بدأت بريطانيا مراجعة جديدة للعلاقات مع الصين، على خلفية ضغوط في البرلمان لتبني سياسة أكثر صرامة، فيما تواجه حكومة ريشي سوناك خياراً صعباً بين معالجة المخاوف الأمنية والحفاظ على المصالح الاقتصادية مع الصين.
ثمة أسباب داخلية وخارجية عديدة استدعت هذه المراجعة، وفرضت تغيراً كبيراً في اللهجة الرسمية إزاء العلاقة مع الصين خلال الأشهر الماضية، وبدأ التصعيد ضد بكين مع رئيسة الحكومة السابقة ليز ترَس، ولكن عهدها القصير زمنياً لم يفسح لها المجال لاتخاذ خطوات ملموسة.
ويرى رئيس الوزراء البريطاني الجديد ريشي سوناك الصين "تحديا ممنهجاً" لبلاده، لكن ذلك لم يمنعه من محاولة لقاء الرئيس شي جين بينج على هامش قمة مجموعة العشرين الأخيرة. ولم يلتق الزعيمان بسبب تضارب مواعيدهما وفق بيانات رسمية.
ومن المتوقع أن تنتهي المراجعة قبل نهاية العام الجاري. وما هو متفق عليه، كما يبدو، أن مبدأ الفصل بين العلاقات الاقتصادية مع الصين والمخاطر الأمنية التي ينطوي عليها التعامل مع بكين، لم ينجح. ولا بد من وضع آلية جديدة تحكم سياسة بريطانيا في القارة الأسيوية عامة.
"حرب مع الصين"
خلال مساءلة برلمانية، الأسبوع الماضي، تلقت وزارة الخارجية عدة تساؤلات بشأن اعتداء موظفين في القنصلية الصينية بمدينة مانشستر على متظاهرين ضد سياسة الصين في هونج كونج، فكان رد الوزارة أن لندن أدانت هذا العمل، وأوضحت لبكين بلهجة شديدة أن حرية التعبير حق مكفول في المملكة المتحدة، ولا يمكن مصادرته أو التعرض له من قبل فرد أو كيان أو دولة.
بالنسبة لمجموعة العمل ضد الصين في مجلس العموم، فإن ما حدث يحتاج إلى رد أكبر. أما رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان أليسا كيرنز، فترى أن بكين باتت "تمارس الإرهاب" داخل وخارج حدودها. كما أن التهديد الصيني للأمن القومي البريطاني يتضح يومياً ولا بد من معالجته.
كيرنز تعتقد أن بلادها تخوض "شكلاً من أشكال الحرب مع الصين"، وبات الخوض في هذه المواجهة أمراً لا بد منه.
ما تعتقد به رئيسة الشؤون الخارجية في البرلمان، يعبر عن توجه واضح لدى صقور حزب المحافظين الحاكم، وهم يطالبون بقطيعة تامة مع بكين أياً كانت نتائجها وتداعياتها.
الطيارون البريطانيون
ما زاد من التوتر مع بكين أخيراً قضية الطيارين البريطانيين الذين تستعين بهم الصين لتدريب قواتها الجوية. وأوضحت وزارة الدفاع البريطانية عبر ممثلها البرلماني جيمس هيبي، أنها تتعامل بيقظة شديدة مع المسألة، وتعتزم معالجتها عبر قانون الأمن القومي المرتقب صدوره قريباً.
هيبي أكد لمجلس العموم أن الحكومة لا تراقب حركة المتقاعدين من القوات العسكرية، ولا تتحكم بعملهم بعد مغادرتهم الخدمة. ولكن ثمة مخاوف من أن الصين تحاول رصد أساليب القتال من خلال المدربين الذين تستقطبهم من الدول الغربية، وتلقت وزارة الدفاع عدة بلاغات وتقارير في هذا الشأن.
وبحسب هيبي، تعتمد وزارة الدفاع على القدرات الاستخباراتية للدولة في تتبع وملاحقة البريطانيين الذين يقبلون التعاون العسكري مع الصين. وسوف تواصل اعتماد ذات الآلية في المرحلة المقبلة، لأنها لا تفضل ملاحقة جميع العسكريين المتقاعدين. كما أنها لا تجد حاجة لتغيير هذا النهج الفعال.
وتقول تقارير إعلامية بريطانية إن أكثر من 30 طياراً سابقاً قبلوا عروضاً تتجاوز قيمتها 240 ألف جنيه إسترليني للعمل في الصين. والعديد ممن تم تجنيدهم هم في العقد الخامس من عمرهم وغادروا سلاح الجو أخيراً. كما تنوه التقارير إلى أن الأمر مستمر منذ عام 2019، لكنه ازداد مؤخراً.
أولوية الأمن القومي
قبل عام 2022 كان حزب المحافظين الحاكم يفضل التوازن في العلاقة مع الصين، أي الإبقاء على المنافع الاقتصادية للعلاقة، ومكافحة المخاطر الأمنية التي تنطوي عليها، في ذات الوقت. هذا المبدأ ورثه رئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون عن تيريزا ماي التي تولت الحكومة بعد استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي، وقادت البلاد مدة 3 سنوات انتهت منتصف 2019.
تيريزا ماي سافرت إلى بكين عام 2018، والتقت الرئيس شي جين بينج لتوطيد علاقات البلدين. وعندما وصل جونسون إلى السلطة كان همه الأول إنجاز "بريكست"، وبعدها تجاوز جائحة كورونا.
ولم يتواصل جونسون وجين بينج خلال 2020 و2021، لكنهما تحدثا هاتفياً في مارس الماضي، وكان الموضوع الرئيسي هو الحرب الروسية الأوكرانية وليس العلاقات بين لندن وبكين.
يمكن القول إن الجفاء بين البلدين بدأ يظهر في نهاية عهد جونسون، خاصة عندما أعلن مديرا المخابرات البريطانية والأميركية قبل نحو 5 أشهر، أن الصين باتت تشكل "أكبر تهديد طويل المدى للاقتصاد والأمن القومي". حينها تغيرت المعايير وبدأ العمل البريطاني ضد الصين داخلياً وخارجياً.
ولأن بريطانيا وأميركا قطبان رئيسيان في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، أعلن الحلف خلال قمته بمدريد في يونيو، أن الصين باتت تمثل تهديداً لمصالح وقيم ومبادئ دول الحلف.
وقال البيان الختامي للقمة إن بكين تعمل على تقويض النظام الدولي من خلال مجموعة واسعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية معاً.
حدود دعم تايوان
رئيس التحرير السابق للشؤون الخارجية في صحيفة "التايمز" مايكل بانيون يرى أن الموقف البريطاني إزاء الصين يرتبط بالولايات المتحدة إلى حد بعيد، لكن ذلك لا ينفي حقيقة قلق المملكة المتحدة إزاء نفوذ بكين داخل البلاد وخارجها. وفي مواجهة هذا القلق تلتقي مصالح الدولتين مع مصالح دول أخرى حول العالم. لكل منها أسباب وغايات وأدوات في المواجهة التي قد تتخذ أشكالاً مختلفة.
وقال بانيون، لـ"الشرق"، إن المؤشرات تقود إلى نتيجة مفادها أن تايوان هي بوابة المواجهة المحتملة مع الصين. ولكن إن لم تقدم بكين على غزو الجزيرة فلن يكون سهلاً على حكومة لندن تزويد تايبيه بالسلاح. أما بقية أشكال الدعم الاقتصادي والسياسي فيمكن أن يتصاعد مستقبلاً.
قبيل قمة مجموعة العشرين الأخيرة في إندونيسيا، قال رئيس الحكومة البريطانية إنه لا يستبعد تسليح تايوان في مواجهة الخطر الصيني. وأكد وزير خارجيته جيمس كليفري على هذا الاحتمال عندما استدعي إلى مساءلة مع لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم قبل أيام قليلة، لكنه شدد على أنه لم تصدر بعد أي قرارات نهائية في هذا الخصوص، ولم يحسم نوع وكيفية التسليح.
ونقلت صحف بريطانية عن صحيفة صينية مدعومة من حكومة بكين أن الرئيس الصيني ألغى اجتماعه مع رئيس الحكومة البريطانية على هامش قمة مجموعة العشرين بسبب تصريحات سوناك حول تسليح جزيرة تايوان.
واعتبرت الصحيفة الصينية أن إلغاء الاجتماع يمثل رسالة تحذير غير مباشرة إلى لندن.
تشكيك في موقف سوناك
المشكلة أن التلويح باحتمال تسليح تايوان لم يطمئن صقور حزب المحافظين الحاكم الداعين للخصومة مع بكين، خاصة أن سوناك استخدم مصطلح "التحدي المنهجي" بدل "التهديد المنهجي" في حديثه عن الصين.
وهذا التباين في الدلالات أربك حلفاء سوناك وخصومه داخلياً، وفق ما نقلته صحيفة "التليجراف" عن نواب محافظين "لم يتضح لهم بعد ما يخطط له رئيس الحكومة في هذا الصدد".
وتقول الصحيفة إن صقور المحافظين لا يبدون تفاؤلاً إزاء احتمال خروج المراجعة الجديدة للحكومة بشأن العلاقة مع الصين بأي مواقف تصعيدية ضد بكين. فيما نقلت عن نواب من الضفة المقابلة، أو ما يسمى بالحمائم، أنه لا يوجد إجماع بين نواب الحزب الحاكم على أولوية الخصومة مع الصين حالياً.
وبرأي الباحث في الشأن البريطاني رياض مطر أن سوناك لا يميل لمواجهة مباشرة مع الصين، بل يفضل الإبقاء على الأبواب مفتوحة معها، خاصة أنه يضع إنقاذ الاقتصاد الوطني على رأس أولوياته، ومعاداة بكين قد تؤثر على هذا المسعى كثيراً، لما قد تجره من تدهور على العلاقات التجارية بين الدولتين.
وقال مطر، لـ"الشرق"، إن سوناك لا يريد إغضاب التيار المعارض للصين في حزبه، ولذلك يحاول التصعيد ضدها، لكن أوجه التصعيد التي يمكن أن يلجأ إليها سوناك مستقبلاً لن تكون عبر التدخل العسكري في تايوان، وإنما من خلال تعزيز التفاهم والتحالف مع خصوم الصين حول العالم.
تفاهمات مع الحلفاء
في سياق تعزيز التحالفات "المعادية" للصين شاركت بريطانيا أخيراً في مناورات عسكرية لسلاحي البحرية الياباني والأميركي في المحيط الهادئ. وانضمت بريطانيا لأول مرة إلى هذه التدريبات التي استمرت 10 أيام تحت عنوان الاستجابة المشتركة لهجمات مسلحة على الدول الثلاثة إضافة لكندا وأستراليا.
ثمة اتفاق دفاعي مرتقب بين المملكة المتحدة واليابان قد ينجز أيضاً في ديسمبر، ونقلت صحيفة "فايننشيال تايمز" عن مصادر وصفتها بأنها مطلعة قولها إن الاتفاق سيسهل إجراء التدريبات المشتركة والتعاون اللوجستي بين البلدين. أما وزارة الدفاع البريطانية فقد أكدت التقدم في محادثات الاتفاق بشكل إيجابي، لكنها قالت إن التعليق على الأمر في هذا الوقت تحديداً سيكون "غير مناسب" بالنسبة للبلدين.
في الإطار ذاته، دخلت اليابان المراحل النهائية من المحادثات مع المملكة المتحدة وإيطاليا لتطوير وبناء طائرة مقاتلة من الجيل الجديد. وتخطط القوات الجوية اليابانية لنشر المقاتلة عام 2035، بعد توقيع العقد نهاية 2022، بين شركة ميتسوبيشي اليابانية وشركتي "BAE" البريطانية و"S.P.A" الإيطالية.
وقبل هذه التفاهمات بعام واحد فقط، وقعت بريطانيا وأميركا وأستراليا اتفاقية أمنية خاصة لتبادل تقنيات عسكرية متقدمة في محاولة لمواجهة النفوذ الصيني. حملت الاتفاقية اسم "أوكوس"، وهي تمكن أستراليا من بناء غواصات نووية. كما تغطي مجالات عدة كالذكاء الاصطناعي والتقنيات الكمية والانترنت.
اقرأ أيضاً: