لطالما كانت القنبلة النووية هدفاً تسعى كثير من الدول إلى الحصول عليه. ومنذ أربعينيات القرن الماضي حتى اليوم، شهد العالم تجارب عدة لتطوير برامج نووية غير سلمية، نجح بعضها، في حين قُضي على أخرى في مهدها.
في التقرير التالي تستعرض "الشرق" أبرز قصص النجاح والفشل في سباق التسليح النووي العالمي..
ألمانيا النازية.. ضربة مزدوجة
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، تسارعت وتيرة التفكير في استغلال الانشطار النووي، في توليد الطاقة أو صنع قنبلة ذرية. حينها، بدأ في الولايات المتحدة "مشروع مانهاتن" بميزانية تصل إلى مليار دولار، وكانت ألمانيا تسير في الاتجاه ذاته.
وبحلول عام 1942 كان الجميع يعرف كيفية إنشاء مفاعل وصناعة أسلحة نووية، وعلى الرغم من أن مشروع الزعيم النازي أدولف هتلر سبق المشروع الأميركي، فإنه تعثر في منتصف الحرب جراء العمليات المضادة.
كان رأي الحلفاء (أميركا وبريطانيا وفرنسا) أنه إذا سُمح للألمان بمواصلة أبحاثهم المتعلقة بالمياه الثقيلة، فإن هناك احتمالاً كبيراً لأن تتمكن ألمانيا النازية من إنتاج القنبلة الذرية، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى خسارة الحلفاء للحرب.
منذ غزوها النرويج في عام 1940 استخدمت ألمانيا مصنع "فيمورك" في برنامجها النووي، وكان الوحيد في العالم الذي ينتج كميات كبيرة من الماء الثقيل، الذي يمكن استخدامه في إنتاج سلاح نووي.
وفي نوفمبر 1942، حاول سلاح الجو الملكي البريطاني توجيه ضربة إلى المصنع، لكن سوء الأحوال الجوية والضباب الكثيف حالا دون نجاحها، لتنتهي العملية على نحو كارثي بتحطم الطائرتين المهاجمتين ومصرع جميع طاقمهما برصاص الألمان، لكن الحادثة لم تؤثر في عزم الحلفاء بمنع ألمانيا من إكمال مشروعها.
وفي مساء الـ27 من فبراير 1943، تسللت فرقة كوماندوس تضم 9 جنود نرويجيين إلى مصنع "فيمورك"، وكانت مهمتها، وفق تدريبات تلقتها في بريطانيا، تدمير أنابيب المياه في الطابق السفلي من المصنع. نجح الجنود في زرع المتفجرات وتدمير المخزون "قبل أن ينسحبوا من الموقع بنجاح، وأطلق على العملية اسم Gunnerside".
وعلى الرغم من النجاح المذهل للهجوم، فإن المخابرات البريطانية تلقت معلومات تفيد بأن الألمان نجحوا في استئناف أنشطة الإنتاج في الموقع ذاته بعد شهرين فقط. وفي تلك اللحظة قررت الولايات المتحدة التدخل.
وفي نوفمبر 1943، هاجم سلاح الجو الأميركي الموقع ودمر أجزاء كبيرة منه، غير أن مرافق إنتاج المياه الثقيلة لم تتضرر كثيراً، فأمر هتلر بنقل المشروع إلى ألمانيا، لكن الباخرة التي حملت المعدات والمخزون المتبقي من الماء الثقيل غرقت خلال عملية أمنية، وضعت خطتها بريطانيا ونفذها نرويجيون في أوائل عام 1944، وأنهت تلك العملية طموحات ألمانيا النازية بالحصول على سلاح نووي.
وفيما أخفقت ألمانيا بمشروعها، استطاعت دول أخرى بعد عقود إنجاز برامجها النووية والوصول إلى إنتاج السلاح النووي.
ونظراً لأن أي نشاط من هذا النوع يُعتبر مخالفاً للقانون الدولي، اتبعت الدول الطامحة إلى السلاح النووي، السرية والكتمان في برامجها. وعلى الرغم من استنفار أجهزة المخابرات العالمية وتسخير إمكاناتها لوأد تلك المشاريع في مهدها، فإن بعضها فاجأ العالم على حين غرة.
الهند.. تجارب تفاجئ العالم
في مايو 1998، استفاق العالم على خبر بثته شبكة "سي إن إن" الأميركية عن نجاح الهند بإجراء 3 تجارب نووية في منطقة نائية داخل الصحراء الشمالية الغربية للبلاد.
كانت تلك المرة الأولى التي يعلم فيها الأميركيون بمؤسساتهم الأمنية والعسكرية عن تلك التجارب، وذلك على الرغم من أنهم رصدوا قبل سنوات عبر أقمار صناعية تجسسية أنشطةً أجرتها الهند لأغراض نووية سلمية.
وقبل نصف قرن (عام 1970)، دخلت معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية حيز التنفيذ بمشاركة أكثر من 190 دولة، وبموجبها تلتزم الأطراف التي تمتلك أسلحة نووية قبل تاريخ الأول من يناير عام 1967 (أميركا، روسيا، بريطانيا، فرنسا، الصين) بالامتناع عن مساعدة أي طرف على امتلاك تلك الأسلحة، وبدورها تلتزم بقية الدول الموقعة على المعاهدة بعدم تصنيع أسلحة نووية أو الحصول عليها.
لم تكن الهند من بين الدول الموقعة على معاهدة 1970، إذ اعتبرت أنها تمييزية وتحصر القوة النووية في أيدي دول محددة، وتحرمها على غيرها، وساعدها ذلك على البقاء في منأى عن عمليات تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وإلى جانب اعتمادها على السرية وكتمان أنشطتها حتى عن جيشها، استغرقت الهند أكثر من عقدين من الأبحاث، حتى تصنع السلاح النووي، مدفوعة بتمويل جيد، ودوافع قومية ترتبط بجاريها اللدودين، باكستان (غرب)، والصين (شمال) التي هزمت الهند خلال الصراع الحدودي 1962، فضلاً عن أنها دولة نووية منذ عام 1964.
باكستان.. حلم خان يتحقق
في مطلع سبعينيات القرن العشرين، إثر ظهور مؤشرات على رغبة الهند في امتلاك سلاح نووي، قال رئيس وزراء باكستان آنذاك، ذوالفقار علي بوتو: "إذا صنعت الهند القنبلة، فستأكل باكستان العشب وأوراق الشجر، بل ستجوع، لكننا سنحصل على واحدة تكون ملكنا".
وبعد هزيمة باكستان عسكرياً أمام الهند في عام 1971، وانفصال شرقها واستقلاله، باسم بنغلاديش، بات البرنامج النووي أولوية قصوى لدى إسلام أباد، ولم تمضِ سنوات قليلة حتى بدأت عمليات تجميع الوقود الضروري للأسلحة النووية.
وصادف أن وجّه عبدالقدير خان، المهندس وقتها في أحد مصانع تخصيب اليورانيوم بهولندا، رسالةً إلى بوتو مشحونةً بمشاعر قومية، يشرح فيها أنه ينوي المساعدة في إنشاء مفاعل نووي، فأبدى بوتو اهتماماً، وطلب من السفارة الباكستانية في هولندا المساعدة في الأمر.
بحلول خريف عام 1974، كان خان ينسخ سراً تصاميم لأجهزة الطرد المركزي، ويجمع قائمة بالشركات التي يمكن أن تزوّد باكستان بالتكنولوجيا اللازمة.
وبعد اكتشاف الولايات المتحدة للأنشطة الباكستانية، فرض الرئيس الأميركي جيمي كارتر في أبريل 1979 عقوبات اقتصادية على باكستان، لوقف تقدمها النووي، وحظر عليها قروض البنك الدولي، وضغط على فرنسا ودول أخرى لوقف بيعها أي مواد قد تستخدم في مفاعلاتها.
استطاعت تلك الجهود الدبلوماسية تأخير البرنامج الباكستاني لتخصيب اليورانيوم مدة عامين، وتُظهر وثائق أميركية رُفعت عنها السرية، كيف ألغت فرنسا تعاونها مع باكستان في مفاعل تشاشما (250 كيلومتراً جنوب غربي إسلام أباد)، قبل أن تعاود باكستان العمل في ضوء المتغيرات السياسية، ولا سيما اندلاع الحرب الأفغانية في عام 1979.
يعود التحوّل المفصلي في موقف واشنطن من برنامج باكستان النووي، إلى حاجتها لقاعدة عسكرية تدعم حلفاءها من المحاربين الأفغان ضد القوات السوفييتية، فأرسل زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك، إلى كارتر مذكرة أشار فيها إلى أن باكستان هي المكان المثالي لتلك القاعدة.
وهكذا كان على الولايات المتحدة غض النظر عن البرنامج النووي الباكستاني، ولاحقاً وضع "البنتاغون" خططاً سرية لتأمين حماية الترسانة النووية الباكستانية.
وذكرت مجلة "فورين أفيرز" أنه بعد 10 سنوات تقريباً على أول تجربة نووية ناجحة لباكستان، قال خان في مقابلة تلفزيونية إن "الحرب السوفييتية الأفغانية منحت بلاده الفرصة لتعزيز قدراتها النووية". وفي مطلع 2020، رجّح خبراء، وفقاً لتقرير نشره موقع "ناشيونال إنتريست" الأميركي، أن تصبح باكستان ثالث أكبر قوة نووية في العالم.
الصين.. برنامج حيّر السوفييت
خلال حقبة الحرب الباردة، كان الأميركيون يراقبون عن كثب برنامج الصين النووي، لكن الاتحاد السوفييتي تقدم عليهم بخطوات، نظراً لمشاركته في المراحل الأولى من تأسيس البرنامج واكتشافه 15 موقعاً يحتوي على اليورانيوم في الصين بين الأعوام 1955 و1960، ما جعل الخبراء السوفييت يتوقعون أن تتجه بكين نحو الأنشطة النووية العسكرية.
لاحقاً، لعبت الأقمار الصناعية السوفييتية دوراً في رصد تحركات صينية يشتبه في أنها مرتبطة باختبارات نووية، وساعد انشقاق بعض السياسيين أمثال وانغ مينغ في الكشف عن تحركات مثيرة للشبهات، وعلى الرغم من ذلك، واجهت الاستخبارات السوفييتية عقبات تتعلق بضعف نشاط عملائها في الصين، جراء سحب معظمهم في الخمسينيات قبل أن تنشب أزمة الحدود بين البلدين في عام 1969.
وبحسب وثائق رفعت عنها السرية من الأرشيف الروسي، اضطرت الاستخبارات السوفييتية وقتها إلى تبادل المعلومات مع علماء ورجال استخبارات أميركيين لمراقبة البرنامج النووي الصيني الذي بقي محيّراً وغامضاً لفترة من الزمن، ولكنه نجح في جعل بكين ضمن نادي الكبار النوويين.
كوريا الشمالية.. إخفاق أميركي
على عكس نجاحها في كوريا الجنوبية، أخفقت واشنطن في وقف البرنامج النووي للشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية، والذي تعود بدايته إلى ستينيات القرن الماضي، عندما نقل السوفييت التكنولوجيا والمعدات النووية إلى حليفتهم الوثيقة.
وبحلول الثمانينيات، بدأ علماء بوينغ يانغ تصنيع اليورانيوم وتجربة أنظمة التفجير المستخدمة في الرؤوس الحربية النووية. وفي عام 2006، أجرت كوريا الشمالية أول تجربة نووية عسكرية، ليفرض على إثرها مجلس الأمن عقوبات اقتصادية شديدة عليها.
وتشير مصادر الاستخبارات الأميركية إلى أن كوريا الشمالية، ربما حصلت في التسعينيات على مخططات تصميم الرؤوس الحربية من العالم الباكستاني عبدالقدير خان، لكن المؤكد أنها وعلى مدى عقود، طورت شبكة متطورة لشراء التكنولوجيا والمعدات اللازمة من السوق السوداء.
في يناير 1992، توافقت حكومتا كوريا الشمالية والجنوبية على عدم امتلاك الأسلحة النووية والالتزام باستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية فقط. وبعد ذلك بعام، رفضت بيونغ يانغ عمليات التفتيش التي تجريها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأعلنت عزمها الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، لكنها تراجعت بعد محادثات مع دبلوماسيين أميركيين في نيويورك، لتعود وتوافق على تفتيش 7 مواقع نووية معلنة، في مارس 1994.
وفي عام 2001، اتبع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن نهجاً أكثر تشدداً، واصفاً كوريا الشمالية، إلى جانب العراق وإيران، بأنها جزء من "محور الشر"، وفرضَ عقوبات جديدة عليها، ثم اعترفت بيونغ يانغ بوجود برنامج سري لتخصيب اليورانيوم لأغراض عسكرية، وأتبعت ذلك بطرد مفتشي الوكالة الدولية والانسحاب من المعاهدة، وامتنعت عن تقديم أي معلومات عن مواقع أسلحتها النووية وصواريخها.
وصفت العديد من الدراسات استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الملف النووي الكوري الشمالي بأنها "فاشلة"، فيما تحدثت تقارير عن إخفاق الاستخبارات الأميركية في جمع معلومات وافية عن ذلك البرنامج.
وعلى الرغم من العقوبات واستمرار المفاوضات المتقطعة على مدى 3 عقود، فإن الولايات المتحدة لم تستطع وقف أنشطة بيونغ يانغ، وتقدر وكالة "سي آي إيه" وجود نحو 60 رأساً نووياً لدى كوريا الشمالية.
إسرائيل ومفاعل "ديمونا"
خلال رحلة بطائرة هليكوبتر في سبتمبر 1960 فوق صحراء النقب، استغرب دبلوماسيون أميركيون وجود أحد الأبنية الكبيرة في المنطقة، فجاء رد نظرائهم الإسرائيليين بأنه مجرد "مصنع نسيج".
وبعد أسابيع قليلة، حين كانت فترة رئاسة دوايت أيزنهاور تقترب من نهايتها في الولايات المتحدة، اكتشفت الاستخبارات الأميركية أن إسرائيل كانت تبني، بمساعدة فرنسية وتعاون نرويجي بريطاني، مفاعلاً نووياً سرياً قرب منطقة ديمونا، الأمر الذي لم تنفهِ باريس، وأكدته معلومات حصلت عليها سفارة واشنطن لدى تل أبيب.
ووفقاً لأرشيف الأمن القومي الأميركي، ضغط رئيس الولايات المتحدة حينها جون كينيدي، على حكومة ديفيد بن غوريون لمنع إنشاء برنامج نووي عسكري إسرائيلي، وصارحه شخصياً بالأمر خلال لقاء في يناير 1961.
وعلى الرغم من تأكيد الأخير أن الأغراض من المشروع سلمية، فإن شكوك الأميركيين كانت قوية، ولم يكونوا متحمسين لامتلاك إسرائيل أسلحة نووية، خشية تهديد الاستقرار في الشرق الأوسط، ولتفادي حدوث تقارب بين السوفييت والعرب (مصر وسوريا) بشكل خاص، في مشاريع مماثلة.
وتصف وثائق الخارجية الأميركية الردود التي كانت تأتي من تل أبيب بشأن الأنشطة النووية بأنها "مُراوِغة وتفتقد للصراحة"، لكن في نهاية المطاف اعترفت إسرائيل بالمشروع، مبررة ذلك بأنه يشكّل "قوة ردع" ضد جيرانها.
المحاولات الأميركية في تشديد الرقابة على مفاعل "ديمونا"، أو حتى إخضاعه لرقابة "الوكالة الدولية"، باءت بالفشل. ولم يمضِ عامان، حتى لقي الرئيس جون كينيدي مصرعه في عمليات اغتيال خلال حفل رسمي بولاية تكساس، وحاولت الوثائق التي كُشف عنها شرح أسباب إخفاق الاستخبارات الأميركية في الكشف عن المشروع النووي الإسرائيلي، والذي تعود بداية فكرته إلى خمسينيات القرن الماضي.
مشاريع مُجهَضة
بنهاية الحرب الباردة وانهيار النظام الدولي ثنائي القطب (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي)، ازدادت المخاوف من استغلال كثير من الدول لهذا الخلل من أجل تطوير برامج نووية واستغلال الفرصة لامتلاك أسلحة نووية.
العراق وقصف مفاعل "أوزيراك"
في عام 1975، نجح العراق في إبرام صفقة مع فرنسا بقيمة 300 مليون دولار لبناء مفاعل "أوزيراك" لأبحاث المياه الخفيفة بقدرة 40 ميغاواط، وشملت الصفقة بناء مفاعلين يحملان اسم "تموز 1" و"تموز 2" في مركز التويثة النووي جنوب بغداد.
وتمكن الرئيس الراحل صدام حسين عبر الضغط على الفرنسيين من تسلّم عشرات الكيلوغرامات من الوقود النووي المخصب بنسبة 93%، في حين حصل على اليورانيوم من أميركا الجنوبية ومصادر أخرى.
وكشف تقرير لمجلة "إِر إنثيوسياستك" البريطانية في عام 2004 (توقفت عن الصدور 2007)، عن تعاون إسرائيلي إيراني منذ عهد الشاه لضرب البرنامج النووي العراقي، واللافت أن الطرفين، على الرغم من خلافهما بعد ثورة 1979 التي قادت الخميني للحكم، واصلا المساعي ذاتها.
وأضافت المجلة أن استخبارات طهران وتل أبيب، تبادلتا المعلومات بشأن أنشطة العراق، وازدادت مخاوفهما بعد إعلان صدام حسين نفسه رئيساً مطلع ذلك العام.
وبادرت إسرائيل بتقديم الدعم لإيران أثناء حربها مع العراق، كما زودتها بمعلومات تتعلق ببرنامجه النووي، وسخّرت طهران وتل أبيب جهودهما لإبطال الطموحات العراقية. وفي أبريل 1979، تمكن 7 عملاء إسرائيليين من تفجير مفاعل قيد الإنشاء قرب طولون جنوب فرنسا باستخدام عبوات ناسفة، وأدت هذه العملية إلى تأجيل البرنامج العراقي لمدة 6 أشهر على الأقل باعتبار أنه كان مشروعاً فرنسياً.
وفي الـ30 من سبتمبر 1980، شنت 4 طائرات من طراز "إف 4 فانتوم" الأميركية تملكها إيران منذ زمن الشاه، غارة على معامل أبحاث نووية قرب بغداد، ضمن عملية أُطلق عليها "السيف الحارق".
الضربة النهائية للبرنامج النووي العراقي كانت في الـ7 من يونيو 1981 عندما انطلق سرب طائرات إسرائيلية من طراز (إف 16 وإف 15) باتجاه العراق، في عملية سُميت "أوبرا"، ودمرت خلال أقل من دقيقة مفاعل "أوزيراك"، وأودت بحياة 9 عراقيين ومهندس فرنسي.
محاولات إجهاض المشروع النووي العراقي لم تقتصر على عمليات القصف، بل تعدت ذلك إلى تصفية خبراء في البرنامج، إذ شهد عام 1980 اغتيال العالم المصري يحيى المشد في باريس، خلال زيارة لعقد صفقة شراء كميات من اليورانيوم لمصلحة المفاعل النووي العراقي. وأشارت تقارير لاحقة إلى تورط الموساد الإسرائيلي في تلك العملية.
بعد تلك الضربات، حاول صدام حسين إعادة إحياء البرنامج النووي العراقي، غير أن الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة إثر غزو الكويت تسبب في وأد ذلك المشروع، وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة أبدت شكوكاً حيال طموحات العراق في تطوير ترسانته العسكرية. وأجرت "الوكالة الدولية" عمليات تفتيش دورية في العراق طال بعضها قصور الرئيس الأسبق صدام حسين الذي أطاحت به الحرب الأميركية 2003.
ليبيا.. استسلام للضغوط الدولية
منذ عام 1970، سعت ليبيا لشراء أسلحة نووية من الصين، ونتيجة لفشل تلك المساعي، قررت البدء في برنامجها النووي الخاص، لكنها لم تكن تمتلك خبرة محلية، فبدأت اتخاذ خطوات بالخفاء للحصول على شحنات من اليورانيوم.
وأجرت في الثمانينيات تجارب سلمية سرية في مفاعل "تاجوراء" وتعاونت مع الاتحاد السوفييتي، لكن أنشطتها كانت بطيئة، ولم تستطع إتمام صفقات مع فرنسا وبلجيكا نتيجة ضغوط أميركية تتعلق باتهام القذافي بدعم الإرهاب.
في عام 1997 نجحت ليبيا في الحصول على 20 جهاز طرد مركزي بواسطة العالم الباكستاني عبدالقدير خان.
وفي أواخر عام 2000، تسارعت أنشطة طرابلس النووية، قبل أن تزداد الرقابة عليها إثر هجمات 11 سبتمبر 2001. حينها، رغب القذافي في التعاون مع الولايات المتحدة، وازدادت رغبته لاحقاً تجنباً لمصير مشابه لصدام حسين، وأبدى استعداده لتفكيك جميع برامج أسلحة الدمار الشامل، وزودت ليبيا البريطانيين والأميركيين بوثائق وتفاصيل عن الأنشطة الكيماوية والبيولوجية والنووية والصواريخ البالستية.
وفي أكتوبر 2003، صادرت المخابرات الأميركية شحنة من المعدات الخاصة بأجهزة الطرد المركزي متجهة من ألمانيا إلى ليبيا عبر البحر المتوسط، تبعتها عقوبات دولية شديدة، فأصبح تقدم البرنامج النووي الليبي بطيئاً وبتكاليف عالية، اقتصادياً وسياسياً. وهكذا، كان القضاء على أسلحة الدمار الشامل شرطاً أساسياً لتطبيع العلاقات مع الغرب.
وسرعان ما وافقت ليبيا على تفتيش 18 موقعاً مشتبهاً فيه في أنشطة نووية غير سلمية، إلا أن الوكالة الدولية لم تخلص إلى نتيجة جازمة، ثم تواصلت تنازلات القذافي، ليقدم في يناير 2004 آلاف الوثائق والمعدات المتعلقة ببرامج ليبيا النووية والصاروخية البالستية.
وبعد شهرين، أزالت الولايات المتحدة وروسيا كميات من اليورانيوم عالي التخصيب من مفاعل "تاجوراء" (15 كيلومتراً جنوب شرق طرابلس) الذي خضع للمراقبة منذ عام 1980.
سوريا.. تدمير مفاعل "الكبر"
سعى الرئيس السوري السابق حافظ الأسد في التسعينيات إلى شراء معدات من الأرجنتين وروسيا لتطوير برنامج نووي، لكن تلك الصفقات فشلت تحت الضغط الأميركي.
وفي عام 2006، بدأت إسرائيل في جمع معلومات استخبارية عن نشاط نووي محتمل تتبناه دمشق في الخفاء، وكانت هناك شكوك بشأن مبنى كبير "غامض" قيد الإنشاء شمال شرقي سوريا.
في الـ6 من سبتمبر 2007، دمرت طائرات إسرائيلية في عملية سُميت "خارج الصندوق"، تلك المنشأة الغامضة، وتبيّن لاحقاً أنها لم تكن سوى مفاعل "الكُبر" السري الذي جرى تطويره بمساعدة كوريا الشمالية، وأشارت تقارير إلى أنه كان من الممكن أن يصل مستقبلاً إلى مرحلة متقدمة في النشاط النووي غير السلمي.
قبل ذلك بأشهر، دهم عملاء الموساد منزل إبراهيم عثمان، رئيس هيئة الطاقة الذرية السورية، وذلك خلال وجوده في فيينا لحضور أحد اجتماعات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واستخرجوا من كمبيوتره الشخصي معلومات سرية للغاية، شملت صوراً من داخل الموقع أظهرت وجود خبراء من كوريا الشمالية، وبعد تحليل المعلومات وجدت إسرائيل تشابهاً هندسياً بين مفاعل "الكبر" ومفاعل "يونغبيون" الكوري.
مقارنة بالوضع في إيران وكوريا الشمالية، كان البرنامج النووي السوري بدائياً، ولا سيما في ضوء الإمكانات الاقتصادية المحدودة. ونظراً لقرب سوريا من إسرائيل، كان من الصعب لذلك المشروع أن يستمر من دون اكتشافه، إذ طُبقت عليه "عقيدة بيغن" ، التي سميت على اسم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، وتنص على أنه لا ينبغي السماح لأي خصم لإسرائيل في الشرق الأوسط بامتلاك سلاح نووي.
إيران.. ضربات مُوجعة
خلال العقدين الماضيين، تعرض البرنامج النووي الإيراني لضربات كبرى، تمثلت في اغتيالات طاولت علماء بارزين في مجال الذرة، وهجمات سيبرانية تسببت بتعطيل أنظمة تخصيب اليورانيوم في عدد من المفاعلات، كما وقعت انفجارات غامضة في منشآت نووية حيوية على غرار "نطنز". وأسهمت العقوبات الاقتصادية بدرجة كبيرة في إبطاء تطور البرنامج النووي الإيراني.
وعلى الرغم من تعتيم السلطات الإيرانية على تفاصيل تلك الحوادث، فإنها دائماً توجه الاتهام إلى الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية.
آخر العمليات التي استهدفت برنامج إيران النووي، تمثلت باغتيال العالم النووي البارز محسن فخري زاده، في كمين قرب العاصمة طهران في الـ27 من نوفمبر 2020، والذي يشتبه الغرب منذ فترة طويلة في أنه العقل المدبر لبرنامج سري للحصول على القنبلة النووية الإيرانية.
وذكرت وسائل إعلام رسمية إيرانية، أن زاده فارق الحياة في المستشفى، متأثراً بإصابته بالرصاص، بعد تفجير مركبة على مقربة من سيارته، في حين توعد مسؤولون إيرانيون بالرد، وأشاروا إلى صلة إسرائيل بعملية الاغتيال.
وفي الثاني من يوليو 2020، تسبب حادث غامض بأضرار جسيمة في أحد مباني منشأة "نطنز" النووية (250 كم جنوب طهران) وذكرت تقارير استخباراتية أن قنبلة زرعتها إسرائيل تسببت بحدوث انفجار، إلا أنه لم يخلّف إصابات أو تسرباً للإشعاع، وفقاً لهيئة الطاقة الذرية الإيرانية.
وقبل 6 أعوام أعلنت إيران، أنها تمكنت من إسقاط طائرة إسرائيلية مسيرة كانت تحلق فوق مفاعل "نطنز" بغية استهدافه، وفي أبريل 2018، استعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من مقر وزارة الدفاع في تل أبيب، ما قال إنها وثائق حصلت عليها الاستخبارات الإسرائيلية في عملية معقدة من مخزن سري في طهران.
أشار نتنياهو إلى أن الوثائق تحتوي على أدلة توضح أن إيران خدعت العالم بإنكار أنها كانت تسعى لإنتاج أسلحة نووية، كما تحدث عن خبراء إيرانيين يعملون ضمن البرنامج النووي، وعرض صور بعضهم، ومن أبرز هؤلاء العالم محسن فخري زاده.
وفي الثاني من سبتمبر 2019 كشف موقع "ياهو"، للمرة الأولى، عن تفاصيل تتعلق بهجمات "ستوكسنت" السيبرانية، وأشار إلى أن الموساد والاستخبارات الأميركية نجحا في تجنيد مهندس إيراني لزرع الفيروس في الأنظمة الرقمية للمفاعلات، ما نتج عنه تعطيل أجهزة الطرد المركزي في منشآت عدة.
ولم يكن اغتيال زاده الحادث الأول الذي يطال خبراء إيرانيين، إذ شهدت السنوات الماضية العديد من محاولات الاغتيال، معظمها نجح، في حين أخفق بعضها الآخر.
جنوب إفريقيا
في أغسطس 1977، أرسل الرئيس السوفييتي حينها، ليونيد بريجنيف، برقية إلى نظيره الأميركي جيمي كارتر مفادها أن أقمار التجسس الصناعية رصدت استعدادات في جنوب إفريقيا لإجراء اختبارات نووية داخل صحراء كالاهاري، وسرعان ما وجهت أقمار التجسس الأميركية جهودها نحو الموقع لتأتي النتائج متقاربة مع تحليلات الاستخبارات الروسية.
وكان لدى جنوب إفريقيا كميات هائلة من اليورانيوم، وطورت في أواخر الستينيات طريقة محلية للتخصيب، ورفضت التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لتفادي عمليات التفتيش، ولذا كانت قادرة على بناء منشآت سرية.
وبالفعل، قطعت جنوب إفريقيا شوطاً في أنشطتها، لكن اكتشاف الأميركيين والسوفييت لها وازدياد الضغوط الدولية، حال دون إكمال المشروع، فبدأت تفكيك برنامجها النووي، ولم تعترف رسمياً بوجوده حتى مارس 1993، أي قبل عامين من انضمامها إلى معاهدة عدم الانتشار.
المفاوضات تُثني كوريا الجنوبية
في خريف عام 1974، تلقت إدارة الرئيس الأميركي جيرالد فورد معلومات استخباراتية عن الأنشطة النووية في كوريا الجنوبية.
وبحسب تقرير أعده وزير الخارجية آنذاك، هنري كيسنجر، فإن مسؤولي سيول تفاوضوا مع فرنسا لشراء محطة فصل كيميائي لإنتاج البلوتونيوم.
وفي مطلع السبعينيات، أمر الرئيس الكوري الجنوبي بارك تشونغ هي، علماء بلاده بإنتاج قنابل نووية بحلول عام 1977، للرد على استفزازات الجارة الشمالية، لكن ذلك أثار قلق واشنطن، والتي سارعت للتدخل، وخاضت مفاوضات صعبة أفضت إلى ثني سيول عن المضي في برنامجها.
"ميرلين" أكبر عملية خداع
خلال فبراير من عام 2000 بدأت المخابرات المركزية الأميركية خطة لتضليل أنشطة طهران النووية، وذلك عبر إيصال معلومات خاطئة ومخططات زائفة إلى العلماء الإيرانيين، باستخدام مهندس روسي يُدعى "ميرلين"، إلا أن الخطة جاءت بنتائج عكسية، إذ وصفت بأنها قد تكون أكبر عملية خداع في التاريخ المعاصر لـ"سي آي إيه".
وفي مقتطف من كتاب "حالة حرب" ذكر المؤلف جيمس رايزن وهو صحافي بجريدة "نيويورك تايمز" متخصص في مجال الاستخبارات، أن العملية التي وافقت عليها إدارة بيل كلينتون، كانت تهدف إلى إيصال العلماء الإيرانيين لطريق تكنولوجي مسدود، بحيث يقضون سنوات في بناء رأس حربي لن ينفجر في النهاية، لكن رايزن يعتقد، بدلاً من ذلك، أن الإيرانيين اكتشفوا الأخطاء واستخرجوا معلومات مهمة من المخططات، ما ساعدهم على تسريع تطوير البرنامج النووي.
وبدورها، أصدرت وكالة المخابرات المركزية، بياناً قالت فيه إن ما ورد في الكتاب يحتوي على أخطاء جسيمة، وعلى الرغم من أنها في الواقع لم تنكر حدوث تلك العملية، وهو ما تأكد في ما بعد عبر وثائق رسمية، فإنها اعتبرت أن اعتماد المؤلف على مصادر مجهولة يستدعي عدم الثقة في درايته بالقضية.
وحاولت إدارة أوباما الضغط على رايزن للكشف عن الشخص الذي مدّه بالمعلومات، وأصدرت مذكرة استدعاء بحقهن لكنه رفض الكشف عن مصدره.
حادث "فيلا" الغامض
في الـ22 من سبتمبر 1979، رصد قمر صناعي أميركي من نوع "فيلا" دلائل على حدوث انفجار نووي محتمل فوق جنوب المحيط الأطلسي، وحاول جهاز "سي آي إيه" الأميركي تقصي هوية الجهة التي تقف وراءه.
دارت الشبهات حول الاتحاد السوفيتيي وإسرائيل وجنوب إفريقيا والهند وباكستان، لكن التحقيقات لم تفضِ إلى أي نتائج حاسمة، ولا تزال تلك الحادثة تعتبر من أكثر الألغاز النووية والاستخباراتية غموضاً.
وعلى الرغم مما شهده العالم منذ إجهاض أول برنامج نووي قبل 60 عاماً، فإنه لا يزال هناك من يتوق إلى أن يكون العضو العاشر في النادي النووي العالمي، والذي يضم 9 دول هي: الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا، والهند، وباكستان، وإسرائيل، وكوريا الشمالية.