بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، تساءل البعض عما إذا كان هناك أسباب حقيقية لاستمرار حلف شمال الأطلسي "الناتو"، حتى بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا فبراير الماضي، ليمنح ضرورة وجودية جديدة كحلف دفاعي.
وقالت صحيفة "نيويورك تايمز"، إن زعماء الحلف الـ 30، والذين سيعقدون قمتهم مساء الثلاثاء في العاصمة الإسبانية مدريد، سيتفقون على إجراء إصلاحات أكثر أهمية لدفاعات الحلف منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها.
ويدعم الحلف دفاعات أوكرانيا ضد روسيا بالمال والسلاح، لكن القمة ستتضمن أيضاً بعض السجالات الصعبة، بما في ذلك ما يتعلق بأماكن نشر قوات الحلف.
ووفقاً لما لـ"نيويورك تايمز"، فإنه سيكون هناك "زيادة كبيرة في حجم القوات المخصصة للدفاع عن الجناح الشرقي للناتو"، الأقرب إلى روسيا وبيلاروسيا، مع تقديم "التزام كامل" بنشر معدات عسكرية ثقيلة مثل الدبابات والمدفعية، التي من شأنها تعزيز استجابة الحلفاء لأي تهديد أو اعتداء روسي.
كوري شاك، مديرة دراسات السياسة الخارجية والدفاعية في معهد "أميركان إنتربرايز" قالت لـ"نيويورك تايمز" إن هذه القمة "ستظهر التضامن الغربي مع دخولنا فترة ارتفاع أسعار الغاز وندرة السلع الغذائية، حيث ترغب روسيا الآن في استغلال كلتا المشكلتين كسلاح في الحرب".
وأضافت: "إننا على دراية تامة بذلك، ولا نزال قادرين على الوقوف صفاً واحداً"، مشيرة إلى أن "العبرة التي تميل الولايات المتحدة إلى استخلاصها من الغزو الروسي لأوكرانيا هي عدم كفاءة الجيش الروسي"، مؤكدة ضرورة أن تتعامل أوروبا مع "عبء الأمن الأوروبي".
"مخاطر جديدة"
الصحيفة الأميركية أشارت إلى أن الحلف سيوافق أيضاً على بيان مهمته المحدث الأول منذ 12 عاماً، والذي يصور عالماً ينطوي على "مخاطر جديدة"، وتكتنفه "تهديدات سافرة"، ليس فقط من قبل روسيا، وإنما أيضاً من قبل الصين، التي تشكل أولوية أميركية.
وتتراوح أشكال المخاطر الجديدة بين الأمن السيبراني والذكاء الصناعي إلى التضليل المعلوماتي وفرض القيود على الطاقة والغذاء والمعادن، وفقاً لتقرير "نيويورك تايمز".
وأضافت أن بيان المهمة المعروف باسم "المفهوم الاستراتيجي" يضع أُطر التخطيط الدفاعي والإنفاق وتخصيص الموارد في جميع دول الحلف.
وكانت فرنسا وألمانيا أصرّتا على وصف النفوذ الصيني المتصاعد بأنه "تحدٍ" للنظام الأمني عبر الأطلسي، وليس "تهديداً"، كما هو الحال بالنسبة لروسيا.
وعلى الجانب الآخر، قال أعضاء آخرون في الحلف، مثل الولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا، إن هناك تهديدات أخرى خطيرة، تتراوح بين الإرهاب وتغير المناخ والهجرة الجماعية، إلى جانب الصعود الصيني.
وستشهد القمة أيضاً نقاشات بشأن كيفية إقناع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالتخلّي عن حق النقض "فيتو" الذي استخدمه ضد طلبي انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف، الأمر الذي سيتطلب حتماً مشاركة الرئيس الأميركي جو بايدن.
توزيع عسكري
وأحد النقاشات الرئيسة الأخرى التي ستشهدها القمة، التي ستستمر حتى الخميس، ستكون حول توزيع قوات الناتو العسكرية الجديدة على طول الجناح الشرقي للحلف، والتطرق إلى عددها وكيفية انتشارها ومدى استمرارها.
ومع استمرار الحرب في أوكرانيا، أنشأ "الناتو" 4 مجموعات عسكرية أخرى متعددة الجنسيات، في كل من رومانيا وبلغاريا، والمجر وسلوفاكيا، لإضافتها إلى المجموعات التي أُنشئت بالفعل العام 2017 في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، في أعقاب ضم روسيا شبه جزيرة القرم في 2014.
وتضغط دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) من أجل اتخاذ قرارات بعمليات انتشار عسكري دائمة أكبر، والانتقال من استراتيجية دفاع "سلك التعثر" الحالية وقوامها 1500 جندي من قوات الحلف في كل دولة إلى "الردع بالرفض"، التي ستتضمن المزيد من عمليات الانتشار الدائمة لفرقة كاملة تابعة للقوات العسكرية الأميركية، على النحو الذي تطالب به إستونيا.
وتسعى تلك الدول إلى الحصول على عمليات انتشار أكبر للدفاع عن جميع أراضي حلف "الناتو" ضد أي اعتداء في مراحله الأولى، خوفاً من اجتياحها سريعاً من قبل القوات الروسية.
وفي هذا الصدد، نقلت الصحيفة عن الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرج، قوله مؤخراً إن الحلفاء "يمكن أن يتفقوا على تعزيز المجموعات القتالية في الشرق لتصل إلى مستوى الألوية، ما يجعل قوامها يتراوح بين 3000 و5000 جندي".
"حالة استعداد"
وعلى الرغم من أن اختيار الفرقة الأميركية الدائمة لا يبدو مطروحاً، فإن من المتوقع أن يعلن الرئيس الأميركي عن "عمليات انتشار جديدة لفرقتين قتاليين أخريين من أجل رفع المستوى المخصص للقوات الأميركية في أوروبا إلى 100 ألف جندي، مقارنة بـ70 ألفاً قبل الغزو الروسي"، بحسب تصريحات من مسؤولي الحلف.
ولكن من المحتمل أن تبقى هذه القوات في ألمانيا وبولندا، وأن تكون في حالة "استعداد"، حال وقوع أي تهديد أو صراع إلى الدول المحددة مسبقاً، حيث سيتدربون أيضاً بمعدات منتشرة مسبقاً.
ويعمل حلفاء آخرون في الحلف على زيادة انتشارهم أيضاً، إذ أعلنت ألمانيا إضافة 500 جندي إلى قواتها في المجموعة القتالية متعددة الجنسيات التي تقودها في ليتوانيا، بالإضافة إلى التعيين المسبق لنحو 3 آلاف جندي إضافي "طارئ".
في هذا السياق، قال إيفو دالدر السفير الأميركي السابق لدى الحلف لـ"نيويورك تايمز"، في إشارة إلى دول البلطيق: "لقد أكدت أنها بحاجة إلى قوات كبيرة على غرار خط ماجينو، لحمايتها من الاجتياح المبكر عند نشوب أي صراع".
وأضاف: "لكن، ليست هذه الطريقة المثلى للدفاع عن هذه الدول، لأنها صغيرة جداً على إجراء أي تدريبات حقيقية ومنتظمة، وذلك على العكس من بولندا وألمانيا، ومن ثم فإنه من الأفضل إبقاء القوات في هاتين الدولتين، وإجراء تدريبات مستمرة وتناوب منتظم هناك".
"أكثر حساسية"
وباتت القضية الآن أكثر حساسية، إذ اتهمت موسكو ليتوانيا بمنع وصول شحناتها عن طريق السكك الحديدية إلى جيبها المدجج بالسلاح في كالينينجراد، تماشياً مع العقوبات المفروضة على روسيا من قبل الاتحاد الأوروبي.
وقال مسؤولون ليتوانيون وأوربيون لـ"نيويورك تايمز" إنه "لا يوجد حصار ضد هذا الجيب، لكن الشريط الضيق الذي يبلغ نحو 60 ميلاً بين بيلاروسيا وكالينينجراد، والمعروف باسم ثغرة سوالكي معرض للخطر".
وذكرت شاك أن القلق، الذي تعانيه دول البلطيق "مبرر"، قائلة: "إذا كنت مكانهم لأردت مزيداً من عمليات الانتشار لحلف شمال الأطلسي، لأن هذه الدول مكشوفة".
وأضافت: "بالنسبة للدول الصغيرة، يمثل جوار روسيا، التي من شأنها أن تمحو وجود أوكرانيا، أمراً مخيفاً". ومنذ اندلاع الحرب، قام الحلف بتنشيط "قوة الرد" التي يبلغ قوامها حالياً 40 ألف جندي تحت قيادة الحلف، إذ سيزيد قوامها ليصل إلى 300 ألف.
وقال كريستوفر سكالوبا، الخبير الأمني في مركز "سكوكروفت للاستراتيجيات والأمن"، التابع للمجلس الأطلسي، للصحيفة إن "تعقب الأموال في الناتو يمثل دائماً فكرة ذكية".
وأضاف أن "كلفة الفشل في ردع روسيا عن الذهاب إلى أوكرانيا فادحة للغاية، ونحن جميعاً ندفع ثمن هذا الغزو، والأوكرانيون يتحملون القسط الأكبر منه، فحلفاء الناتو ما يقدمون التزامات، لكن التضخم يجعل كل شيء أكثر كلفة".