قالت صحيفة "وول ستريت جورنال"، إن "تعطش" كييف للسلاح، لا سيما المدفعية، في ظل تواصل شن هجومها المضاد لمواجهة الغزو الروسي للبلاد، أحدث تحولاً في صناعة الدفاع، وجعل كوريا الجنوبية مُصدِر السلاح الأسرع نمواً في العالم.
وذكرت الصحيفة الأميركية، الاثنين، أن مدافع "هاوتزر" (Howitzer) ذاتية الدفع طراز K9 عيار 155 مليمتر، هي محور الصعود غير المتوقع لكوريا الجنوبية كدولة مُصدرة للسلاح، إذ يأتي هذا النوع من المدافع التي تصنعها شركة "هانوا إيروسبيس" (Hanwha Aerospace) على رأس قائمة الأفضل مبيعاً في البلاد.
وأشارت إلى أن الطلب تزايد بدرجة غير مسبوقة على مدافع "هاوتزر"، وغيرها من الأسلحة المصنوعة في كوريا الجنوبية، بعد أن تحول الغزو الروسي لأوكرانيا إلى حرب برية طاحنة.
وأرسلت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى أوكرانيا الكثير من الإمدادات التي تحتاج إليها من المدفعية والذخيرة، لكن سرعان ما أدركت هذه الدول أن مصانع الأسلحة لديها غير مستعدة لتلبية الاحتياجات الأوكرانية على وجه السرعة، ما وضع سول في قلب المشهد، بحسب الصحيفة.
وبينما رفضت سول توريد أسلحة فتاكة بشكل مباشر إلى أوكرانيا، إلا أنها أبدت استعداداً جيداً لتعويض نقص إمدادات الولايات المتحدة وحلفائها، وأظهرت بالفعل قدرتها على إنفاذ هذه المهمة عبر برامج زمنية أقصر وبتكاليف أقل مقارنة بعدة منافسين غربيين.
"تحوّل جذري"
وأشارت "وول ستريت جورنال" إلى أن هذه الحرب أحدثت "تحولاً جذرياً" في صناعة السلاح بكوريا الجنوبية، إذ نقلتها من دولة مُصنعة للسلاح من أجل تلبية احتياجاتها الدفاعية إلى الدولة الأسرع نمواً في العالم بمجال تصدير السلاح، بعد أن زادت مبيعاتها من الأسلحة عن ضعف ما كانت عليه في عام 2022.
ونقلت الصحيفة عن تشوي دونج بن، مدير عام مصنع "هانوا إيروسبيس"، قوله إن الشركة تستعد الآن لبيع أعداد أكبر بكثير من مدافع "هاوتزر"، وتضاعف قدرتها على إنتاج هذا النوع من الأسلحة.
وأضاف تشوي أن "سنوات من الاستثمارات الثابتة في عمليات التصنيع هي ما أرسى أساس التوسع الذي تشهده كوريا الجنوبية في الوقت الراهن"، مؤكداً أن "الأمر أصبح ممكناً فقط لأننا حافظنا على خطوط الإنتاج"، من خلال ضمان توفير المواد الخام والقوى العاملة البشرية، وهو استثمار لا تخوض غماره الكثير من الدول.
"وول ستريت جورنال" لفتت إلى أنه في أعقاب الحرب الباردة قررت عدة دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو" إعادة ترتيب أولويات صناعتها الدفاعية، فخفضت الدول الأوروبية موازناتها الدفاعية، وتراجعت مخزوناتها من الدبابات والمدفعية الثقيلة، على افتراض أن الحرب البرية واسعة النطاق التي تحتاج إلى قوة عسكرية هائلة باتت "غير محتملة". وبناء على ذلك، وجهت أموالها لشراء طائرات مقاتلة وسفن حربية.
وقال نيكولاس مارش، كبير الباحثين في مجال الحد من الأسلحة والمعونات العسكرية بمعهد "أبحاث السلام" في أوسلو، إن هذه الدول تخلصت من المستودعات الضخمة والطاقة الإنتاجية الزائدة، وتوقفت عن الحصول على العديد من المواد اللازمة لإنتاج الذخيرة بكميات كبيرة، مشيراً إلى أن نقص الموارد اللازمة الآن "يتراوح من المواد الكيميائية والكهرباء إلى الأفراد".
وأضاف أنه "عندما يفكر الناس في الإنتاج الدفاعي فإنهم يميلون إلى التفكير في المصانع الضخمة التي تحتوي على عشرات الآلاف من العمال، بينما تنظر حولك الآن لتجد شيئاً أشبه بإنتاج سيارات السباق حيث التكنولوجيا الفائقة والأرقام الإنتاجية المنخفضة. وقد يستغرق الأمر سنوات لتكثيف إنتاج الأسلحة التي لا ننتجها بكثافة".
ومرت الصناعات الدفاعية الأميركية بتحول مماثل. ولم تغير مشاركة الولايات المتحدة في الصراعات طويلة الأمد بالعراق وأفغانستان في الأمر شيئاً، إذ خاضت القوات الأميركية حربها ضد خصوم يحملون أسلحة خفيفة.
وفي أفغانستان أطلقت واشنطن مئات القذائف يومياً في المتوسط، في مقابل الآلاف التي يجري إطلاقها اليوم في أوكرانيا.
تهديد "مختلف"
وفي الوقت نفسه، تواجه كوريا الجنوبية تهديداً من نوع "مختلف"، ففي شبه الجزيرة الكورية لم تضع واحدة من أكبر الحروب البرية التقليدية في القرن العشرين أوزارها فعلياً قط، وإنما توقفت الأعمال العدائية النشطة بتوقيع هدنة في 1953، فيما لم يكف الطرفان عن الاستعداد لاستئناف القتال يوماً ما.
وعلى مدار عقود تفوقت كوريا الشمالية إلى حد كبير على جارتها الجنوبية في تكديس الأسلحة التقليدية، إذ اعتمدت الثانية بدرجة كبيرة على الولايات المتحدة للدفاع عنها.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، بدأت كوريا الجنوبية بناء قدراتها على إنتاج سلاحها، وظلت منذ ذلك الحين تشحذ باضطراد صناعات الأسلحة لديها، وفقاً للصحيفة الأميركية.
ويرى إلياس يوسف، المحلل في برنامج الدفاع التقليدي التابع لمركز "ستيمسون"، أن "كوريا الجنوبية حافظت على نظام إنتاج دفاعي قوي لتلبية احتياجاتها العسكرية، ولأن مشهد التهديد لم يتغير على نحو جذري كما حدث مع الغرب".
وعندما بدأت روسيا غزوها لأوكرانيا، لم يتوقع كثيرون أن يطول أمد الصراع. ولكن أوكرانيا لم تكتفِ بإثبات قدرتها على المقاومة فحسب، وإنما تمكنت أيضاً من التصدي للقوات الروسية في أجزاء عديدة من البلاد.
وتحولت الحرب بفضل هذه القدرات إلى "معركة استنزاف دامية"، إذ تشن أوكرانيا هجوماً مضاداً على معاقل روسيا في شرق البلاد، بحسب "وول ستريت جورنال".
وتستهلك كل من روسيا وأوكرانيا الذخيرة بسرعة تفوق قدرتهما على الإنتاج. وقال مسؤولون أميركيون إن كوريا الشمالية ربما قدمت مبيعات أسلحة إلى روسيا، خلال اللقاء الذي جمع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأربعاء، وفقاً لما أورده تقرير "وول ستريت جورنال".
وتعاني أوكرانيا في هجومها المضاد من نقص الأسلحة، ووجهت نداءات متكررة إلى حلفائها الغربيين للحصول على مدافع "هاوتزر"، وراجمات صواريخ طويلة المدى اللازمة لضرب أهداف العدو من مسافة محمية.
مدافع "هاوتزر"
تأتي قذائف "هاوتزر" من عيار 155 مليمتر الآن على رأس قائمة مطالب أوكرانيا من الذخيرة. وقامت كوريا الجنوبية بإمداد الولايات المتحدة بمئات الآلاف من هذه القذائف، بعدما أرسلت واشنطن الكثير من مخزوناتها منها إلى أوكرانيا.
وأنتجت الولايات المتحدة مدافع "هاوتزر" عيار 155 مليمتر لأول مرة في أربعينيات القرن الماضي، وقامت بنشرها خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية وحرب فيتنام.
وتطورت مدافع "هاوتزر" التي تطلق القذائف المتفجرة، على مدى السنوات، على مستوى الدقة والمدى. وتستطيع مدافع Howitzer K9 ذاتية الدفع التحرّك بسرعة تفوق 40 ميلاً في الساعة، وهي مزودة بصفائح مصفحة فولاذية ما يجعلها تشبه الدبابات.
وبمساعدة الطائرات المسيرة التي تحدد أهداف العدو، ساهمت مدافع "هاوتزر" التي قدمتها الولايات المتحدة وأوروبا بقوة في تعزيز القوة النارية الأوكرانية، إذ تمتلك المدافع ذاتية الدفع التي تستخدم في الحرب بأوكرانيا فوهات أطول، ما يمنح قوات كييف مدى أطول ومعدل إطلاق نار أعلى من المدفعية الخفيفة التي تقطرها الشاحنات.
ووفقاً لـ"وول ستريت جورنال"، فإن مدفع Howitzer K9 الكوري الجنوبي "لا يُعد متقدماً" مثل نظيره الألماني PzH 2000، إذ يتفوق الثاني في سرعة إطلاقه، وقدرته على استيعاب المزيد من الذخيرة في المرة الواحدة.
مع ذلك، تحولت بعض الدول مثل بولندا والنرويج وإستونيا إلى مدافع هاوتزر الكورية الجنوبية، بعد أن منحت مدافعها لأوكرانيا، بالنظر إلى أن تكلفتها تقارب نصف تكلفة نظيرتها الألمانية، ويجري تسليمها في غضون أشهر وليس سنوات.
وقال دانيل فيوت، رئيس برنامج الدفاع وإدارة شؤون الدولة بكلية بروكسل للحوكمة، لـ"وول ستريت جورنال"، إن الأسلحة الكورية الجنوبية "تعتمد على عمليات نقل التكنولوجيا الأميركية والألمانية"، ما يجعلها "مثالية" لدول "الناتو"، مثل بولندا.
وأضاف فيوت أن "دول الناتو نظرت حولها ورأت دولة لديها تصور مماثل للتهديد، كما أن حقيقة أن كوريا الجنوبية شريك سياسي مهم جعلت شراء هذه المدافع بمثابة وصفة مثالية".
سول تلفت الأنظار
ونوّهت الصحيفة بأن كوريا الجنوبية "لا تزال صغيرة"، إذا ما قورنت بأكبر مصدري الأسلحة في العالم، إذ تمتلك 2.4% فقط من صادرات الأسلحة العالمية.
وبينما تمتلك الولايات المتحدة نحو 60% من طلبيات الطائرات المقاتلة التي لا تزال قيد الانتظار على مستوى العالم، تلقت كوريا الجنوبية أكبر عدد من طلبيات الدبابات والمدفعية ضمن قائمة أكبر 10 دول مصدرة للأسلحة في العالم، التي تضم الصين وروسيا وفرنسا وألمانيا، وفقاً لقاعدة بيانات عمليات نقل الأسلحة الخاصة بـ"معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" (SIPRI).
وقال مطلعون على صناعات الدفاع لـ"وول ستريت جورنال"، إن كوريا الجنوبية تقدم "عمليات نقل تكنولوجيا سخية"، وتدعم بناء "منشآت صناعية" في البلاد التي تشتري منتجاتها.
ووفقاً للصحيفة، تخطط كل من رومانيا وبريطانيا أيضاً لشراء مدافع "هاوتزر" من شركة "هانوا"، بينما سيجري بناء منشأة صناعية في بولندا يمكن استخدامها كقاعدة لصادرات مدافع K9 إلى دول أوروبية أخرى.
وفي يوليو الماضي، اختارت أستراليا "هانوا" على حساب شركة "راينميتال" الألمانية للصناعات الدفاعية لبناء 129 مركبة مشاة قتالية من طراز "ريدباك"، ما يمثل واحداً من أكبر المشروعات في تاريخ الجيش الأسترالي، بحسب الصحيفة.
وخلص سيمون ويزمان، كبير الباحثين بـ"معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" إلى أن التهديدات المحلية قد ساعدت كوريا الجنوبية على التحول إلى "دولة ذات تكنولوجية متقدمة، تمتلك عقوداً دفاعية كبيرة في الشرق الأوسط وأوروبا، ما كان يبدو تحولاً صعباً على دولة غير أوروبية".