بأكثر من ألف و800 ضحية من المدنيين تدخل الحرب في السودان بين الجيش وقوات "الدعم السريع" أسبوعها الثامن، وبينما يعلو "صوت المعركة" على ما عداه وسط انسداد الأفق السياسي بعد إعلان الوساطة السعودية الأميركية تعليق مباحثات جدة، الخميس الماضي، تتفاقم المخاوف من اتساع رقعة الحرب وانزلاق البلاد نحو المجهول.
وهو الأمر الذي حذر منه كثيرون داخل وخارج البلاد، فيما دعت السعودية والولايات المتحدة، الأحد، بعد يوم من انتهاء وقف هش لإطلاق النار استمر 5 أيام، إلى اتفاق جديد على وقف إطلاق النار وتنفيذه بشكل فعال بهدف بناء وقف دائم للعمليات العسكرية.
وأكد البلدان، في بيان للخارجية السعودية، حرصهما على استمرار المحادثات، مشيرين إلى أن وفدي القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع لا يزالان في مدينة جدة، رغم تعليق المحادثات التي ركزت على سبل تسهيل المساعدات الإنسانية والتوصل إلى اتفاق بشأن خطوات على المدى القريب ينبغي على الطرفين اتخاذها قبل الانخراط مجدداً في المباحثات.
ورغم تصاعد حدة المعارك في العاصمة الخرطوم ومدن نيالا والفاشر والجنينة بدارفور والأبيض بولاية شمال كردفان، إلا أن الرياض وواشنطن أعربتا عن استعدادهما لاسئناف المحادثات، مذكرتين الطرفين بضرورة تنفيذ التزاماتهما بموجب إعلان جدة الموقع في 11 مايو الماضي، للالتزام بحماية المدنيين في السودان.
وإزاء استمرار المعارك وفشل المحاولات المتكررة التي بذلها الوسطاء لتثبيت وقف النار، تزداد الأسئلة إلحاحاً بشأن مصير السودان، والاتجاه الذي ستتخذه الأمور بعد تعليق المحادثات، وما إذا كان هناك بديل لمنبر جدة التفاوضي، وغيرها من التساؤلات التي تتخطاها إلى محاولة الوقوف على المستفيد من تداعي البلد الإفريقي الذي تتزايد موجات النزوح واللجوء فيه مع صباح كل يوم جديد.
ماذا جرى في جدة؟
في السادس من مايو الماضي وبعد 3 أسابيع من اندلاع النزاع في السودان، أعلنت وزارة الخارجية السعودية أن ممثلين للجيش السوداني وقوات الدعم السريع اجتمعوا لأول مرة منذ بدء القتال في مدينة جدة الساحلية في محاولة قالت الرياض إنها تهدف للتوصل إلى وقف فعال لإطلاق النار.
وأتت المبادرة السعودية التي أطلقتها المملكة بالتعاون مع الولايات المتحدة بعد جهود سابقة للرياض وواشنطن في دعوة الطرفين إلى وقف قصير لإطلاق النار، لإتاحة الفرصة لوصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، واستعادة الخدمات الأساسية، سرعان ما خرقه طرفا النزاع.
وتركزت الاجتماعات التي استضافتها جدة على التوصل إلى اتفاق بشأن السماح بدخول المساعدات الإنسانية، بعد أن حوصر الملايين من سكان الخرطوم في منازلهم بسبب القتال، فيما نزح عشرات الآلاف الآخرين في شتى أرجاء السودان.
وفي اليوم الثاني لمحادثات 6 مايو، استقبلت جدة كبير مسؤولي المساعدات في الأمم المتحدة مارتن جريفيث للمشاركة في محادثات وقف النار.
وبعد مباحثات استمرت لأيام وقع طرفا النزاع في 11 مايو على "إعلان إنساني" تعهدا فيه باحترام قواعد تتيح توفير المساعدات الإنسانية، لكنهما لم يتفقا على وقف إطلاق النار في مفاوضات وصفها دبلوماسيون أميركيون بـ"الصعبة".
وفي 20 من ذات الشهر، نجحت الوساطة السعودية في حمل الطرفين على التوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار قصير الأمد لمدة 7 أيام اعتباراً من 22 وحتى 29 مايو، لإيصال المساعدات الإنسانية واستعادة الخدمات الأساسية، وسحب القوات من المستشفيات والمرافق العامة الأساسية.
ومثل الاتفاق اختراقاً كبيراً، إذ أعلن الطرفان بموجبه التزامهما بتسهيل المرور الآمن لمقدمي الخدمات الإنسانية والسلع وعدم السعي وراء أي مكاسب عسكرية خلال هدنة الأسبوع، الأمر الذي نجح بشكل نسبي بالمقارنة مع الهدن السابقة، وإن لم يخل من الخروقات التي قام بها طرفا النزاع.
وبعد يومين من سريان الهدنة، قالت الخارجية السعودية، في بيان، إن الميسيرين (المملكة والولايات المتحدة)، لاحظوا أن كلا الطرفين لم يلتزما بعدم السعي وراء مكاسب عسكرية، خلال الهدنة وقبل بدء وقف النار، مشيرة إلى أنه تم إبلاغ طرفي الصراع بوجود انتهاكات للهدنة تضمنت عمليات هجوم في الخرطوم والأبيض وهجمات جوية واستغلال للأسلحة.
وفي 26 مايو، أعلنت الرياض وواشنطن عن "تحسن ملحوظ" في احترام اتفاقية وقف إطلاق النار قصير الأمد والترتيبات الإنسانية في السودان، لتدعوان قبل يوم من انتهاء الهدنة إلى مواصلة النقاش للتوصل إلى اتفاق بشأن تمديد وقف إطلاق النار.
وهو الأمر الذي نجحت فيه الوساطة السعودية الأميركية، ليوقع طرفا النزاع عشية 29 مايو بمدينة جدة، على تمديد اتفاقية وقف النار قصير الأمد والمساعدات الإنسانية لمدة 5 أيام، لتنفيذ أحكام وقف النار التي لم تنفذ بالكامل وإتاحة المزيد من الوقت للجهات الإنسانية للقيام بعملها بالكامل، كما اتفق الطرفان على مناقشة هدنة طويلة الأمد.
لكن سرعان ما عادت الأمور إلى الوراء، إذ قررت القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية في 31 مايو، تعليق المحادثات الجارية في جدة، بسبب "عدم إلتزام المليشيا المتمردة بتنفيذ أي من البنود التي نص عليها الاتفاق، والاستمرار في خرق الهدنة"، وفقاً لبيان مقتضب نشره الجيش على فيسبوك.
وإزاء هذه التطورات، التي أتت مصحوبة بـ"انتهاكات جسيمة" لوقف النار وإعلان جدة من قبل الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أعلنت الوساطة السعودية الأميركة تعليق المحادثات، على أن يتم استئنافها بـ"مجرد أن تتضح جدية الأطراف فعلياً بشأن الامتثال لوقف إطلاق النار"، بحسب بيان للخارجية السعودية.
موقف الجيش و"الدعم السريع"
ورغم أن الجيش السوداني أعلن تعليق مشاركته في محادثات جدة قبل توقفها، إلا أنه عاد وأكد في بيان بتاريخ 2 يونيو الجاري، أن تشاوراً "غير رسمي" تم مع الوسطاء بشأن مقترح بمصفوفة لتنفيذ الاتفاق بشكل يؤسس لاستمرار التفاوض.
وأضاف الجيش أنه فوجئ بإعلان الوساطة تعليق المحادثات "دون الرد على مقترحاتنا التي تجاهلتها تماماً ولم تشر إليها في بيانها، وهذا لن يساعد على التوصل لحلول عادلة تلبي رغبات شعبنا في الأمن والسلام".
وحث الجيش الوساطة على مواصلة جهودها في إقناع الطرف الآخر بتنفيذ مطلوبات الهدنة ووقف إطلاق النار المؤقت بما يمكن من العودة مجدداً لمسار التفاوض.
ولم يكشف الجيش عن تفاصيل مقترحه في البيان، كما لم يتسن لـ" الشرق" الحصول على رد من المتحدث باسم القوات المسلحة السودانية العميد نبيل عبد الله، بشأن الخطوة المقبلة بعد تعليق محادثات جدة، وما إذا كانت هناك منابر تفاوضية جديدة، أم أن المحادثات ستتواصل في المدينة الساحلية السعودية، أم أن الأمور ستتجه نحو مزيد من التصعيد دون العودة لطاولة المفاوضات؟
وكذلك لم يتسن لـ"الشرق" الحصول على رد على ذات التساؤلات بشأن منبر جدة التفاوضي من يوسف عزت، المستشار السياسي لقائد قوات الدعم السريع.
لكن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو قال، الأحد، على فيسبوك، إنه أكد لوزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان دعمه لمنبر جدة، والتزامه بإعلان حماية المدنيين، وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية.
وأضاف دقلو الشهير بـ"حميدتي" أنه ناقش مع وزير الخارجية السعودي، في اتصال هاتفي، الأوضاع في السودان وجهود الوساطة.
وأردف: "تبادلنا كذلك وجهات النظر حول آخر التطورات في البلاد، وأكدنا على أهمية التنسيق وتكثيف الجهود المشتركة من أجل تحقيق الاستقرار في بلادنا".
وأعرب "حميدتي" عن ترحيبه بالبيان المشترك الذي أعلنت عنه الوساطة السعودية الأميركية بشأن استمرار المباحثات غير المباشرة، خلال وقت سابق الأحد.
إلى أين تتجه الأمور؟
واقع الحال في العاصمة الخرطوم ينبئ بأن النزاع في السودان قد يأخذ منحى جديداً بعد انهيار محادثات جدة، يتعلق بتصاعد حدة المعارك، وتزايد محاولات كل طرف للمحافظة على مواقعه التي يسيطر عليها والتوسع نحو مناطق جديدة، ما يؤدي لاستمرار الحرب، وفقاً لأستاذ العلوم السياسية بجامعة النيلين مصعب محمد علي.
وقال محمد علي لـ" الشرق" إنه يعزي تعثر المحادثات إلى الرفض الذي تجده خطوة التفاوض في بعض أوساط الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، متوقعاً عودة الطرفين مجدداً إلى طاولة الحوار بعد تعزيز السيطرة العسكرية لكل منهما على الأرض.
واعتبر المحلل السياسي السوداني أن مفاوضات جدة يمكن أن تكون منبراً للحل السياسي لإنهاء الحرب في البلاد، لو تخلى طرفا الحرب عن النظر لواقع الميدان العسكري، واعتقادهما أن بإمكانهما تحقيق نصر حاسم.
وأوضح أن الطرفين لم يتجاوبا حتى اللحظة مع مبادرات بديلة لمحادثات جدة أو مكملة لها، مشيراً إلى مبادرة مشتركة للاتحادين الإفريقي والأوروبي رفضها الجيش و"الدعم السريع"، ما يعزز فرضية أن منبر جدة سيكون له التأثير في مقبل الأيام على مجريات الأمور، إلا إذا أقنعت وساطة جديدة الطرفين بالجلوس في منبر آخر، بحسب محمد علي.
أما الأكاديمي والمفكر السياسي السوداني د. الواثق كمير، فيرى في مقال، نشره الأحد، أنه ينبغي البناء على مخرجات المحادثات في جدة درءاً لتعدُد الوساطات ومنابِر التفاوض وتجنب التدويل، واصفاً الأمر بأنه "الأفضل ويصُب في المصلحة الوطنية".
وأكد كمير أن من الضروي اتخاذ هذه الخطوة بتسهيلٍ من السعودية والولايات المتحدة، وبالتنسيقِ بينهما والاتحاد الإفريقي ودول الجوار، خاصة مصر وجنوب السودان، في تنفيذ الإجراءت الفنية المتعلقة بالترتيبات الأمنية ودمج قوات الدعم السريع في الجيش، وفقاً لمتطلبات ومقتضيات عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج.
وتابع: "بالرغم من ذلك كُلهِ، فإنّ لم تبسط القوات المسلحة سيطرتها العسكرية، وفي حالِ استمرار الحرب لمدة طويلة، قد يُفضي الأمرُ إلى ضُعفٍ في توازن القوة بين الجيش والمليشيا يدفعُ لمفاوضات سياسية تُعترف بمليشيا الدعم السريع كفاعلٍ عسكريٍّ سياسيٍّ، مما يُعيد انتاج الأزمة التي قادت إبتداء لهذه الحرب".
وحذر الأكاديمي السوداني من دخول البلاد في حربٍ جديدة قد تكون أوسع نطاقاً وأفظع من الاقتتال الجاري، يصعبُ التكهُنِ بمساراتها ومآلاتها، في حال حدوث هذا السيناريو، مشيراً إلى أنه في حال انتصار "الدعم السريع" عسكرياً، فـ"هذا السيناريو يُنذرُ ببداية نهاية السودان الذي نعرفه إمّا بحربٍ أهليةٍ مُمتدةٍ أو بتفككِ الدولة السودانية في سعي كل مجموعة لاحتلال وإقامة سلطة في منطقة بعينها".
منبر تفاوضي جديد؟
وكانت مصادر سودانية قد أكدت لـ" الشرق"، في وقت سابق، أن الاتحاد الإفريقي طرح بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي خارطة طريق لحل الأزمة السودانية بعد تعليق الوساطة السعودية الأميركية لمحادثات جدة.
وتضمن المبادرة الإفريقية الأوروبية مراقبة دولية لوقف إطلاق النار وإرسال قوات إقليمية إلى السودان لحماية المنشآت الحيوية، بحسب المصادر التي أكدت أن الجيش و"الدعم السريع" رفضا هذه المبادرة نظراً لتضمنها اقتراحاً يقضي بإبعاد قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وقائد قوات "الدعم السريع" الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي" من منصبيهما.
لكن الباحث في الشؤون الإفريقية والمحلل السياسي محمد تورشين، يرجح أن ينخرط طرفا الصراع في مباحثات جديدة تحت مظلة هذه المبادرة المدعومة من أكثر من 21 دولة إفريقية وجامعة الدول العربية والاتحادين الإفريقي والأوروبي ومنظمة دول "الإيقاد"، حال انهيار محادثات جدة بعد تعليقها.
وذكر تورشين لـ" الشرق"، أنه في حال استمرار الأوضاع على ماهي عليه، فإن الأمور ستتجه نحو المزيد من التصعيد، مشيراً إلى أن الحسم العسكري أمر يصعب الوصول إليه بالنسبة للطرفين، ما يجعل فرضية الانخراط في محادثات لبحث وقف دائم لإطلاق النار والقضايا الإنسانية بمشاركة القوى السياسية المدنية في المنبر الإفريقي هي الأرجح.
وأوضح أن التصريحات الأخيرة لقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان والبيان الأخير للقوات المسلحة السودنية وقائد ثاني "الدعم السريع" الفريق عبد الرحيم دقلو، تشير إلى رغبة الطرفين في استئناف الحوار.
وتوقع تورشين أنه حتى بعد تجدد المواجهات وتصاعد وتيرة المعارك، سيعود الطرفان مجدداً إلى طاولة الحوار، نظراً لاستحالة الحسم العسكري، مشيراً إلى أنه حتى لو تمكن الجيش السوداني من تحقيق مكاسب عسكرية كبيرة، فإنه لا بد من الجلوس والتفاوض بشأن مستقبل قوات الدعم السريع لأن الحسم العسكري وإن تحقق فإنه ليس النهاية.
ونوه إلى أن حزب الرئيس السابق عمر البشير "المؤتمر الوطني" هو المستفيد الأول من عدم الاستقرار في السودان، لأن استمرار القتال يعني فشل عملية الانتقال الديمقراطي، مشيراً إلى أن هناك أيضاً قوى إقليمية بعينها تستفيد من عدم التوصل إلى حل للنزاع في البلاد.