عاد الحديث في بريطانيا مجدداً عن جرائم الاستغلال الجنسي للقُّصر، والتي تؤرق البريطانيين منذ عقود، ما دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات عدة بهدف فتح السلطات المختصة تحقيقات صارمة في هذه الجرائم، ومحاسبة المسؤولين عنها.
ولكن تصريحات وزيرة الداخلية سويلا برافرمان أحدثت ضجة أكبر من التعليمات الحكومية، بعدما قالت إن أكثر الجرائم ارتكاباً في هذا الشأن يقف خلفها بريطانيون من أصول باكستانية، وهو ما دفع "حزب العمال" المعارض إلى اعتبار تصريحات الوزيرة "عنصرية"، و"قد تخلق إشكاليات في المجتمع".
وتشير الدراسات والإحصائيات إلى وجود بريطانيين آسيويين بين العصابات التي ترتكب جرائم بحق الفتيات المراهقات وصغيرات السن، بالإضافة أطياف أخرى من المجتمع، بما في ذلك أصحاب البشرة البيضاء.
ولكن كل البيانات التي جُمعت تشير إلى ثغرات في التحقيقات، تساعد الجناة على الإفلات من العقاب، وتعقد علاج الأزمة.
"الصوابية السياسية"
رئيس الوزراء ريشي سوناك، قال إن "العديد من جرائم استغلال القاصرات جنسياً، طويت من دون عقاب ومحاسبة للفاعلين"، نتيجة لما أسماه "الصوابية السياسية"، وهو ما يعني أن المحققين تجنبوا إدانة شخص ما في هذه الجرائم نتيجة لاعتبارات سياسية ترتبط بعرقه. وبتعبير أدق، كانوا يخشون اتهامهم بالعنصرية بعد إدانته.
وتعهد سوناك بأن توفر حكومته كل البيانات اللازمة حول العصابات التي ترتكب هذه الجرائم، كي تساعد السلطات المختصة على إدانتهم والقصاص منهم، كما نوّه إلى أنه من غير المقبول، الاستمرار في تجاهل أو تجنب التحقيق في هذه الجرائم لاعتبارات وحساسيات ثقافية أو عرقية.
وقرّرت حكومة حزب المحافظين أيضاً، إرسال ضباط مختصين مدعومين من قبل المنظمة الوطنية لمكافحة الجريمة، لمساعدة السلطات المحلية في التحقيق بهذا النوع من الجرائم.
وتسعى الحكومة إلى ضمان مواجهة مثلى للأزمة، والبدء بمحاصرتها والقبض على عصاباتها المتنفذة، وذلك مع توافر التحقيق الصحيح والمعلومات الكافية.
ووفقاً لمحاضر تحقيق رصدتها الحكومة خلال السنوات الماضية، تجنّبت الشرطة في مناطق عدة، اعتقال أو إدانة مستغلي القاصرات جنسياً، خشية اتهامها بالعنصرية أو إثارة بلبلة سياسية، لأن معظم العصابات التي تمارس هذا النوع من الجرائم، تنتمي إلى العرق الآسيوي. وتتراوح أعمار أفرادها بين 20 إلى 40 عاماً.
بريطانيون-باكستانيون
إعلان رئيس الوزراء عن الإجراءات الجديدة لتعزيز مواجهة الاستغلال الجنسي للقاصرات، جاء مباشرة بعد تصريحات وزيرة الداخلية سويلا برافرمان (من أصول هندية)، قالت فيها إن "الجناة في قضايا الاعتداء على الفتيات القاصرات، هم بريطانيون ينحدرون من أصول باكستانية، ويعملون مع عصابات تدير هذه الجرائم بطريقة منظمة".
وأثارت تصريحات برافرمان احتجاجات أطراف سياسية ومجتمعية، مما اقتضى إصدار بيان رسمي يوضح أن وزيرة الداخلية كانت تقصد في حديثها الإشارة إلى ثلاث مناطق محددة شهدت أسوأ جرائم من هذا النوع، وارتكبها بريطانيون باكستانيون، وفقاً لتحقيقات الشرطة، وأحكام القضاء التي أدانت الفاعلين حينها.
والمناطق الثلاث التي أشارت إليها وزيرة الداخلية، هي روتشديل وروثرهام وتيلفورد، وجميعها تقع وسط إنجلترا، وكل واحدة منها، شهدت عدداً كبيراً من هذه الجرائم، التي يطلق عليها اسم "استمالة القُّصر"، ما استدعى فتح تحقيق رسمي وشامل في الظاهرة، استمر ثلاث سنوات، وصدرت نتائجه منتصف يوليو 2022.
ويقول التحقيق إن كلاً من تيلفورد وروثرهام شهدتا أكثر من 1000 جريمة "استمالة" للفتيات من البشرة البيضاء خلال السنوات الماضية. أما روتشديل فكان عدد ضحاياها أقل، ولكنه كاف لإثارة الرعب في نفوس السكان، ناهيك عن مناطق أخرى مثل أوكسفورد وديربي ونيوكاسل، التي سجلت عشرات الحالات.
وبحسب نتائج التحقيق، ينحدر غالبية منفذي جرائم استغلال القاصرات في هذه المناطق إلى أصول آسيوية. وذكرت تقارير صحافية حينها إنهم بريطانيون باكستانيون، ولكن الأمر لم يتأكد رسمياً إلا قبل أيام فقط، عندما تحدثت وزيرة الداخلية، وأكدت لوسائل إعلام محلية أن الجناة في أكبر الجرائم من أصول باكستانية.
"تحريض عنصري"
زعيم المعارضة كير ستارمر، أكد تأييد "حزب العمال" لأي إجراءات رسمية من شأنها وقف جرائم "استمالة القُّصر". ولكن ستارمر أبدى تحفظاً على تصريحات وزيرة الداخلية التي أشارت إلى الخلفية الباكستانية للمنفذين، مشيراً إلى أن الغالبية العظمى من هذه الجرائم لا تتحملها أقلية عرقية، وفق ما تسوقه التحقيقات الرسمية.
ونقلت صحف محلية عن عمدة مدينة "غرب يوركشاير" تريسي برابين، المنتمية إلى "حزب العمال"، قولها إن برافرمان تحاول تعميم "صور نمطية مشوهة" حول الأقليات العرقية.
أما وزيرة الداخلية في حكومة الظل العمالية، إيفين كوبر، فأكدت أن "الخطط الجديدة للحكومة من أجل مكافحة جرائم استمالة القُّصر، لا تكفي".
وفي إطار الاعتراض على كلام وزيرة الداخلية، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الباكستانية ممتاز زهرة بالوش، إن برافرمان تنشر صورة مضللة عن الباكستانيين، وتستهدف الذين يحملون الجنسية البريطانية منهم. ولفتت إلى أنه "لا يمكن تعميم السلوك الخاطئ للبعض على جالية كاملة تعيش في المملكة المتحدة".
ولفتت بالوش في مؤتمر صحافي، إلى أن "برافرمان تتجاهل كل المساهمة الثقافية والاقتصادية والسياسية الكبيرة التي قدمتها الجالية الباكستانية في بريطانيا، وتمضي نحو تصريحات تخلق حساسيات عرقية، ومشكلات مجتمعية"، مضيفة أنها "قد تحث على العزلة وانغلاق الأعراق على بعضها، فتتسع الهوة بين مكونات المجتمع".
تحقيقات الشرطة
الأسئلة التي أثيرت بعد تصريحات برافرمان، تدور حول التحقيقات التي تجريها الشرطة في جرائم "استمالة القاصرات"، وهل هي كافية، بالإضافة إلى مدى توفيرها للحقائق من دون اختزال يقتضيه ما أسماه سوناك "الصوابية السياسية"، إضافة إلى حقيقة وجود أدلة على أن البريطانيين الباكستانيين هم أكثر من يرتكب هذه الجرائم في المملكة المتحدة.
وفي مراجعة مستقلة صدرت عام 2014، بشأن الجرائم التي وقعت في منطقة روثرهام بين عامي 1997 و2013، تقول البروفيسورة أليكس جاي، إن غالبية المنفذين والمتورطين ينحدرون من أصول باكستانية. وتشير شرطة مانشستر أيضاً إلى أن المذنبين في فضيحة روتشدال خلال فبراير 2012، من اصول باكستانية أيضاً.
وهناك تحقيق شامل أجرته لجنة في بلدة تيلفورد على مدار ثلاث سنوات متتالية، يشير بوضوح إلى الخلفية الآسيوية لغالبية الجناة. ورغم أن عدداً من استجوابات الشرطة التي استعان بها أو شملها التحقيق، لم يحدد الدولة الآسيوية التي ينحدر منها الجناة، لكن تقارير صحافية قالت صراحة إن أصولهم باكستانية.
وخلصت دراسة أجرتها وزارة الداخلية عام 2020، إلى أن غالبية مرتكبي جرائم الاستغلال الجنسي للأطفال، هم من البيض، ولكن نسبة المجرمين الذين ينتمون إلى خلفيات عرقية إفريقية أو أسيوية، تعد كبيرة مقارنة بحجم تمثيل تلك الأقليات في المجتمع البريطاني، مع تأكيدها على صعوبة التوصل لبيانات دقيقة في هذا الإطار.
وتوضح الدراسة أن قيوداً عديدة وضعت على ربط هذه الجرائم بالخلفية العرقية للمجرمين، وهو ما جعل كثيراً من تحقيقات الشرطة منقوصة وغير مكتملة ورديئة النتائج، عند البحث في ظاهرة "استمالة القُّصر"، ولكن بشكل عام، يصعب القول إنها حكر على عرق بذاته، أو أنها أكثر تفشيا وتمددا بين أبناء جالية بعينها.
وسبق بحث آخر مستقل هذه الدراسة، وأجري في عام 2015، إذ أظهر أن من بين 1231 متورطاً في جرائم الاستغلال الجنسي للأطفال، 42% كانوا من البيض، و14% من الآسيويين أو آسيويين بريطانيين، و17% من أصل إفريقي. ولكن مشكلة ذلك البحث أنه شمل جزءاً من ضباط الشرطة، وخاص في جرائم عقد واحد.
ترحيب بخطوة سوناك
بشكل عام، وجدت الإجراءات الحكومية الجديدة لمواجهة جرائم "استمالة القصر"، ترحيباً من قبل الشارع والعاملين في مجال المحاماة والدفاع عن ضحايا هذه الجرائم، خصوصاً فيما يتعلق بقرار استخدام محققين مختصين ومدربين للتعامل مع مثل هذه الحالات، وبالتالي زيادة فرص كشف تفاصيل خافية منذ عقود.
وتشدد المحامية جنيت فود، على أن تدريب عناصر الشرطة وضباطها للتحقيق في هذا النوع من الجرائم، هو أمر بالغ الأهمية، خصوصاً أنه أفضى لوقف العديد من السياقات الخاطئة التي يتعامل فيها المحققون مع الضحايا، وهي تصل أحياناً لحد لومهم على "تصديقهم" للمجرمين، وانجرارهم خلف الأكاذيب التي يطلقونها.
وتلفت فود في حديث لـ"الشرق"، إلى أن "التركيز على العرق في البحث والاستقصاء خلف هذه الجرائم لن يكون مفيداً، والأهم منه التركيز على الأسباب والدوافع".
كما أشارت إلى أن "التحقيقات المختصة والمهنية، توفر بيانات حقيقة وكافية يمكن أن يستند إليها القضاء، للحكم بدقة على المتورطين، وإنصاف الضحايا".
وتنوه المحامية، إلى أن الاهتمام بالأسباب عوضاً عن العرق في التحقيق بجرائم الاستغلال الجنسي للأطفال، لا يعني بأي حال من الأحوال استمرار تجنب اتهام بعض الأشخاص خوفاً من الحساسيات المجتمعية، مشيرة إلى أن "هذه الجرائم تمس الناس على اختلاف أصولهم، ولا بد من كشف المجرمين أيا كانت أعراقهم أو خلفياتهم".