
قال رئيس الحكومة البريطانية ريشي سوناك إن معظم وقته اليومي يذهب في معالجة أزمة المهاجرين الوافدين عبر بحر المانش، وأن المشكلة تتفاقم شهراً بعد شهر، فالأعداد تتضاعف ورقعة جنسيات القادمين في قوارب صغيرة تعبر القناة الإنجليزية، تكبر وتتغير خارطتها منذ خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي مطلع 2021.
يبدي سوناك تفاؤلاً بأن الاتفاقية التي أبرمتها بلاده مع فرنسا، منتصف شهر نوفمبر الجاري ستحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى المملكة المتحدة.
ورغم أن سوناك يعتبر أن الاتفاقية لن تحل الأزمة "بين ليلة وضحاها"، إلا أنه يصر على أنها "ستحدث فارقاً في نهاية المطاف".
المعارضة العمالية، ترى أنه لا يزال أمام حكومة المحافظين عمل كبير لوقف الهجرة غير الشرعية إلى البلاد، فالاتفاقية بين لندن وباريس ربما تحد من عدد القوارب التي تصل إلى الشواطئ البريطانية، ولكنها لن تقدم حلولاً للتعامل مع الواصلين على متنها، وخاصة أولئك الذين لا يسجلون أنفسهم في قوائم الجهات المختصة، أو لا تعرف جنسياتهم.
الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية، تقول إن أكثر من 40 ألف مهاجر عبروا بحر المانش قادمين من فرنسا منذ بداية 2022. وتتوقع وزارة الدفاع البريطانية أن يصل العدد خلال العام الجاري بأكمله إلى نحو 41 ألفاَ، وهو رقم قياسي ينطوي على زيادة كبيرة مقارنة بالعام الماضي، والذي بلغ فيه عدد المهاجرين نحو 29 ألفاً.
4 محددات رئيسية
تتجسد أزمة "هجرة القوارب" للحكومة البريطانية في أربعة محددات رئيسية، الأولى هي كيفية وصول قوارب المهاجرين إلى السواحل الجنوبية للمملكة المتحدة. والثانية هي البت في طلبات اللجوء التي يقدمها المهاجرون فور وصولهم، أما الثالثة فهي محاصرة المخاطر الأمنية المرتبطة بتهريب المهاجرين قبل وبعد وصولهم، والأخيرة تكمن في سبل ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وخاصة الذين ترفض طلبات لجوئهم.
بموجب الاتفاق الذي وقع في باريس في 14 نوفمبر الجاري، ستدفع بريطانيا لفرنسا نحو 75 مليون دولار في عامي 2022 و2023، لتزيد عناصر الأمن الفرنسي في دوريات الشواطئ الشمالية بنسبة 40%.
كما تعهد البلدان باستخدام موارد تقنية إضافية على سواحل فرنسا من أجل رصد ومراقبة واعتراض القوارب بشكل أفضل.
الاتفاق وقعه وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، ونظيرته البريطانية سويلا برافرمان، ومن ضمن بنوده جمع واستخدام المعلومات لتفكيك شبكات تهريب البشر، وردع عمليات العبور. كما سينشر البلدان لأول مرة فرقاً تضم مراقبين على طرفي المانش لتعزيز تفاهم البلدين وتحسين استجواب المهاجرين وتبادل المعلومات في هذا الشأن.
وترى الحكومة البريطانية أن الاتفاق مع باريس سوف يساعد في حل مشكلة المهاجرين القادمين عبر البحر بأبعادها الأربعة، لكن سوناك يرفض رغم ذلك، تقدير نسبة التراجع في أعداد المهاجرين بعد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، حتى أنه يتجنب الالتزام بتعهدات المحافظين في عام 2018 بتقليص أعداد اللاجئين إلى عشرات الآلاف سنوياً.
انتقادات ومواطن ضعف
زعيم المعارضة كير ستارمر رحب باتفاق باريس، ولكنه قال إنه "ليس كافياً" لوقف قوارب الهجرة العابرة لبحر المانش.
كما دعا ستارمر، الحكومة إلى تفعيل وتعزيز عمل الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة من أجل التصدي لجرائم تهريب البشر في "منابعها".
كذلك انتقد "الحالة اليائسة" لمعالجة طلبات اللجوء من المهاجرين، إذ تُظهر الأرقام الرسمية أنه تم معالجة 4% فقط من إجمالي الطلبات التي قدمت العام الماضي.
انتقاد الاتفاقية جاء أيضاً من داخل الحزب الحاكم، إذ قالت النائبة المحافظة عن منطقة دوفر الساحلية ناتالي إلفيك، إن الاتفاقية الموقعة مع فرنسا هي أقل بكثير مما هو مطلوب. وأوضحت لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، أن الشيء الوحيد الذي سيعالج الهجرة غير الشرعية، هو "التأكد من إيقاف القوارب في فرنسا قبل أن تبحر في المياه".
من وجهة نظر فرانك ديرسين، رئيس بلدية تيتيجيم بالقرب من بلدة دونكيرك الساحلية، فإن الزيادة في عدد عابرين بحر المانش هذا العام وقعت على الرغم من أعداد الشرطة التي تراقب السواحل. موضحاً لراديو LBC أنه من الصعب ملاحقة المهاجرين والقبض عليهم على امتداد 175 كيلومتراً من الشواطئ والتلال الرملية.
وأجرت صحيفة "ديلي تليجراف" البريطانية استطلاعاً بين المهاجرين القاطنين في مخيم مؤقت بمنطقة جراند سينث، التي تبعد 30 دقيقة شرق كاليه الفرنسية.
وأظهرت النتائج أن المهاجرين الراغبين في عبور القناة لن يتراجعوا بعد توقيع الاتفاق بين لندن وباريس، ولن يتخلوا عن أحلامهم في الوصول للشواطئ البريطانية رغم احتمال ترحيلهم وإعادتهم إلى دولهم، إن كانت لا تعاني حروباً أو تصنف كبلاد آمنة.
الدول المصدرة للمهاجرين
البيانات الرسمية البريطانية، تشير إلى أن خلطة المهاجرين القادمين عبر القوارب الصغيرة من فرنسا، تغيرت كثيراً هذا العام مقارنة بالسنوات الثلاثة الماضية، فمنذ مطلع 2018 وحتى شهر يونيو 2022، كان العراقيون والإيرانيون يشكلون نحو نصف العابرين للقنال الإنجليزي، بنسبة 28% من إيران و20% من العراق.
أما خلال الأشهر الستة الأولى من العام الجاري، أصبحت 3 دول تتقاسم أكثر من نصف المهاجرين، وهي ألبانيا بنسبة 18%، وأفغانستان 18%، وإيران 15%.
وفي الفترة بين شهري مايو وسبتمبر الماضيين تحديداً، بات المهاجرون الألبان وحدهم يشكلون ما يزيد على 42% من عدد ركاب قوارب الهجرة.
ووصل أكثر من 11 ألف مهاجر ألباني إلى المملكة المتحدة خلال 5 أشهر فقط من العام الجاري، ومن خلال المقارنة مع العام الماضي الذي استقبلت فيه البلاد نحو 850 مهاجراً ألبانياً، تؤكد الحكومة أن نسبة كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين لا ينحدرون من دول تعاني حروباً، ولا يفرون من الموت بسبب الجوع أو الكوارث الطبيعية.
وبموجب اتفاقية وقعتها وزيرة الداخلية البريطانية السابقة بريتي باتيل، مع ألبانيا في عام 2021، أعادت لندن نحو 1000 مهاجر ألباني إلى بلادهم، لكن تزايد أعداد القادمين من الدولة المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، يصعب على المملكة المتحدة ليس فقط ترحيل الألبان، وإنما تفادي المخاطر الأمنية المترتبة على هجرتهم.
المخاطر الأمنية للمهاجرين
البعد الثالث في أزمة "مهاجري القوارب" يتمثل في المخاطر الأمنية، سواء المرتبطة بتتبع وملاحقة عصابات الإتجار بالبشر على السواحل الفرنسية، أو تلك المتعلقة بهروب عدد من المهاجرين عند وصولهم إلى الشواطئ البريطانية، أو تحايلهم على القانون لإخفاء هوياتهم وجنسياتهم سعياً وراء غايات إجرامية أو كسب غير مشروع.
قائد وحدة مكافحة الهجرة غير الشرعية في بحر المانش، دان أوماهوني، أكد أن العصابات الإجرامية الألبانية في شمال فرنسا، "تلعب دوراً كبيراً" في ازدياد عدد المهاجرين غير الشرعيين إلى المملكة المتحدة.
وأوضح أوماهوني، أمام لجنة الشؤون الداخلية في البرلمان البريطاني قبل نحو أسبوعين، أن عدداً ممن يصلون على ظهر القوارب الصغيرة يتلاعبون بالقانون عن عمد، و"هم ليسوا بحاجة للمساعدة كلاجئين".
من جهته، توجه تيم لوتون، عضو لجنة الشئون الداخلية في البرلمان، إلى وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، بسؤال حول غياب أي بند في اتفاق باريس الجديد يلزم الحكومة الفرنسية بسجن الذين يتم إحباط محاولتهم للهجرة غير الشرعية إلى بريطانيا.
وبالتالي، في رأيه، سيتركون للمحاولة مرة ثانية وثالثة حتى ينجحوا في عبور القنال بطريقة أو بأخرى.
كذلك سأل النائب ذاته عن الصلاحيات التي منحتها الاتفاقية الجديدة للضباط البريطانيين في ملاحقة عصابات الإتجار بالبشر على السواحل الفرنسية، وما إذا باتوا يستطيعون التعامل معها مباشرة الآن، أم أن عليهم فقط المراقبة وإخبار سلطات باريس بأنشطتهم؟
لم تقدم الوزيرة برافرمان ما يثلج صدور النواب في مجلس العموم، لكنها أصرت على أن الاتفاقية الرابعة مع فرنسا بشأن الهجرة غير الشرعية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، ستزيد من قدرة الحكومة البريطانية على محاصرة العصابات ومنظمات الجريمة التي تعمل على تهريب المهاجرين على متن تلك القوارب الصغيرة.
كما ستعزز من إمكانية تقليص عدد الممرات التي تستخدمها العصابات في عمليات تهريب البشر.
بالنسبة للمهاجرين الفارين إلى المدن الداخلية بعد وصول قواربهم إلى السواحل البريطانية، فلا توجد إحصائيات دقيقة حول أعدادهم، ولكن مصادر مختلفة تقول إن الأرقام ليست كبيرة، وهم يبتعدون عن أعين الجهات المختصة إما بغرض العمل في السوق السوداء، أو في سبيل الانخراط بأنشطة غير قانونية وجرائم مختلفة.
نواب في حزب العمال اقترحوا إعادة العمل بنظام الهويات، من أجل منع المهاجرين غير الشرعيين من التحرك داخل البلاد، لكن رئيس الحكومة ريشي سوناك رفض المقترح، وقال إن السلطات الأمنية ليست عاجزة عن ملاحقة الأشخاص المتواجدين في المملكة المتحدة بشكل غير قانوني، وهي تمتلك الأدوات الكافية لذلك.
الترحيل وإعادة المهاجرين
بعد وصول المهاجرين إلى الشواطئ البريطانية، لا يبقى أمام الحكومة إلا النظر في طلبات لجوئهم وفرزها بين قبول أو رفض.
عملية الفرز بذاتها تستهلك وقتاً طويلاً، وتجر انتقادات كبيرة على السلطات المختصة. ولكن حزب المحافظين الحاكم، ومنذ عهد رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون، يتبنى سياسة إعادة كل من يدخل البلاد بطريقة غير شرعية إلى وطنه أو المكان الذي انطلق منه باتجاه المملكة المتحدة.
جونسون قال أمام نواب البرلمان عندما كان رئيساً للوزراء قبل أشهر، إن الطريقة الوحيدة لإقناع الناس بخطأ الهجرة غير الشرعية هي إعادتهم إلى المكان الذي جاءوا منه. ولكن المشكلة أن ترحيل اللاجئين ينطوي على صعوبة بالغة، لا تقل عن صعوبة منع انطلاق قوارب الهجرة من الشواطئ الفرنسية باتجاه بريطانيا.
من وجهة نظر المستشارة في شئون الهجرة واللجوء روز نيكولا، يجب أن تتعامل بريطانيا مع أزمة المهاجرين غير الشرعيين كمشكلة دولية وليست كمشكلة خاصة بها. وبالتالي يجب على لندن التعاون بشكل أوسع مع الدول والمنظمات المعنية. كما يتوجب عليها أن تعترف بأن النسبة الأكبر من المهاجرين الوافدين إلى شواطئها، هم فارون من الحرب أو الموت، وبالتالي يستحقون الحصول على صفة اللاجئ وحقوقه.
وتقول نيكولا في تصريحات لـ"الشرق"، إن ترحيل المهاجرين يحتاج إلى إبرام اتفاقات مع الدول المصدرة لهم، أو التي يمرون بها في الطريق إلى المملكة المتحدة.
لكن الحكومات البريطانية، لم تفضل الخوض في هذا النوع من الاتفاقيات بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وانفصالها عن اتفاقية دبلن الناظمة لهذا المجال في التكتل.
وتلفت نيكولا إلى أنه حتى خطط ترحيل المهاجرين إلى رواندا الإفريقية، لم تكتمل بسبب عدم تهيئة الحكومة للبيئة القانونية اللازمة لها.
وتشير إلى أنه، فيما أنه صحيح أن هذه الخطط واجهت معارضة من المنظمات الحقوقية والإنسانية، ولكن ما يمنع تنفيذها حتى الآن هو قوانين الاتحاد الأوروبي التي لا تزال سارية في المملكة المتحدة بعد "بريكست".
اقرأ أيضاً: