يواجه كبار المتبرعين للحزب الجمهوري صعوبة في اختيار مرشحهم لانتخابات الرئاسة الأميركية 2024، إذ يأملون في دعم مرشح آخر غير الرئيس السابق دونالد ترمب، لكن أسهم الأخير وسط ناخبي الحزب لا تزال هي الأعلى كما كانت دائماً.
وفي ظل الانتخابات التمهيدية غير المتوازنة، تسود حالة من الارتباك بين كبار المتبرعين للحزب الجمهوري تمنعهم من دعم مرشح بعينه حتى الآن، خصوصاً مع إعلان رغبتهم في البحث عن "خيارات أفضل"، وأكثر قابلية للفوز بالسباق إلى البيت الأبيض، في الانتخابات المقررة في نوفمبر 2024.
وترجع حالة الارتباك التي تسيطر على المشهد بالأساس إلى موقع الرئيس السابق دونالد ترمب الذي يتقدم على منافسيه الآخرين بفارق أكثر من 40 نقطة تقريباً، رغم أعبائه القانونية.
ومع عدم وضوح الصورة بشكل قاطع حتى الآن، يُصبح التشكك سيد الموقف، خاصة مع عدم تفضيل معظم المانحين الجمهوريين الرئيسيين دعم ترمب بشكل خاص، حسب ما يعتقد أستاذ العلوم السياسية وعضو الأكاديمية الفخرية في "جامعة أوهايو" بول بيك.
وفي حديث لـ"الشرق"، قال بيك إن المتبرعين الكبار يعتقدون أن ترمب لا يملك فرصة جيدة للفوز في الانتخابات العامة، وفي نفس الوقت ومع كونه المرشح الأوفر حظاً لترشيح الحزب، فإنهم "لا يريدون القفز إلى جمهوري بديل".
وأوضح: "قد يتغير ذلك ويدعمونه وسط تراجع أسهم منافسيه، لكن في الوقت الحالي يحجم المانحين الرئيسيين حتى عن دعم أقرب منافسي ترمب حاكم فلوريدا رون ديسانتيس رغم إعلان الكثيرين تفضيلهم له في وقت سابق".
"من الممكن أن يخسر أكثر"
ويتقدم الرئيس السابق دونالد ترمب على رون ديسانتيس بأكثر من 40 نقطة، في بيانات مشروع "538" الذي يقدم إحصاءات بشأن استطلاعات الرأي. وتُظهر الاستطلاعات معدل تقدم ترمب بنسبة تصل إلى 54%، في مقابل 13% لديسانتيس.
وتزداد شعبية ترمب وتقدمه في استطلاعات الرأي في وقت يواجه اتهامات في 4 قضايا تشمل 91 تهمة جنائية إجمالية في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة، وهو تناقض يُفسره أستاذ العلوم الاجتماعية في "جامعة بوسطن" توماس والين لـ"الشرق" بأنه نتيجة حتمية لتغير ثقافة الحزب الجمهوري بعد تطوير ترمب لـ"ثقافة شخصية وشعبوية داخله" أوجدت لآرائه المتطرفة والقومية قبولاً وتماشياً مع قاعدة الحزب.
ورغم شعبيته وتقدمه في استطلاعات الرأي، يعتقد والين أن ترمب لا يزال غير مقنع بالنسبة للمانحين الكبار، مرجعاً السبب إلى أن "المانحين الكبار دائماً ما يبحثون عن شيء أكيد يضعون فيه أموالهم، ووضع الأموال الآن لصالح ترمب يُشبه وضع كل الأموال في العملات المشفرة، وهو أمر محفوف بالمخاطر للغاية مع عدم وجود ضمانات باسترداد تلك الأموال".
وتابع والين: "في الوقت الحالي، لا يزال ترامب بعيداً عن إقناع مقدمي التبرعات رغم تقدمه الكبير في استطلاعات الرأي لترشيح الحزب الجمهوري، لأنه يواجه 91 تهمة جنائية وخسر للتو قضيتين مدنيتين بارزتين ومن الممكن أن يخسر أكثر".
ومن معسكر الجمهوريين، يتفق المحلل الاستراتيجي جيم دورنان مع رأي الأكاديمي والين، في أن حالة الارتباك التي تجعل المانحين مترددين في العطاء تنبع من حالة عدم اليقين المحيطة بترمب ومشاكله القانونية.
ورأى دورنان في حديث لـ"الشرق" أن الرئيس السابق "يُواجه تهم خطيرة جداً ولا يريد المانحون الرئيسيون إضاعة أموالهم إذا انتهى به الأمر في السجن ولم يكن هناك خيار تالي حقاً وفقاً لاستطلاعات الرأي".
ترمب.. لا يستمع إليهم
في أوائل سبتمبر 2023 أرسل إريك ليفين المحامي من نيويورك وجامع التبرعات الجمهوري بريداً إلكترونياً إلى ما يقارب 1500 من المتبرعين والسياسيين والأصدقاء، يقول فيه "أرفض قبول الاقتراح القائل بأن دونالد ترمب هو المرشح الجمهوري الحتمي لمنصب الرئيس (...) ترشيحه سيكون كارثة لحزبنا وبلدنا".
وجاءت رسالة ليفين تأكيداً لآراء كثير من أغنى المانحين الجمهوريين الذي عبروا عن ذلك في وقت سابق، إذ أعلن عدد من كبار المانحين الجمهوريين عدولهم عن دعم ترمب في انتخابات الرئاسة 2024، من بينهم رجل الأعمال المقيم في نيويورك آندي سابين صاحب أكبر شركة خاصة في العالم لتكرير المعادن الثمينة Sabin Metal Corporation، والذي كان قد تبرع من أجل إعادة انتخاب ترمب لعام 2020.
ونفس الأمر أعلنه الرئيس التنفيذي لشركة Citadel الاستثمارية للحملات السياسية كين جريفين والذي خصص 5 ملايين دولار لدعم ديسانتيس في سباق حاكم ولاية في فلوريد خلال الانتخابات النصفية الماضية.
وتكشف تلك الآراء أن هناك عوامل محددة يضعها كبار المانحين عند اختيار دعم مرشح بعينه. ويعتقد دورنان أن "الاستثمار في فائز واتفاق ذلك الفائز مع المصالح الخاصة لكبار المانحين هو المحرك الأساسي في الاختيار، يليه قبول المرشح بين الناخبين".
وأضاف دورنان في حديث لـ"الشرق" أن ترمب يمتلك قاعدة قوية للغاية، لكن مع ذلك "يبدو أن جدوله المزدحم بالمحاكمات يقلق المانحين الذين أعلنوا احجامهم عن دعمه في 2024 باعتباره لم يعد مؤهلاً للفوز أو حتى لتحقيق مكاسبهم".
وبجانب رغبة المانحين "الاستثمار في فائز"، فإن الرغبة الأهم لهم على حد قول بيك هي أن "يستمع ذلك الشخص لهم إذا فاز، لكن ترمب لا يستمع إليهم في كثير من الأحيان، مما يؤدي إلى ترددهم حتى الآن.
تراجع المانحين
وبحسب تحليل لمجلة "بوليتيكو"، قدم 66 مانحاً فردياً فقط مساهمات بقيمة 250 ألف دولار أو أكثر حتى نهاية يونيو الماضي، ويُمثل ذلك انخفاضاً بنسبة 24% عن نفس الفترة من عام 2016، عندما خاض الحزب الجمهوري آخر انتخابات تمهيدية تنافسية.
ويعتقد بيك أنه نظراً لأن التبرعات للمرشحين تقتصر بموجب القانون على ما لا يزيد عن 5 إلى 10 آلاف دولار، فإن بعض كبار المانحين يقومون بتوجيه أموالهم إلى لجان العمل السياسي بشكل عام، والتي بموجب القانون لا يُمكن تنسيقها مع المرشحين (رغم أنها غالباً ما تدار بواسطة أصدقاء المرشحين).
ورأى بيك أنه "بعد موجة مبكرة من التبرعات لديسانتيس على وجه الخصوص، فإن المانحين المناهضين لترمب يتأخرّون الآن حتى يتضح الأمر، مما يوضح انخفاض التبرع عن انتخابات 2016 في نفس التوقيت".
من جانبه، يعتقد دورنان إن إحجام العديد من المانحين عن التبرع يُضعف من حظوظ بعض المرشحين، بسبب قلة الموارد التي قد تُعيق بعضهم عن الدعاية والإعلان وإقامة المؤتمرات "كان هناك زخماً في انتخابات 2016 وقبلها بسبب تنافس المال لدعم المرشحين، لكن الوضع بائس اليوم".
وأظهر تحليل أجرته شبكة "NBC News" لتقارير تمويل الحملات الانتخابية، أواخر يوليو الماضي، أن ما لا يقل عن 110 مانح جمهوري، بينهم حلفاء سابقون لترمب، قدموا بالفعل الحد الأقصى من التبرعات الأولية المسموح بها بموجب القانون الفيدرالي، لكن أموالهم ذهبت إلى العديد من منافسي ترمب بدلاً عنه.
ورغم ذهاب المانحين لمنافسين آخرين، فإنهم يتعاملون بحذر يُبقي محافظهم مغلقة في بعض الأحيان، في حين يعزف الآخرون عن التبرع حتى اللحظة، الأمر الذي يُؤثر على لجان العمل السياسي في الحزب.
الصغار.. كلمة السر
يلعب المانحون دوراً حاسماً في إبقاء الطامحين إلى البيت الأبيض متواجدين في الساحة السياسية، وإذا كان الوضع كذلك للمرشحين الجمهوريين، فإن الأمر يختلف بالنسبة لترمب.
وقد أثبت الرئيس السابق أن تأثير المال يتوقف عند حدود حملته الانتخابية، فلم يحد تهميش كبار المانحين له على قدرته على جمع الأموال، وحتى نهاية يونيو الماضي، أفادت لجنة ترمب المشتركة لجمع التبرعات عن جمع 23.7 مليون دولار من مانحين قدموا أقل من 200 دولار، أي أكثر من ضعف التبرعات الشعبية لجميع المرشحين الآخرين للحزب الجمهوري مجتمعين.
الأمر الذي جعل المحلل الاستراتيجي دورنان يرى أن المانحين الكبار يُدركون أن نفوذهم يتضاءل في الانتخابات الأخيرة، مع استمرار سيطرة ترمب على الناخبين الجمهوريين، خاصة أن الرئيس السابق نجح في كسب المتبرعين الصغار في وقت فشل معظم الجمهوريين في التعامل بتلك الآلية.
ورغم تأكيدات دورنان أن التبرعات من صغار المانحين أمر مهم في سير الحملة الانتخابية، إلا أنه يرى أن الاعتماد عليها فقط هو خطأ، وقال "يجب أن يكون لديك مانحون كبار إذا كنت ترشح نفسك للرئاسة"، وهو ما يتشكك دورنان فيه "لا أعتقد أن كبار المانحين سيغيرون رأيهم بالنسبة لدعم ترمب".
"الوضع قد يتغير"
وفي المقابل يُراهن أستاذ العلوم السياسية بول بيك على تغيّر مواقف كبار المانحين، ويضيف أن "أداء ترمب كان جيداً للغاية مع صغار المانحين، على الرغم من أنهم لم يقدموا بعد ما يكفي من المال لتمويل مستوى الإنفاق اللازم لحملة انتخابية عامة، لكن ذلك من شأنه أن يُغير المعادلة.
وأشار إلى أن "الأمر يُمكن أن يتغير ويصب المانحون أموالهم لدعم ترمب عندما يصبح من الواضح أنه وحده من يمكنه الحصول على ترشيح الحزب الجمهوري".
وفي وقت يعتقد أستاذ العلوم الاجتماعية توماس والين أن المانحين الكبار الذين يدفعون المبالغ الأكبر في الانتخابات "يتحكمون في توجيه كل شيء في العملية الانتخابية"، فإنه يُشير إلى حدوث انفصال واضح بين مصالح المانحين وقبول الناخبين الذي يدعمون ترمب بشكل فردي عبر مساهماتهم المالية الصغيرة حتى الآن.
ورأى والين أن الحزب الجمهوري لا يزال بإمكانه ترشيح ترمب للرئاسة، وعند حدوث ذلك سيُغير المانحون قراراتهم بشأنه، خاصة أنهم ليسوا منبهرين بما يكفي بشأن أي من خصومه لإرسال الأموال إليهم.
وقال "يحتفظ ترمب بقاعدة كبيرة للغاية من الداعمين سيكون من الصعب على المتنافسين المحتملين الآخرين مثل نيكي هايلي أو مايك بنس أو حتى رون ديسانتيس تخطيها أو تجاوزها".