اتهم المدير المستقيل لمكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك، كريج مخيبر، إسرائيل بارتكاب "إبادة جماعية" في قطاع غزة، معتبراً أن الولايات المتحدة وبريطانيا ومعظم دول أوروبا "متواطئون" في الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر في القطاع.
وكان مخيبر قد ترك منصبه مؤخراً، متهماً المنظمة الدولية "بخذلان سكان غزة، وعدم مواجهة الإبادة الجماعية والفصل العنصري" الجاريين هناك بقوة، وذلك على الرغم من "وفرة أدلة" تدعم هذه الاتهامات.
وانتقد مخيبر، في مقابلة، مع برنامج "Frankly Speaking" الذي تنتجه "Arab News"، ما وصفه بـ"التردد من جانب الأمم المتحدة في الحديث بشكل رسمي عن الفصل العنصري الإسرائيلي في فلسطين، رغم حقيقة أن كل المنظمات الدولية الكبرى لحقوق الإنسان أقرت أن جريمة الفصل العنصري تبدو واضحة هناك، أو الحديث عن مسألة الإبادة الجماعية، على النحو المحدد في اتفاقية الأمم المتحدة".
واعتبر مخيبر أن الولايات المتحدة وبريطانيا والكثير من دول أوروبا "متواطئة" في الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر على غزة، الذي أودى بحياة أكثر من 11 ألف شخص، بينهم أكثر من 4 آلاف و500 طفل، وفقاً لمسؤولي الصحة في القطاع.
باعتباره محامياً دولياً في مجال حقوق الإنسان، أعرب مخيبر عن ثقته بأن تصرفات إسرائيل في غزة ترقى بلا شك إلى مستوى "الإبادة الجماعية"، قائلاً: "أتعامل مع هذا الأمر كمحام في مجال حقوق الإنسان، وهذا يعني أنني أعمل استناداً إلى التعريف الوارد في القانون الدولي لحقوق الإنسان في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية، إذ وضع تعريف واضح للغاية إلى جانب عناصره".
وأضاف: "يوجد في الأساس عنصران أساسيان هناك. أولهما نية التدمير. والثاني، وهو قائمة بأفعال محددة، لا خلاف عليه. الحديث يدور عن قتل جماعي".
وتابع: "هناك ضرر جسيم يحدث، بما في ذلك الأذى الجسدي، وفرض ظروف معيشية تهدف إلى تدمير السكان، وهذا أمر لا خلاف عليه أيضاً، لأننا ندرك جيداً جميعاً حالة الإغلاق والحصار المفروضين على قطاع غزة منذ عام 2015، والذي يهدف بشكل خاص للحد من الغذاء والدواء والسكن الملائم والمياه والصرف الصحي وحرية التنقل، وجميع سبل الحياة الضرورية للبقاء".
"إبادة جماعية"
وتابع: "عندما نحقق في الإبادات الجماعية، فإنه يتعين علينا البحث في أرشيف قديم للعثور على سجلات تثبت نية الجهة التي ترتكب هذه الجريمة، وفي هذه الحالة، وبسبب ظروف الإفلات من العقاب خلال عدة عقود، فهناك مسؤولون إسرائيليون يعبرون علناً عن نية الإبادة الجماعية، بما في ذلك الرئيس، ورئيس الوزراء، وكبار الوزراء، وكبار المسؤولين العسكريين، الذين يدعون صراحةً إلى محو غزة بأسرها، وتجريد الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية، والدعوة بشكل علني إلى عدم التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين".
ومضى قائلاً: "حتى رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) استشهد بآية في التوراة تدعو إلى إبادة جميع السكان، دون إنقاذ أي منهم، بما في ذلك النساء والرجال والأطفال والرضع، وكذلك مواشيهم، واقتباس هذه الآية كان يشير بوضوح إلى نية الإبادة الجماعي".
وتطرّق مخيبر لاتهامات البعض بأن المدنيين الفلسطينيين في غزة كانوا "متواطئين" في هجمات 7 أكتوبر، التي شنتها حركة "حماس"، لأنهم صوّتوا لصالح الحركة قبل أكثر من 15 عاماً، ورفضوا الإطاحة بها، قائلاً إن هذا "دليل إضافي على نوع خطاب الإبادة الجماعية، الذي تجاوز بكثير المسؤولين الحكوميين، وامتد إلى السكان العاديين أيضاً".
وأضاف: "إذا كنت تتحدث عن غزة، فأنت تتحدث عن 2.3 مليون مدني في سجن مفتوح مكتظ بالسكان، فهم محاصرون حرفياً في تلك المنطقة، ولا يمكنهم الانتقال داخلها أو الخروج منها، ويحرمون بانتظام من الحصول على الغذاء الكافي والماء والمأوى والمياه والصرف الصحي، وأي من الأشياء الضرورية للحياة الكريمة".
وفي حديثه عن تجربته في العيش مع الفلسطينيين في غزة خلال التسعينيات، تحدث مخيبر عن القطاع المَحاصَر حالياً قائلاً: "هو أحد أفضل الأماكن التي عشت فيها على الإطلاق، وذلك ليس بسبب الظروف على الأرض، ولكن بسبب الأشخاص الذين التقيتهم هناك، فالصور التي يجري ترويجها في وسائل الإعلام، ومن خلال السياسيين لا تعبر عن واقع الشعب الفلسطيني، ولكي نرى إنسانية هذا الشعب، فإنه يصبح من المستحيل الاستمرار في هذا النوع من سياسات الإبادة الجماعية التي تنتهجها العديد من الحكومات، وكذلك من المستحيل استبعادهم باعتبارهم (طرف آخر)، فهم ليسوا (الآخرين)، بل إنهم جزء من هذا العالم".
"ليست حرباً على حماس"
وأشار مخيبر إلى أن الهجوم العسكري الإسرائيلي الحالي "ليس حرباً على حماس"، مضيفاً: "سكان غزة ليسوا أرقاماً أو إحصائيات، فهؤلاء ليسوا مجموعة من السكان الهمجيين الذين يعيشون في مكان غامض من العالم، ولكنهم بشر، مثلي ومثل أي شخص آخر، وإذا تمكنا من البدء بالتفكير في الجميع، المسيحيين والمسلمين واليهود، كبشر متساوين، فهذا هو المكان الذي سيجري فيه العثور على الحلول".
وأكد مخيبر أن هدف نتنياهو ليس القضاء على "حماس" بل إزاحة المدنيين العاديين من غزة، وهو ما يرقى إلى إبادة جماعية، قائلاً: "من المؤكد أن نتنياهو يتحمل مسؤولية الانتهاكات التي أدت إلى تشكيل الحركة في المقام الأول، وليس من الواضح في هذه اللحظة أن دافعه هو إنقاذ الرهائن، لأنهم يسقطون قنابل على المكان الذي يتواجد فيه هؤلاء الرهائن الآن".
وفي إشارة إلى تصرفات الجيش الإسرائيلي في غزة، قال مخيبر: "من الواضح أنهم لا يقاتلون حماس فقط لأن ما يفعلونه هو دمار ومذبحة بالجملة، فما يحدث في غزة الآن هو محاولة لتطهير الجزء المتبقي من فلسطين، إذ تقصف معظم مناطق القطاع وتسوى بالأرض، وجعل الجزء المتبقي منه غير صالح للعيش على أمل أن يضطر أي فلسطيني ناجٍ إلى المغادرة إلى حدود رفح، وإما أن يذهب إلى شبه جزيرة سيناء، أو ينضم إلى الشتات الفلسطيني، وحينها سيكون قد تم الاستيلاء على أرض فلسطين بشكل كامل".
"تواطؤ" أميركي
وأعرب مخيبر أيضاً عن اعتقاده بأن هناك دولاً مثل الولايات المتحدة وبريطانيا "تنتهك التزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي في الأزمة الفلسطينية من خلال توفير التمويل والأسلحة والاستخبارات والدعم الدبلوماسي لإسرائيل، وبالتالي فإنها قد تواجه المسؤولية القانونية عن أفعالها."
ومضى قائلاً: "الولايات المتحدة وبريطانيا طرفان في هذه الاتفاقيات الدولية، ولديهما التزاماً بالقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وهذا أمر واضح، فاتفاقية جنيف لا تشترط أن تحترمها في سلوكك فحسب، بل أن تضمن جميع الأطراف الموقعة احترام الدول الأخرى التي لديها نفوذ عليها، وفي هذه الحالة إسرائيل".
وأوضح أن الولايات المتحدة، على سبيل المثال "وفرت التمويل، والاستخبارات، والأسلحة، والغطاء الدبلوماسي، وحتى استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، وهذه الأعمال تمثل تواطؤاً مباشراً في العملية، ما يعد انتهاكاً لالتزاماتهم بموجب القانون الإنساني، إذ تشمل جريمة الإبادة الجماعية كما تعُرِّفَ في الاتفاقية فعل الإبادة الجماعية، ومحاولة ارتكابها، والتحريض عليها، والتآمر بشأنها، والتواطؤ فيها".
وأشار إلى أن "الأمر لا يقتصر على أن الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما لم يفعلوا ما يتعين عليهم القيام به لوقف ما يحدث، بل إنهم كانوا في الواقع متواطئين بشكل نشط".
واستطرد: "استمرار الدعم النشط، حتى في ظل ارتكاب هذه الأعمال، يعرض الولايات المتحدة وبريطانيا، والدول الأخرى التي شاركت بشكل مباشر، للمسؤولية القانونية عن أفعالها، وما ينبغي عليهم فعله الآن هو استخدام كل نفوذهم، الدبلوماسي وغير ذلك، لوقف ما يحدث، بما في ذلك وقف التسليح والتمويل والدعم الاستخباراتي والغطاء الدبلوماسي للحكومة الإسرائيلية، حتى تكون هناك مساءلة، ولإنقاذ حياة هؤلاء البشر وحماية كرامتهم الإنسانية."
أجواء من "الترهيب"
وعند سؤاله عن سبب تأخره في الاستقالة، على الرغم من أنه أعرب عن قلقه إزاء عدم معالجة مسألة حقوق الشعب الفلسطيني، أوضح مخيبر أن الأمر بدأ في مارس الماضي بينه وبين المفوضية السامية لحقوق الإنسان في أعقاب سلسلة من الجرائم الوحشية الإسرائيلية المرتكبة في الضفة الغربية، بما في ذلك بعض الهجمات العسكرية على المدنيين هناك، والمذابح التي ارتكبها مستوطنون إسرائيليون في بلدة "حوارة".
وقال مخيبر: "في تلك المرحلة، كنت أتحدث علناً عن تلك الانتهاكات، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، ولكن الأمم المتحدة كانت تتبنى نهجاً أكثر حذراً وخوفاً، على نحو غير مناسب، في التعامل مع تلك الأحداث، وقد كنت أتحدث بقوة عن ذلك علناً، كما كنت أتحدث عن أوضاع حقوق الإنسان في بلدان حول العالم على مدى 32 عاماً، ولكن كانت هناك حملة منظمة من قبل مجموعة من منظمات الضغط الإسرائيلية، التي قررت استهدافي من خلال تشويه سمعتي على منصات التواصل الاجتماعي، وكذلك تسليم مذكرة احتجاج إلى الأمم المتحدة في محاولة لمعاقبتي".
وأضاف: "لقد خلق ذلك أجواء تحمل المزيد من الخوف من جانب الأمم المتحدة، حتى إنه قد طُلب مني أن ألتزم الصمت بشأن هذه القضايا، وهو أمر من الواضح أنني لم أستطع القيام به، ولذا، ونتيجة لذلك، كتبت وأشرت في شهر مارس الماضي إلى أنني أعتقد أن هذا الاحترام للدول القوية كان يقوّض تطبيقنا لقواعد الأمم المتحدة ومعاييرها، وأننا بحاجة إلى الوقوف في وجه هذه الأمور وعدم تخويفنا وإجبارنا على الصمت بسببها، وأنني على العكس من ذلك، أود أن أشجع على ضرورة التحدث بصوت أعلى".
"دولة ديمقراطية واحدة"
وبخلاف معظم السياسيين، الذين يدعون إلى حل الدولتين، أعرب مخيبر عن اعتقاده بأن العالم يجب أن يدعم "دولة علمانية ديمقراطية واحدة" في كل أنحاء فلسطين، مع حقوق متساوية للمسيحيين والمسلمين واليهود، مشيراً إلى أن الكثير من الشخصيات العامة في جميع أنحاء العالم دعوا إلى ذلك لسنوات عديدة، بما في ذلك أشخاص من العاملين في المجال الإنساني.
وأوضح أن "الحقيقة هي أن هناك بالفعل دولة واحدة بحكم الأمر الواقع، فأراضي فلسطين بأكملها تخضع لحكم إسرائيل، ولم يبق في الضفة الغربية أو غزة ما يمكن أن يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ومستدامة كدولة ثانية، وحتى لو تبنى العالم ذلك، فإنه لن يعالج التحدي الرئيسي لحقوق الإنسان، لأن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر سيظلون مواطنين من الدرجة الثانية، ولن يكون لهم الحق في العودة، وما إلى ذلك، وحل الدولتين لن يحل ذلك، ولذا فإن السؤال هو إذا كنا نطالب بالمساواة في كل مكان آخر، وفي هذه الحالة، حقوق متساوية للمسيحيين والمسلمين واليهود، فلماذا لا نطالب بذلك في حالة إسرائيل وفلسطين؟".
ورفض مخيبر بشدة الرأي القائل بأن الدعوة إلى إقامة دولة واحدة كانت في الواقع "دعوة إلى إنهاء الدولة اليهودية"، وهي الفكرة الوجودية التي تأسست عليها قبل نحو 75 عاماً، مضيفاً: "حكومة نتنياهو لا توافق حتى على وقف الإبادة الجماعية، ولذا فإن حديثي ليس موجهاً لهؤلاء".
وتابع: "هذه ليست دعوة إلى نهاية إسرائيل، ولكنها دعوة إلى خلاص إسرائيل وفلسطين، ولإنهاء الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني، وتبني قواعد ومعايير الأمم المتحدة التي تدعو إلى إنشاء دول علمانية ديمقراطية يتمتع فيها جميع الأشخاص بحقوق متساوية".
ومضى أكثر من شهر منذ أن تسلل مقاتلون من حركة "حماس" إلى إسرائيل عبر الحدود في السابع من أكتوبر الماضي. وتقول إسرائيل إنهم قتلوا 1400 شخص، واحتجزوا أكثر من 240 رهينة.
وفي الأسابيع التي تلت ذلك، أدى القصف الإسرائيلي المستمر على غزة رداً على ذلك إلى قتل أكثر من 11 ألفاً 40% منهم أطفال، في حين تم تهجير أكثر من 1.6 مليون شخص، وفقاً لمسؤولي الصحة في القطاع وتقديرات الأمم المتحدة.