وصف سياسيون وأكاديميون في الجزائر قرار فرنسا برفع السرية عن أرشيف ملف القاصرين المتعلق بفترة الاستعمار والحرب في الجزائر بـ"الخطوة الإيجابية"، لكنهم اعتبروها "غير كافية" في مسار تسوية ملف الذاكرة بين البلدين.
وقررت فرنسا، الأسبوع الماضي، زيادة تسهيلات الوصول إلى أرشيفها المتصل بحرب الجزائر بحيث تسمح بالاطّلاع على الملفات المتعلقة بقاصرين، في وقت لم تعلق فيه السلطات الجزائرية على الخطوة الفرنسية.
وبعد إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عام 2021، تسهيل الوصول إلى الأرشيف السري، فتحت فرنسا، في ديسمبر من العام نفسه، أرشيفها المتعلق بالقضايا القانونية، وتحقيقات الشرطة في الجزائر خلال حربها الممتدة بين 1 نوفمبر 1954 و31 ديسمبر 1966.
لكن على الرغم من القرار الفرنسي، إلا أن صحيفة "النهار" الجزائرية اعتبرت أن "من الناحية العملية، ظل الوصول إلى هذه الوثائق صعباً بالنسبة للعائلات والباحثين".
وتتعلق إحدى العقبات الرئيسية أمام الاطلاع على الأرشيف بعدم فتح الملفات الخاصة بمن تقل أعمارهم عن 21 عاماً بسبب التشريعات حينها، وهي ملفات كانت لا تزال مشمولة بفترة سرية الأرشيف البالغة 100 عام.
وسبّب هذا القيد، إضافة إلى قيود عدة أخرى، "إغلاق أغلب الملفات"، وبالتالي فإن القرار الفرنسي الجديد يلغي الاستثناء من استشارة الملفات المتعلقة بالقاصرين، بحسب الصحيفة.
غير أن الملفات التي ينتهك نشرها "خصوصية الحياة الجنسية للأشخاص أو سلامة الأشخاص المذكورة أسماؤهم، أو الذين يمكن التعرّف إليهم بسهولة وشاركوا في أنشطة استخباراتية"، تبقى سرّية، وفقاً للصحيفة.
ويشير "ملف القاصرين" إلى مجموعة من الملفات المتعلقة بقدماء المحاربين خلال "ثورة تحرير الجزائر"، والذين تقل أعمارهم عن 21 سنة بمن فيهم المهاجرين إلى فرنسا والذين تم اعتقالهم أو إعدامهم.
وسبق أن شكا مؤرخون فرنسيون من الإجراءات البيروقراطية التي تمنعهم من الاطلاع على هذه الملفات، بحسب المؤرخ الفرنسي مارك أندريه لصحيفة "لوموند" الفرنسية.
"خطوات خجولة"
مراقبون في الجزائر رأوا أن القرار الفرنسي الجديد خطوة لـ"مغازلة" الجزائر خاصة أن ملف الذاكرة له أهمية بالغة في العلاقات بين البلدين.
ووصف عضو لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الجزائري كمال بن خلوف خطوة فرنسا بـ"الإيجابية لكنها خجولة لأنه يعطي بعض الحقائق ولو أنها غير كاملة".
وأشار بن خلوف لـ"الشرق" إلى أن "ملفات القاصرين جزئية وليست جوهرية في ملف الذاكرة، على اعتبار أن هناك ملفات أعمق".
وتتمسك الجزائر باسترجاع كل الأرشيف الجزائري، إضافة إلى توضيح مصير المفقودين أثناء الثورة الجزائرية، مع تنظيف أماكن التفجيرات النووية، وتعويض ضحاياها، بحسب بن خلوف.
ويعتقد النائب الجزائري أن "الأوساط الفرنسية تريد التكتم على الحقائق والمعطيات التي تظهر الوجه الحقيقي للاستعمار الفرنسي في الجزائر".
وتولي الجزائر ملف الذاكرة أهمية كبرى في علاقاتها الثنائية مع فرنسا، على اعتبار أنه حجر أساس لا يمكن التخلي عنه، كما ترفض تقديم أي تنازلات بشأنه، معتبرة أنه لا يمكن أن يسقط بالتقادم.
تحسين العلاقات
ويرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر رضوان بوهيدل أن القرار الفرنسي يأتي "بهدف مد الحبال للجزائر، وإعادة المياه إلى مجاريها، في سياق سياسي يتميز بفتور في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين".
وأضاف بوهيدل لـ"الشرق" أن القرار جاء "عقب عدة أزمات هزت العلاقات بين باريس والجزائر، آخرها أزمة بوراوي التي هددت تفاهمات ومخرجات زيارة ماكرون إلى الجزائر".
وتسببت الناشطة السياسية الجزائرية الفرنسية أميرة بوراوي التي غادرت الجزائر إلى تونس ثم فرنسا بعدما مُنعت من مغادرة البلد، في عملية وصفتها الحكومة الجزائرية بـ"عملية الإجلاء السرية وغير القانونية"، في خلاف دبلوماسي مع باريس تم حله أخيراً.
كان ماكرون زار الجزائر، نهاية أغسطس 2022، بهدف إعادة إحياء الشراكة بين البلدين "بعد شهور من التوتر" على خلفية تصريحات الرئيس الفرنسي التي شكك خلالها في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي عام 1830، في حين وصفت الجزائر التصريحات بـ"المسيئة".
وأرجأت الجزائر وفرنسا زيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى باريس التي كانت مجدولة، في مايو الماضي، وهو ما أثار الكثير من التكهنات بشأن الأسباب.
ومنذ تولي تبون رئاسة الجزائر في ديسمبر 2019، خلفاً لعبد العزيز بوتفليقة، شهدت العلاقات الجزائرية-الفرنسية خلافات عدة، من بينها أزمة التأشيرات، وأزمة بث قنوات حكومية فرنسية فيلماً وثائقياً عن الحراك في الجزائر التي اعتبرته "مسيئاً للشعب الجزائري ومؤسسات الدولة".
وقال بوهيدل إن "التودد إلى الجزائر تزامن مع إحساس فرنسي بتراجع نفوذها في عدد من دول القارة الإفريقية مثل النيجر".
وأضاف أن "الخطوة تزامنت أيضاً مع توجه أوروبي لتعزيز العلاقات بالجزائر خاصة في مجال الطاقة، في ظل مساعيها لإنهاء الاعتماد على غاز روسيا".
واعتبر بوهيدل أن "رفع السرية عن جزء من الأرشيف ينظر إليه على أنه خطوة إيجابية لكن غير كافية لأن المطلوب من فرنسا هو المزيد من حسن النية".
ملف الذاكرة
كانت اللجنة الجزائرية الفرنسية، المشكّلة من 10 مؤرخين من الجانبين، عقدت، في أبريل الماضي، أول اجتماع لها منذ تأسيسها نهاية 2022 بهدف وضع أرضية توافقية لمعالجة ملف الذاكرة.
وتهدف اللجنة المشتركة إلى معالجة جميع القضايا، بما في ذلك المتعلقة بفتح واستعادة الأرشيف والممتلكات ورفات المقاومين الجزائريين، والتفجيرات النووية والمفقودين، مع احترام ذاكرتي البلدين.
ونفّذت فرنسا، التي احتلت الجزائر بين عامي 1830 و1962، 17 تجربة نووية في الصحراء بين 1960 و1966 في منطقتي رقان وإن إيكر.
وكانت السلطات الفرنسية أكدت، بعد 3 أيام من أول تجربة نووية في 13 فبراير 1960، أن الإشعاع كان في أدنى مستويات السلامة المقبولة، لكن وثائق رفعت عنها السرية عام 2013 أظهرت أن الإشعاع أعلى بكثير مما أعلن حينها، ويصل إلى كامل غرب إفريقيا وجنوب أوروبا.
وأجريت 11 تجربة من إجمالي التجارب، وجميعها تحت الأرض، بعد توقيع اتفاقيات إيفيان عام 1962، التي قادت إلى استقلال الجزائر، لكنها تضمنت بنوداً تسمح لفرنسا باستعمال مواقع في الصحراء حتى عام 1967.
ووفق دراسات تاريخية أجريت في الجزائر، تسببت التجارب في وفاة 42 ألف جزائري وتعرض آلاف آخرين لإشعاعات نووية تسببت بإصابتهم بأمراض خطيرة كالسرطان.