز الطبيعي الروسيين.
وقالت في إشارة إلى بوتين: "سيرسل جدته للقتال إذا لزم الأمر. لا يمكنه أن يخسر أوكرانيا. هذا هو سبب أهمية قطع عائدات تصدير الطاقة الروسية". وسألت: "كم عدد الأشخاص الذين تركناهم يموتون، قبل نفاد أصول بوتين؟".