مع تواصل العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبروز تقديرات ترجح انزلاق الأوضاع نحو حرب استنزاف قد تكون طويلة الأمد، بدا أن انعكاسات تدهور علاقات روسيا مع الدول الغربية في جميع المجالات تقريباً، سوف تلقي بظلال ثقيلة على جميع الملفات الإقليمية والدولية.
ومن بين الملفات الأكثر تأثراً حالياً يبرز التعاون في منطقة القطب الشمالي التي تتحول تدريجياً من ساحة للتعاون إلى فضاء للصراع، مع كل ما يحمل ذلك من تداعيات خطرة على المنطقة الحيوية للأطراف المختلفة، والتي ظلت حتى وقت قريب، المنطقة الأقل تضرراً من الأزمات بين روسيا والغرب.
وأصبحت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا نقطة تحول لأنشطة مجلس القطب الشمالي. وبعد وقت قصير من بدء الحرب، أعلنت 7 دول مشاركة في المجلس (الدنمارك، آيسلندا، كندا، النرويج، الولايات المتحدة الأميركية، فنلندا، السويد) تعليق مشاركة ممثليها في جميع الفعاليات الرسمية للمجلس وهيئاته الفرعية، وكذلك رفض إرسال ممثليهم إلى اجتماعات المجلس المنعقدة في روسيا.
كما أعلنت الدول الأعضاء بمجلس المنطقة القطبية الشمالية الأوروبية "بارنتس" تعليق التعاون مع روسيا، وهو المجلس الذي كان يضم فنلندا والدنمارك وآيسلندا والنرويج والسويد إلى جانب موسكو.
وعلق الاتحاد الأوروبي وآيسلندا والنرويج جميع المشاريع في إطار سياسة "البعد الشمالي"، التي تشارك فيها روسيا وبيلاروسيا.
وجاء ذلك فيما ترأس روسيا مجلس القطب الشمالي حتى عام 2023. وقد أشار المسؤول الروسي الأبرز بالمجلس السفير نيكولاي كورتشونوف، إلى أن قرار أعضاء المجلس سيؤدي إلى زيادة مخاطر وتحديات الأمن في المنطقة.
تحول نحو المواجهة
الخلافات السياسية سابقاً أثرت في التعاون داخل مجلس القطب الشمالي، إذ رفضت كندا، رئيس المجلس في أبريل 2014، إرسال ممثليها إلى اجتماع فريق عمل المجلس المعني بانبعاثات غاز الميثان الذي عقد في موسكو، في إطار الرفض الغربي لضم روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.
لكن ذلك كان يتعلق برفض المشاركة في مجموعة واحدة فقط من مجموعات عمل المجلس، وليس في الاجتماع الوزاري، لذلك لم يكن هناك مجال للمبالغة في تقدير الهوة بين الدول الأعضاء.
وفي عام 2019 خلال اجتماع وزراء خارجية دول مجلس القطب الشمالي، ولأول مرة في تاريخ المنتدى، فشل المشاركون في التوقيع على البيان الختامي، لأن الولايات المتحدة على عكس الأعضاء الآخرين، رفضت الاعتراف باتفاقية باريس للمناخ وأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.
كما انتقد وزير الخارجية الأميركي حينها مايك بومبيو سياسة روسيا التي يقال إنها تهدف إلى القتال من أجل النفوذ في القطب الشمالي، ودعم مشروع طريق الحرير الجديد في الصين.
وفي تلك المرة أيضاً لم يؤدِ الخلاف السياسي إلى توقف في أداء المجلس، على الرغم من تأثير المواجهة السياسية في جدول أعماله.
في المقابل فإن التعليق الحالي لمجلس القطب الشمالي يحدث للمرة الأولى منذ إنشائه في عام 1996. ووفقاً لخبراء فإنه لا يمكن توقع عودة الطبيعة المعتادة للتفاعل في إطار المجلس خلال المستقبل القريب.
وتدرس الدول الغربية المشاركة في المجلس على مستوى الخبراء، خيارات للتعاون بين الدول السبع من دون روسيا على المدى القصير.
لكن معايير هذا التعاون لا تزال غير واضحة، وهناك تساؤلات بشأن ما إذا كان ذلك يعني تعديل إعلان أوتاوا، الوثيقة التأسيسية مجلس القطب الشمالي، وبالتالي توسيع نطاق القضايا التي يتم النظر فيها، بما يعني إدراج القضايا الأمنية في جدول أعماله.
وتعد هذه أسئلة بلا إجابات حتى الآن. ونسبت وسائل إعلام روسية لمحللين غربيين أن أي نهج للتعاون الإقليمي في القطب الشمالي يستبعد المشاركة الروسية على المدى الطويل سيكون صعباً، إذ يوجد في روسيا أكبر عدد من السكان خارج الدائرة القطبية الشمالية، والاقتصاد الروسي أكثر ارتباطاً بموارد الشمال، كما أن الساحل الروسي المطل على المحيط المتجمد الشمالي هو الأطول في العالم.
ومع ذلك وفقاً لبعض المحللين، إذا لم تتغير طبيعة السياسة الروسية، فسيكون استمرار التعاون مع روسيا في إطار مجلس القطب الشمالي على المدى الطويل أمراً صعباً.
مخاوف من صدام عسكري
مع انشغال العالم بالأزمة الأوكرانية، وتداعياتها المحتملة على كل الملفات الدولية والإقليمية المرتبطة بروسيا، برزت بشكل خاص مخاوف من احتمالات تصاعد المواجهة الروسية الغربية واكتسابها آليات وأشكال أكثر خطورة.
وحمل تحذير وزارة الخارجية الروسية من مخاطر حدوث "صدام غير مقصود" بين روسيا وحلف شمال الأطلسي "الناتو" في منطقة القطب الشمالي إشارة لافتة في هذا الشأن .
وقال كورتشونوف إن موسكو قلقة للغاية إزاء إشراك "الناتو" أعضاء من خارج منطقة القطب الشمالي في أنشطته العسكرية هناك.
وذكّر كورتشونوف الذي يرأس لجنة كبار المسؤولين بمجلس القطب الشمالي بأن تفويض المجلس لا يشمل ملفات الأمن العسكري.
وأعرب عن قناعته بأنه ليس هناك أي أسئلة تتطلب حلاً عسكرياً في منطقة القطب الشمالي، و"تحدد المعايير الدولية بشكل واضح حقوق الدول الساحلية وغيرها، وتشكل أرضية راسخة لتسوية أي مشاكل إقليمية".
وحمل التحذير بعداً آخر يتعلق بمحاولات تشكيل هياكل بديلة عن مجلس القطب الشمالي، باعتبار أن تطوراً من هذا النوع لن يؤدي من وجهة نظر موسكو إلا إلى "رسم خطوط فاصلة وتعزيز النزعات الطارئة، ما سيضر بمبادئ التعاون الجماعي".
كما لفت الدبلوماسي الروسي إلى أن الانضمام المحتمل للسويد وفنلندا إلى الناتو سيؤثر سلباً في الأمن والثقة المتبادلة بين دول منطقة القطب الشمالي.
تحذير روسي
لكن التحذير الأوضح جاء عندما أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن نشاط الناتو في منطقة القطب الشمالي قد يؤدي إلى "خطر وقوع تصادمات غير مقصودة".
وكان هذا أول تعليق رسمي على إجراء مناورات حلف شمال الأطلسي، التي حملت عنوان "الاستجابة الباردة 2022" في مارس الماضي، والتي جرى الجزء البحري منها في بحر النرويج.
وكانت مناورات "الاستجابة الباردة 2022"، أكبر تمرين لحلف شمال الأطلسي في المنطقة على مدار الـ30 عاماً الماضية، وشارك فيها نحو 30 ألف جندي من 27 دولة، بما فيها شريكتا الحلف فنلندا والسويد، إضافة إلى نحو 220 طائرة، وأكثر من 50 سفينة حربية.
وفي الصدد قال الخبير العسكري والباحث في الشؤون السياسية فاليري فولكوف، إنه تم خلال التدريبات إنزال قوات هجومية برمائية على الشاطئ، تحت غطاء قوات الأسطول والطيران القتالي والدفاع الجوي، ما يدل على الطبيعة الهجومية للمناورات وليس الدفاعية وفقاً لإعلان الحلف.
في الوقت نفسه أعلنت روسيا إجراء تمرين استجابة بمشاركة 140 سفينة وأكثر من 60 طائرة، في المياه الشمالية بالمحيط الأطلسي، في بحر أخوتسك وبحر الشمال.
وبحسب الخبير، فإن روسيا سوف تضطر لزيادة وجودها العسكري في المنطقة، رداً على نشاط قوات الناتو.
وفي الوقت نفسه، يؤدي الافتقار للاتصال المتبادل والتنسيق إلى مضاعفة المخاطر، ويعني هذا بشكل مباشر أن منطقة القطب الشمالي بقدر ما كانت واعدة للتعاون الاقتصادي، فهي تعد أيضاً بأن تكون إحدى المنصات الرئيسية لسباق تسلح جديد في العالم.
مشاريع التنمية
عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشهر الماضي، اجتماعاً حكومياً خصص لبحث تنمية القطب الشمالي، و"الرد على محاولات تقييد التنمية الروسية"، في ظل العقوبات الحالية المفروضة على موسكو.
في الوقت نفسه كانت الرسالة الرئيسية للسلطات هي أن الاتحاد الروسي لا ينوي التخلي عن خططه، بالرغم من الضغوط الخارجية.
وحث بوتين المسؤولين الروس على عدم تأخير تنفيذ المشروعات المهمة للمنطقة. معتبراً أن إكمالها مهم لاقتصاد البلد بأكمله.
وبحسب نائب رئيس الوزراء الروسي يوري تروتنيف، فإن الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي من مشاريع القطب الشمالي بحلول عام 2035 ستصل إلى 30 تريليون روبل. ومن أهم تلك المشاريع تطوير شبكة سكك حديدية التي يفترض أن يبدأ بنائها هذا العام.
وخلص الاجتماع إلى أنه من الضروري إيلاء اهتمام خاص لجميع المشاريع والخطط المتعلقة بالمنطقة، وعدم تأجيلها بما في ذلك تطوير طريق بحر الشمال، باعتبار أن هذه الآلية تعد ضمن أجندة روسيا لمواجهة محاولات الغرب لكبح التنمية طويلة الأمد.
ويجري حالياً تنفيذ أكثر من 460 مشروعاً بدعم من الدولة الروسية في القطب الشمالي، ويتجاوز حجم الاستثمارات بموجب الاتفاقيات 1.3 تريليون روبل، ما يوفر 30 ألف فرصة عمل.
خطوط جديدة
وتولي موسكو أهمية خاصة لاستكمال مشروع سكة الحديد الذي سيؤدي إطلاقه إلى تخفيف الضغط على خط "بايكال – أمور" للقطارات في أقصى الشرق الروسي، وخطوط سكك الحديد العابرة لسيبيريا، وهذا أمر مهم للغاية نظراً لإعادة توجيه الصادرات الروسية إلى الشرق.
ووفقاً لبوتين يجب أن يبدأ البناء النشط لسكة حديد شمال خط العرض في العام الحالي. إضافة إلى ذلك، دعا بوتين الحكومة إلى الموافقة على خطة موحدة لتطوير طريق بحر الشمال حتى عام 2035 من أجل ضمان نقل موثوق وآمن للبضائع.
وتتوقع الحكومة أن يتجاوز حجم حركة المرور على طول مسار البحر الشمالي 200 مليون طن بحلول عام 2030. وفي عام 2021، بلغ حجم حركة الشحن على طول هذا الطريق 35 مليون طن.
وفي الوقت نفسه يتركز النفط والغاز والمنتجات النفطية والفحم والخام في هذه المنطقة، إذ تمثل 28 مليون طن من الحجم الإجمالي.
إضافة إلى ذلك تم تجهيز 8 مواقع أخرى للنفط والغاز في خليج أوب وخليج نهر ينيسي، للحصول على تراخيص الاستكشاف الجيولوجي، وفقاً لما قاله وزير الموارد الطبيعية والبيئة ألكسندر كوزلوف.
ومن المتوقع أن تشكل هذه الأقسام تدفقاً إضافياً للبضائع على طول طريق بحر الشمال. وقد يكون جزء من التحميل على طريق بحر الشمال عبارة عن معادن صلبة يتم استخراجها في القطب الشمالي.
وقالت أولجا ميدفيديفا، الأستاذة بمعهد الاقتصاد والتمويل، إنه بفضل طريق بحر الشمال سيتم تخفيض التكاليف اللوجستية بشكل كبير، وستكون السفن الروسية قادرة على تجاوز المناطق الخطرة.
وأوضحت أن مشاريع النقل هذه تعطي تأثيراً مضاعفاً للاقتصاد من 3 إلى 3.5 مرة. وإضافة إلى عنصر النقل، تمت إضافة مسائل تطوير البنية التحتية للمناطق الشمالية.
الاستقلال عن الغرب
لكن أوليج بارابانوف، الأستاذ بقسم العلاقات الدولية بمدرسة الاقتصاد العليا، رأى أن روسيا سوف تضطر للاعتماد على قدراتها الخاصة في تطوير وصيانة هيكل النقل، في القطب الشمالي على طول طريق بحر الشمال. وسط تساؤلات بشأن ما إذا كان هناك ما يكفي من الموارد المالية لهذه الخطط. وكذلك ما إذا كان القطب الشمالي سيكون أولوية في الظروف الحالية، عندما تحتاج الصناعة بأكملها تقريباً إلى أن يتم رفعها من الصفر، وجعلها مستقلة عن الغرب.
ويعتقد الخبير أن الصعوبات يمكن أن تنشأ أمام المشاريع التي تعتمد على القدرات التكنولوجية التي لا يمكن لروسيا استبدالها الآن، أو في القضايا التي لن تكون روسيا فيها مستعدة لدعوة شركاء بدلاء، مثل الصينيين.
وقبل تفاقم الصراع مع الغرب، لم ترحب روسيا بشكل خاص بالمشاركة الصينية في القطب الشمالي والمشاريع ذات الصلة. بينما يرى خبراء حالياً، أنه يجب بذل الجهود لدعوة الصينيين إلى بعض المشاريع.