آخر لحظات غرق "أدريانا" قبالة اليونان.. رعب وطبقية وتباطؤ في المساعدة

time reading iconدقائق القراءة - 14
رجال في ميناء كالاماتا ينقلون جثامين مهاجرين ماتوا بعد غرق قاربهم في عرض البحر قبالة اليونان- 15 يونيو 2023 - REUTERS
رجال في ميناء كالاماتا ينقلون جثامين مهاجرين ماتوا بعد غرق قاربهم في عرض البحر قبالة اليونان- 15 يونيو 2023 - REUTERS
دبي- بالشراكة مع "نيويورك تايمز"

من الجو والبحر، باستخدام أجهزة الرادار والتليفون واللاسلكي، جلس المسؤولون يُشاهدون ويسمعون على مدى 13 ساعة، في وقت فَقدت سفينة المهاجرين "أدريانا" قدرتها على التحكم والاتزان في عرض المتوسط، قبل أن تنجرف قبالة الساحل اليوناني، في كارثة إنسانية "وقعت على مهل"، على حد تعبير صحيفة "نيويورك تايمز".

وعندما اتصل الركاب المذعورون طلباً للنجدة، طمأنهم العاملون في الحقل الإنساني بأن "فريق الإنقاذ في الطريق إليكم، لكن الأمر سيستغرق بعض الوقت". كما استعد مسؤولو الحدود الأوروبيون الذين شاهدوا اللقطات المأخوذة من الجو لرصد ما كان مؤكداً أنها "عملية إنقاذ بطولية".

إلا أن السفينة "أدريانا"، وخلافاً لذلك، انقلبت رأساً على عقب الشهر الماضي، وسرعان ما شقّت طريقها نحو القاع في ظل وجود سفينة وحيدة تابعة لخفر السواحل اليوناني، ما أودى بحياة أكثر من 600 مهاجر، في مأساة بحرية صادمة حتى في أكثر طرق الهجرة فتكاً في العالم.

وتُشير صور الأقمار الاصطناعية والوثائق القضائية وأكثر من 20 مقابلة أجرتها الصحيفة الأميركية مع ناجين ومسؤولين وسلسلة من الإشارات اللاسلكية التي تم إرسالها في الساعات الأخيرة، إلى أنه كان بالإمكان تخفيف عدد الضحايا.

ورغم أن العشرات من المسؤولين وأطقم خفر السواحل كانوا يُراقبون السفينة، إلا أن الحكومة اليونانية تعاملت مع الموقف باعتباره "عملية لإنفاذ القانون"، وليس باعتباره "عملية إنقاذ".

وبدلاً من إرسال سفينة مستشفى تابعة لسلاح البحرية تحمل على متنها اختصاصيي إنقاذ، أرسلت فريقاً ضم 4 رجال ملثمين يحملون أسلحة من وحدة العمليات الخاصة التابعة لخفر السواحل.

وتذرعت السلطات في اليونان مراراً بأن السفينة "أدريانا" كانت في طريقها إلى إيطاليا، وأن المهاجرين رفضوا إنقاذهم، لكن صور الأقمار الاصطناعية وبيانات التتبع التي حصلت عليها الصحيفة " أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك" أن السفينة "انجرفت بقوة في دوامة بحرية في الـ6 ساعات ونصف ساعة الأخيرة قبل غرقها".

وفي شهاداتهم بعد أداء القسم، وصف الناجون الركاب الذين كانوا في الطوابق العليا من السفينة وهم "يستغيثون من أجل النجدة، بل ويحاولون القفز على متن ناقلة تجارية توقفت لتوفير مياه الشرب" للسفينة المنكوبة.

"نظام طبقي" على السفينة

على متن السفينة "أدريانا" سيطرت "حالة من العنف واليأس" على الركاب البالغ عددهم نحو 750 شخصاً. وكانت كل حركة تُهدد بانقلاب السفينة في عرض البحر. وتحدث الناجون بإسهاب عن حالة "الذعر والتدافع" التي بلغت حد التضارب أثناء انتظارهم الإنقاذ الذي لم يصل.

ووصفت "نيويورك تايمز" غرق "أدريانا" بأنه "مواجهة طويلة المدى في عرض المتوسط"، حيث يدفع "المهربون غلاظ القلوب في شمال إفريقيا بالأفراد على متن سفن متهالكة، فيما يأمل الركاب أن يخيب ظنهم في هذه السفن، ويصلون بها إلى بر الأمان".

إلا أن خفر السواحل الأوروبي، بحسب الصحيفة، غالباً ما يؤخر عمليات الإنقاذ "خوفاً من أن تفاقم المساعدة جرأة المهربين على إرسال مزيد من الأفراد على سفن أكثر رداءة". وبينما تتحول السياسات الأوروبية صوب اليمين، تُمثّل كل سفينة جديدة تصل إلى الحدود "نقطة اشتعال سياسية محتملة".

ولذلك، حتى عندما طلب ركاب "أدريانا" النجدة، عمدت السلطات إلى "الاستماع" للقبطان، الذي كان شاباً مصرياً في الـ22 من عمره، والذي أكد لهم أنه لا يُريد سوى "مواصلة الإبحار إلى إيطاليا"، إذ "عادة ما يحصل القباطنة المهربون على مكافآتهم لدى بلوغهم نهاية الرحلة".

وأشارت الصحيفة إلى أن وزارة الشؤون البحرية اليونانية قالت إنها لن ترد على "الأسئلة التفصيلية"، محتجة بأن غرق السفينة "لا يزال قيد التحقيق الجنائي".

ورغم الساعات الطوال من المراقبة المتقطعة، لم يكن الشهود على اللحظات الأخيرة لغرق "أدريانا"، سوى الناجين وأعضاء طاقمها البالغ عددهم 13 فرداً، والذين وصلوا إلى متن سفينة خفر السواحل اليونانية التي تحمل اسم "920".

من جانبه قال المتحدث باسم وزارة الشؤون البحرية اليونانية إنه "تم إيقاف كاميرا الرؤية الليلية الخاصة بالسفينة أدريانا عن العمل خلال هذه الفترة".

وأظهرت الوثائق القضائية أن قبطان خفر السواحل قدم للسلطات قرصاً مضغوطاً "CD-ROM" يحتوي على تسجيلات بالفيديو، غيرَ أن مصدر التسجيلات لم يكن واضحاً، ولم يتم نشرها، وفقا لـ"نيويورك تايمز".

ودافع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس عن خفر السواحل عبر التصريحات التي أدلى بها في بروكسل الأسبوع الماضي، واصفاً منتقدي الوكالة بأنهم "غير منصفين على الإطلاق".

كما أشارت الصحيفة الأميركية إلى أن حادثة الغرق لم تُثر سوى "انتقادات علنية محدودة" من قبل المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، الذي التزم الصمت حيال موقف الحكومة اليونانية "المتشدد" ضد المهاجرين.

وكانت السلطات اليونانية ألقت القبض على 9 ناجين من مصر، موجهةً لهم تهمة "التهريب والتسبب في غرق سفينة".

وقال الناجون من حادث غرق السفينة "أدريانا"، إن عدداً كبيراً من الأفراد الـ9 المحتجزين لدى السلطات اليونانية "تعرضوا للركاب بالعنف والابتزاز"، لكن المقابلات مع أقرب المتهمين رسمت "صورة أكثر تعقيداً"، بحسب الصحيفة، إذ "دفع واحد على الأقل من المتهمين بالتهريب رسوماً كاملة تزيد عن 4 آلاف دولار ليركب السفينة".

وأضافت الصحيفة أنه تم الزج بالمهاجرين، الذين دفعوا أكثر من 3.5 مليون دولار نظير تهريبهم إلى إيطاليا، إلى السفينة "أدريانا"، في ما وصفه الناجون بأنه "نظام طبقي من الجحيم"، حيث تم الدفع بالباكستانيين إلى الأسفل، فيما قبعت النساء والأطفال في الطابق الأوسط، واعتلى السوريون والفلسطينيون والمصريون سطح السفينة.

وتابعت: "يستطيع الشخص الحصول على مكان على سطح السفينة مقابل 50 دولاراً إضافية، ما ثبت أنه كان، بالنسبة للبعض، حداً فاصلا بين الحياة والموت".

وقالت حكومة باكستان إن عدد مواطنيها الذين كانوا على متن السفينة "50 شخصاً"، كان معظمهم في الطوابق السفلية وفي عنبر السفينة، ولم ينج منهم سوى "12 راكباً". وغرق النساء والأطفال مع السفينة.

"سينقذونكم"

"نيويورك تايمز" أفادت نقلاً عن شهادات ومقابلات، أنه بحلول اليوم الرابع من إبحار السفينة من طبرق في ليبيا، فجر 9 يونيو، لقي 6 أشخاص، بينهم طفل على الأقل، مصرعهم.

وفي اليوم التالي، وبينما كانت السفينة "أدريانا" تتجه نحو إيطاليا في خضم أعطال في المحرك، أقنع المهاجرون الذين يعتلون سطح السفينة، القبطان بإرسال نداء استغاثة إلى السلطات الإيطالية.

وكانت "أدريانا" في هذا الوقت في قلب المياه الدولية، وكان هدف قبطانها الأسمى هو الوصول إلى إيطاليا. وقال الخبراء الذين يدرسون هذا الطريق للصحيفة الأميركية، إن قباطين السفن "لا يحصلون عادة على مكافآتهم إلا لدى وصول سفنهم إلى محطتها الأخيرة".

وأيد هذا بعض الناجين، الذين قالوا إن الرسوم التي دفعوها "كانت بحوزة وسطاء" لتسليمها إلى الربان فور وصولهم سالمين إلى إيطاليا.

وقال ربان السفينة، لركابه، وفقاً لما نقلته "نيويورك تايمز" عن بعض الناجين، إن السلطات الإيطالية "ستنقذ السفينة، وستنقل الناس إلى الشاطئ". وقبيل الواحدة بعد الظهر، لاح في الأفق بصيص أمل متمثلاً في طائرة.

"بصيص أمل"

كانت وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي، "فرونتيكس"، تلقت تحذيراً من قبل السطات الإيطالية يفيد بأن السفينة "أدريانا" تواجه مشكلات، وهرعت إلى إحداثياتها.

ولم يكن من شك لدى مسؤولي الاتحاد الأوروبي في أن السفينة تحمل من الركاب ما لا تحتمل، ورجحوا أنها بهذه الحمولة لا يمكنها الوصول إلى أي ميناء من دون مساعدة.

وقال متحدث باسم "فرونتيكس"، إن صور قارب "الصيد الأزرق الصدئ" ظهرت في مركز قيادة "فرونتيكس" في وارسو، حيث تصادف وقت ظهورها مع تجول صحافيين ألمان.

وأضاف أن "أدريانا" كانت "فرصة لإظهار قدرات الوكالة على اكتشاف السفن التي تواجه أزمات، وإنقاذ الأرواح التي على متنها"، وفقاً للصحيفة.

وبعد أن شاهدت وكالة الحدود الأوروبية السفينة، التي كانت في منطقة البحث والإنقاذ اليونانية في المياه الدولية، كان من المؤكد أن السلطات اليونانية "ستهرع إلى تقديم المساعدة".

وبعد ساعتين، حلّقت مروحية تابعة لخفر السواحل اليوناني. وتلقت نوال صوفي، وهي ناشطة إيطالية، مكالمات من مهاجرين مذعورين. وجاء ردها: "أنا على يقين من أنهم سيهرعون لنجدتكم، لكن عليكم التحلي بالصبر. فلن يكون ذلك فورياً".

استغاثة

في حوالي السابعة من مساء 13 يونيو، أي بعد نحو 7 ساعات من اكتشاف "فرونتيكس" للسفينة المأزومة، طلبت السلطات اليونانية من سفينتن تجاريتين قريبتين توفير المياه والطعام للمهاجرين، وتوفير الوقود للسفينة لمواصلة رحلتها، وذلك وفق ما نقلت الصحيفة الأميركية عن تسجيلات فيديو ووثائق قضائية.

ويكمن جزء مهم من تفسير السلطات اليونانية لعدم إنقاذها "أدريانا"، في زعمها أن السفينة كانت "تُبحر بدأب صوب إيطاليا".

وعندما أفادت شبكة "بي بي سي"، مستخدمة البيانات القادمة من السفن المجاورة، أن السفينة "أدريانا" كانت عاطلة عن الإبحار لعدة ساعات قبل غرقها، أشارت الحكومة اليونانية إلى أن السفينة قد قطعت "30 ميلاً بحرياً باتجاه إيطاليا" منذ اكتشافها من قبل "فرونتيكس".

إلا أن صور الأقمار الاصطناعية والبيانات الواردة من منصة تتبع السفن "Marine Traffic"، أظهرت أن السفينة كانت "تائهة" طوال الساعات السبع الأخيرة من عمرها، وأظهرت بدورها صور الأقمار الاصطناعية التي التقطها وكالة الفضاء الأوروبية، أنه "بحلول الوقت الذي استدعت فيه السلطات اليونانية السفينتين التجاريتين، كانت "أدريانا" وصلت بالفعل إلى أقرب نقطة لها من إيطاليا، قبل أن تبدأ بالانجراف نحو الخلف.

ووصلت الناقلة الأولى "Lucky sailor" في غضون دقائق، فيما وصلت الثانية "faithful Warrior" بعد نحو ساعتين ونصف الساعة.

وأفاد قبطان الناقلة "Faithful Warrior" بأن بعض الركاب ألقوا بالإمدادات إلى ناقلته، وقالوا إنهم يريدون مواصلة رحلتهم إلى إيطاليا.

ولم يتضح بعد عدد الذين رفضوا المساعدة، لكن كان بينهم قبطان "أدريانا" وحفنة من الرجال الذين أرهبوا الركاب، بحسب ما نقل "نيويورك تايمز" عن شهادات ومقابلات مع الناجين.

ومع حلول الليل، أخبر ربان الناقلة التجارية "Faithful Warrior" مركز التحكم في اليونان، أن السفينة "أدريانا" تتمايل بشكل خطير".

وأظهرت سجلات الإرسال اللاسلكي أنه على مدى 5 ساعات، نقل مركز التحكم اليوناني 5 رسائل عبر البحر المتوسط، باستخدام قناة مخصصة لمكالمات السلامة والاستغاثة.

ورغم أن تتابع رسائل الاستغاثة يوجه السفن المجاورة إلى بدء البحث والإنقاذ، إلا أن خفر السواحل اليوناني "لم يضطلع بمهمة الإغاثة في هذه المرحلة"، وفقاً لما أوردته "نيويورك تايمز".

نهاية متوقعة

مع اقتراب انتصاف ليل 14 يونيو، وصلت سفينة خفر السواحل اليونانية "920"، وهي السفينة الحكومية الوحيدة التي تم إيفادها إلى موقع الحدث، إلى جانب السفينة "أدريانا".

لم يطمئن المهاجرون إلى وصول السفينة "920"، وقال العديد منهم في المقابلات التي أجرتها معهم "نيويورك تايمز" إنهم شعروا بالقلق من "الملثمين".

وكانت الحكومة اليونانية استخدمت سابقاً خفر السواحل لردع عمليات الهجرة، إذ نشرت صحيفة "The Times" في مايو الماضي مقطعاً مصوراً يُظهر ضباطاً "يجمعون المهاجرين ويتخلصون منهم على قارب في بحر إيجه".

وكانت مهمة "920" غير واضحة، مثلما كان كل ما حدث في أعقاب وصولها وإبحارها لمدة 3 ساعات على مقربة من "أدريانا".

وفي هذا السياق نقلت "نيويورك تايمز"عن بعض الناجين قولهم إن السفينة الحكومية اليونانية "920" "حاولت سحب أدريانا وإغراقها". ولكن الصحيفة أشارت أيضاً إلى أن خفر السواحل نفوا ذلك "في أول الأمر"، قبل أن يعترفوا بأنهم "ألقوا حبلاً إلى السفينة قبل غرقها بساعات".

وأكدت الصحيفة أن محاولات إنقاذ الركاب قد "باءت بنتائج عكسية"، معزية ذلك إلى "التغيرات المفاجئة في توزيع الوزن على سفينة متأرجحة ومكتظة بعدد من الركاب يفوق حمولتها".

ورغم أن السفينة "920" تفوق "أدريانا" حجماً، إلا أنه "لم يتضح بعد ما إذا كانت تتوافر فيها المساحة الكافية لاستيعاب الركاب المهاجرين".

وأكدت الصحيفة أيضاً أن اليونان، إحدى الدول البحرية الأبرز في العالم، "مجهزة بكل الأحوال لتنفيذ عمليات إنقاذ"، مضيفةً أن "السفن التابعة للبحرية، كتلك المزودة بخدمات طبية، كان بإمكانها الوصول في غضون 13 ساعة بعد التحذير الذي تلقته وكالة "فرونتيكس".

وخلصت إلى أن سبب غرق السفينة "لم يتضح بعد"، إذ يُلقي خفر السواحل باللائمة على ما كانت تموج به السفينة من اضطراب وهلع، لكن الجميع اتفقوا على أنها لم تتأرجح سوى مرة واحدة إلى اليسار ثم إلى اليمين، قبل أن تنكفئ في عرض البحر.

وعلى إثر ذلك، سقط جميع من كانوا على سطح السفينة في البحر. واتكأ المذعورون على بعضهم البعض في الظلام، واستخدموا أجساد الآخرين للصعود عليها فوق سطح الماء لالتقاط أنفاسهم أملاً في البقاء على قيد الحياة.

وعلى سطح الماء، تشبث البعض بقطع الخشب، وسط أصدقاء وأقارب وغرباء غرقى، فيما صعد آخرون إلى مقدمة السفينة الغارقة. وسحب أفراد طاقم خفر السواحل عشرات الأشخاص من البحر. وقال أحدهم في شهادته، إنه كان في أول الأمر "يسبح بعيداً عن السفينة 920 خوفاً من أن يغرقه طاقمها".

بينما وقف مئات الأفراد، بينهم النساء والصغار داخل "أدريانا" من دون فرصة واحدة للنجاة. وراحوا ينكفئون رأساً على عقب، وتتقاذفهم مياه البحر التي ماجت داخل السفينة. وفي غضون دقيقة غرقت بهم السفينة إلى قاع البحر.

اقرأ أيضاً:

تصنيفات