شهدت العلاقات بين المغرب وفرنسا خلال العامين الماضيين، فترات توتر عدة، زادت حدتها بعد اتهامات وجهت إلى الرباط بالتجسس على مسؤولين فرنسيين، بمن فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالإضافة إلى مسألة الصحراء، التي تعد من أبرز الخلافات بين البلدين.
وتناولت تقارير عدة في البلدين أسباب الخلاف بين المغرب وفرنسا، القوة الاستعمارية السابقة التي تضم جالية مغربية كبيرة، فالبعض يرى أن الخلاف سببه سياسة التقارب التي انتهجها ماكرون مع الجزائر، التي قطعت العلاقات مع المغرب في 2021، ويربطها آخرون باتهامات التجسس، التي تنفيها الحكومة المغربية.
الكاتب الفرنسي من أصول مغربية الطاهر بنجلون، تحدث عن ما سماها "الأسباب الحقيقية" للخلاف بين البلدين، إذ قال في مقابلة صحافية في يونيو الماضي، إن "ماكرون أظهر عدم الاحترام لملك المغرب" محمد السادس.
وأضاف نقلاً عن ما وصفه بـ"مصادر موثوقة"، أن "ماكرون اشتكى للملك محمد السادس بشأن قضيّة بيجاسوس للتجسّس، وأعطى الملك كلمة الشرف للرئيس الفرنسي بأنه لم يجر التنصت على هاتفه"، مستطرداً: "ولكن ماكرون رد بطريقة غير لبقة جدّاً، وهو الأمر الذي لم يستسغه الملك".
الصحراء.. غضب من موقف فرنسا
أحد أبرز الملفات الشائكة بين الرباط وباريس يتمثل في قضية الصحراء، فمنذ أن أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء في مارس 2021، ضمن "اتفاق ثلاثي" مع إسرائيل، دعت الرباط وبشكل مباشر شركاءها في أوروبا إلى الحذو حذو الولايات المتحدة، وإعلان موقف واضح من النزاع.
وفي خطاب ألقاه خلال أغسطس 2022، قال الملك محمد السادس إن "ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم"، معتبراً في السياق نفسه أنه "المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات".
واتسم الخطاب الرسمي المغربي بالحدّة تجاه حكومات الدول الأوروبية، كاشفاً عن تحول جذري في استراتيجية الرباط.
وخلال مؤتمر صحافي مع نائب الوزير الفيدرالي للشؤون الأوروبية والدولية للنمسا بيتر لونسكي في نهاية فبراير الماضي، قال وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة "يجب على أوروبا أن تخرج من منطقة الراحة، وتبحث عن حل لهذا النزاع"، وانتقد في الوقت نفسه عدم انخراط العواصم الأوروبية في ما وصفه بـ"الدينامية" التي يشهدها ملف الصحراء.
وأضاف: "لا يجب الاكتفاء بدعم مسلسل طويل يُمكن أن يمتد لسنوات".
وفي ضوء هذا الموقف المغربي بشأن الصحراء، أعلنت ألمانيا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا والنمسا، إضافة إلى دول مجموعة "فيشجراد" التي تضم المجر وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا، دعمها للمقترح المغربي للحكم الذاتي الذي قدمه في 2007.
لكن كل هذه المواقف، لم ترقَ إلى مستوى الاعتراف الصريح بسيادة المغرب على الصحراء، على غرار ما أعلنته إدارة ترمب، ثم حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في يوليو 2023.
وانتظرت الرباط أن تُبادر باريس إلى تأييد الموقف الأميركي، والإعلان بشكل صريح اعترافها بمغربية الصحراء، لكن توقعاتها اصطدمت بحسابات دبلوماسية غير منتظرة، مع إبداء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رغبته في إنهاء صفحة الخلافات مع الجزائر، الداعم الرئيسي لجبهة "البوليساريو"، وإرساء أسس علاقات متوازنة معها.
وفي حديث لـ"الشرق"، رأى نيكولا دوبون إينيون، المرشح السابق للرئاسة الفرنسية ورئيس حزب "Debout la France"، أن كل المؤشرات تؤكد أن "سُخط المغرب تجاه فرنسا نابع من الموقف الغامض الذي اتخذه ماكرون فيما يتعلق بالصحراء الغربية".
وانتقد إينيون، وهو أيضاً عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الفرنسي، الموقف الرسمي لبلاده قائلاً "على عكس إسبانيا والولايات المتحدة، اللتين أعلنتا بوضوح أن الصحراء يجب أن تكون مرتبطة بالمغرب، رفضت فرنسا ذلك من أجل عدم إثارة غضب الجزائر، وهو ما يُمثل بالنسبة للسلطات المغربية حالة من الخذلان".
وألقى شارل سان برو، مدير مرصد الدراسات الجيوسياسية الفرنسي في باريس في تصريح لـ"الشرق"، باللوم على ماكرون و "سياسته الخارجية"، التي قال إنها "تسببت في تأزيم العلاقة مع الرباط"، مضيفاً "فرنسا ليست ماكرون.. وفرنسا ستكون دائماً حاضرة إلى جانب المغرب خلال اللحظات العصيبة".
وذهب إلى الرأي نفسه عضو البرلمان الأوروبي عن "التجمع الوطني اليميني" (حزب فرنسي من أقصى اليمين) تيري مارياني، الذي قال لـ"الشرق" إن ماكرون "أضاع فرصة تاريخية للمضي قدماً في قضية الصحراء، من خلال الاعتراف بسيادة المغرب، كما فعلت إسرائيل والولايات المتحدة".
وتتبنى فرنسا موقفاً وسطاً من النزاع، وذلك عبر دعمها لمقترح الحكم الذاتي كحل "جدي وذي مصداقية"، وتأكيدها في المقابل ضرورة احترام المسار الأممي من أجل التوصل إلى تسوية تُرضي جميع الأطراف.
وخلال مؤتمر صحافي مع نظيرها المغربي ناصر بوريطة في ديسمبر 2022، قالت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا: "فيما يخص مخطط الحكم الذاتي، فإن موقفنا يدعم المغرب، وأظهرنا ذلك في الأمم المتحدة، حتى في وقت كنا الوحيدين الذين لديهم الإرادة لتطوير بعض الأفكار".
وتتوجس الرباط من خطوات التقارب الفرنسي الجزائري، الذي تعتبره "إخلالاً بمبدأ التوازن" بين بلدان المنطقة المغاربية، ما من شأنه أن يخلق وضعاً جديداً لا يتماشى ومصالحها.
وانخرط ماكرون في مصالحة مع الجزائر، بهدف وضع حد لعقود من المد والجزر التي وسَمت العلاقات بين البلدين، وخاصة فيما يتعلق بملف الذاكرة وفترة الاستعمار.
"بيجاسوس".. القطرة التي أفاضت الكأس
ثمة قضايا إشكالية أخرى ظهرت فجأة لتعكّر صفو العلاقات المتوترة أساساً بين المغرب وفرنسا، ففي يوليو 2020 أصدرت منظمة "Forbidden Stories" غير الحكومية ومنظمة العفو الدولية تقريراً بعنوان "قصص محظورة"، يتهم دولاً عديدة من ضمنها المغرب بالتورط في عمليات تجسس عبر برنامج "بيجاسوس" الشهير.
وسرعان ما أعلن المغرب رفع دعوى قضائية أمام المحكمة الجنائية في باريس ضد المنظمتين بتهمة التشهير.
وكان التحقيق الذي نشرته 17 مؤسسة إعلامية دولية من بينها "لوموند"، زعم أن برنامجاً للتجسس من إنتاج وترخيص شركة "NSO" الإسرائيلية، جرى استخدامه من طرف جهاز المخابرات المغربية في محاولات لاختراق 37 من الهواتف الذكية لشخصيات حكومية وحقوقية فرنسية.
وأشارت المنظمتان إلى أنهما تملكان قائمة بأرقام هواتف تم اختراقها من قبل أجهزة أمنية مغربية، وبحسب التحقيق "تجسس المغرب على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس حكومته، و14 عضواً فيها، بالإضافة إلى صحافيين ونشطاء".
وأصدرت محكمة الاستئناف في باريس خلال أبريل 2023، حكمها بعدم قبول دعاوى التشهير التي رفعها المغرب، بدعوى أن القانون الفرنسي لا يسمح لدولة أجنبية بمقاضاة طرف ثان بتهمة التشهير، استناداً للمادة 32 من قانون 29 يوليو 1881 بشأن حرية الصحافة و"التشهير ضد الأفراد".
وسبق لمحكمة جنايات باريس في المرحلة الابتدائية، أن أصدرت 10 أحكام بعدم قبول دعاوى رفعها المغرب، ضد عدد من وسائل الإعلام الفرنسية التي نشرت تحقيق "قصص محظورة"، وعلى رأسها صحيفة "لوموند" و"راديو فرانس"، و"ميديا بارت"، و"لومانيتي".
وخلّفت قضية "بيجاسوس" أثراً عميقاً في العلاقات بين باريس والرباط، ترجمها الفتور الذي أعقب ذلك التحقيق.
ورغم عدم صدور تعليق رسمي من الإليزيه، فإن مقربين من الرئيس الفرنسي أبدوا انزعاجهم من نتائج التحقيق الصحافي. ونقل "راديو فرانس" عن مسؤول حكومي فرنسي حينها قوله: "إذا تم التحقق من الوقائع، سيكون أمراً خطيراً للغاية".
وعلّق بوريطة على هذه الاتهامات خلال مقابلة مع مجلة "جون أفريك" الفرنسية، معتبراً أن "بعض العناوين التي تنتمي إلى مجموعة التحقيق الصحافية، معروفة بخدمة أجندة عدائية تجاه المملكة، ومنزعجة جداً من النجاحات التي تحققها".
البرلمان الأوروبي.. ساحة معركة جديدة
إلى جانب الصحراء و"بيجاسوس"، برزت قضية إشكالية أخرى بين المغرب وفرنسا، تتعلق بما اعتبرته الرباط "تدخلاً بالشؤون الداخلية".
وفي خطوة نادرة، صوت البرلمان الأوروبي خلال يناير 2023 لصالح قرار غير مُلزم، يطالب فيه الرباط بـ"احترام حرية التعبير والإعلام، وضمان محاكمات عادلة للصحافيين المعتقلين"، وذلك في إشارة إلى صحافيين مغاربة أُدِينُوا على خلفية قضايا حق عام.
كما طالب نص القرار بـ"وضع حدّ للمضايقات بحق جميع الصحافيين في البلاد".
وفي رد على الخطوة الأوروبية، عقد البرلمان المغربي اجتماعاً طارئاً، أعلن خلاله "إعادة النظر في علاقاته مع البرلمان الأوروبي، وإخضاعها لتقييم شامل"، بسبب ما وصفه "التدخل الأجنبي والابتزاز".
واتهمت الأحزاب السياسة المغربية فرنسا بالوقوف وراء هذا القرار، في خطوة تهدف إلى ما وصفوه بـ"انتهاك سيادة دولة شريكة".
كما وجهت أصابع الاتهام نحو ستفيان سيجورني رئيس كتلة "رينيو" داخل البرلمان الأوروبي، وأحد المقربين من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إذ اعتبر أن القرار الأوروبي "جاء بإيعاز من الإليزيه"، الذي حاول نقل الخلاف من إطاره الثنائي إلى إطار أوسع، ليشمل دول الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، وعلى رأسها البرلمان الأوروبي، الذي طالما كان للمغرب علاقات مريحة نسبياً معه خلال العقدين الأخيرين.
واعبر تيري مارياني، في حديثه لـ"الشرق"، أن "المسؤولين المنتخبين من حزب رئيس الجمهورية (النهضة) دأبوا على اتخاذ مواقف ضد المغرب، ومما يزيد الأمر خطورة أن الجميع على علم بالعلاقة الوثيقة بين رئيس الدولة وستيفان سيجورني، زعيم نواب حزب ماكرون في البرلمان الأوروبي، ولا يسعنا هنا إلا أن نتفهم غضب المغرب إزاء هذا النفاق".
وفي حديث لـ"الشرق"، قال رئيس "مركز إفريقيا والشرق الأوسط للدراسات" بالرباط الموساوي العجلاوي "غالباً ما يتم توظيف مؤسسات الاتحاد الأوروبي في الضغط على المغرب وابتزازه، خصوصاً فيما يتعلق بملف الصحراء"، مضيفاً أن "أوروبا بصفة عامة لا تنظر بعين الرضا لتحرر المغرب في قراره السياسي وتنويعه لشراكاته الأمنية والاقتصادية".
وبالإضافة إلى موضوع حرية التعبير، تطرق قرار ثان إلى "شبهة تورط الرباط في فضيحة رشاوى" هزت البرلمان الأوروبي في ديسمبر 2022، إذ أعرب بيان صادر عن البرلمان عن "القلق العميق" إزاء "الادعاءات التي تُشير إلى أن السلطات المغربية قد تكون رشت برلمانيين أوروبيين".
وتعود جذور القصة إلى العام 2021، عندما باشرت المخابرات البلجيكية تحقيقاً في "شبهات تلقي برلمانيين أوروبيين لرشاوى من المغرب وقطر"، مقابل التأثير لصالح البلدين داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي. ونفت قطر والمغرب ارتكاب أي مخالفات.
وخلال استقباله الممثل الأعلى للاتحاد الأوربي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل في يناير الماضي، قال وزير الخارجية المغربي رداً على هذه الاتهامات إن "الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والاتحاد الأوروبي تتعرض لتحرشات قضائية وإعلامية هدفها ضرب عمق هذه الشراكة".
وقال بيان للبعثة القطرية لدى الاتحاد الأوروبي آنذاك، إن قطر ترفض بحزم الادعاءات التي تربط حكومتها بسوء السلوك.
فرنسا أكبر شريك للمغرب
رغم العلاقات المتوترة مع الرباط، احتفظت باريس بمكانتها كأول شريك اقتصادي للمملكة، إذ يعمل في المغرب ما يقارب 1300 شركة فرنسية، من ضمنها الشركات الكبرى لـ"CAC40"، وتعد فرنسا أيضاً أكبر مستثمر أجنبي في المغرب، بقيمة استثمارات بلغت في سنة 8.1 مليار يورو العام الماضي.
غير أن الحضور الأكثر تأثيراً لفرنسا في المغرب، يتمثل في اللغة والثقافة الفرنسيتين، اللتين تحظيان بمكانة فضلى في التعليم النظامي، سواء الأساسي أو الجامعي. كما تُعتبر الفرنسية لغة التعاملات التجارية والاقتصاد، وكذلك لغة التخاطب في الإدارات العمومية والخاصة.
وعلى مدى عقود طويلة، تشكّلت نخبة فرانكوفونية، تنتمي أساساً إلى الطبقات الاجتماعية العليا ورجال الأعمال، التي تحظى بمكانة وتأثير كبيرين في ميزان العلاقات بين البلدين.
ورغم المحاولات الحكومية العديدة لتبني تنوّع لغوي في مقررات التربية والتدريس بإدماج لغات أجنبية أخرى كالإنجليزية، إلا أن كل تلك التجارب باءت بالفشل، ولم تستطع الصمود أمام الحضور الطاغي للّغة الفرنسية في جميع مناحي الحياة.
كما لم يطرأ أي تغيير على تعاملات البلدين الاقتصادية، إذ استمر المغرب في احتلال المرتبة الأولى في حجم الاستثمارات الفرنسية بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما تُعد فرنسا المصدر الأول للعملة الصعبة التي تأتي أساساً من تحويلات المغاربة المهاجرين، والتي بلغت سنة 2022 أكثر من 3.3 مليارات دولار، هذا بالإضافة إلى مداخيل الخزينة المغربية من السياح الفرنسيين، والتي بلغت في العام نفسه 2.9 مليارات دولار.
وبخلاف أزمة 2014، لم تنعكس التوترات بين الجانبين على تعاونهما على المستوى القضائي والأمني، وأكد مصدر أمني فرنسي في مجال محاربة الإرهاب لصحيفة "لوموند"، أن "إحدى مهام أجهزة الاستخبارات هي الحفاظ على قناة مفتوحة بغض النظر عن التقلبات السياسية".
وجهات استثمارية جديدة
شهد الخطاب الرسمي المغربي تغيراً لافتاً في السنوات الأخيرة، وعبرت الرباط في مناسبات عدّة عن رغبتها في الخروج من دائرة التأثير التقليدية للحلفاء الغربيين، والانفتاح على شركاء جدد، كروسيا والصين والهند. وكشف ملك المغرب وبشكل مباشر عن هذا التوجه، في خطاب ألقاه في العاصمة السعودية الرياض، عام 2016.
وقال الملك محمد السادس: "نتوجه لإطلاق شراكات استراتيجية جديدة مع كل من الهند والصين.. فالمغرب حرٌّ في قراراته واختياراته، وليس محمية تابعة لأي بلد".
كما وقّع المغرب مع الصين في يناير 2022 على "خطة التنفيذ المشترك لمبادرة الحزام والطريق"، التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينج عام 2013. وعرفت المبادلات التجارية بين البلدين نمواً بلغ 50% خلال الخمس السنوات الماضية، وانتقل حجم الاستثمارات الصينية في المغرب من 4 مليارات دولار سنة 2014 إلى 6 مليارات دولار في عام 2021.
كما تُعدُّ الهند من أكبر "الشركاء الجدد" للمغرب في السنوات الأخيرة، إذ شهدت المبادلات التجارية بين البلدين تطوراً كبيراً، وبلغت أزيد من 4 مليارات دولار عام 2022. وتعتمد نيودلهي بشكل رئيسي على الفوسفات المغربي لتلبية احتياجاتها من الأسمدة الزراعية.
وانخرط المغرب أيضاً في تعاون عسكري وأمني وطيد مع الهند، وذلك من خلال إجراء مناورات مشتركة، واقتناء آليات ومعدات عسكرية هندية الصنع.
وسعت الرباط كذلك إلى تعزيز شراكتها مع روسيا، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين 42% نهاية 2021 ليبلغ 1.6 مليار دولار، وتحرص الرباط على الاحتفاظ بعلاقات سياسية جيدة مع موسكو، آخذة في الاعتبار دورها في ملف الصحراء داخل مجلس الأمن الدولي.
وفي خطوة لتوسيع الاستثمار في إفريقيا، أطلق المغرب "سياسة شاملة"، تهدف إلى البحث عن مساحات استثمارية جديدة في القارة السمراء، وعقد شراكات مع الحكومات المحلية ومؤسسات القطاع الخاص، وقام الملك محمد السادس بجولات في عدد من البلدان الإفريقية، تمّ خلالها التوقيع على ما يقرب من ألف اتفاقية.
وتشمل استثمارات المغرب في إفريقيا مجالات البنوك، والتأمين، والاتصالات، إلى جانب التصدير، إذ بلغت الاستثمارات خلال العقد ونصف العقد الماضي 4 مليارات دولار، ووصل الرقم خلال 2021 إلى 800 مليون دولار، ليحتل المغرب المرتبة الثانية من حيث حجم الاستثمارات داخل القارة الإفريقية بعد جنوب إفريقيا.
وفي السياق ذاته، توطدت العلاقات المغربية الإسرائيلية منذ التوقيع على الاتفاق الثلاثي في مارس 2022، وشملت الشراكة الجديدة مجالات الصناعة والسياحة والتنقيب عن البترول، إضافة إلى التعاون الأمني والعسكري الذي نما بشكل غير مسبوق من خلال عقد صفقات تسلح مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة.
تراجع شبكات التأثير
خلال العقود الأخيرة، تمكّن المغرب من بناء "جسور من الثقة المتبادلة" مع شخصيات هامة تنتمي إلى اليمين واليسار التقليديين في ميادين السياسة والاقتصاد والفن، عُرفت إعلامياً بمجموعة "أصدقاء المغرب"، وهي شبكة من العلاقات المتشعبة، شكلت لعقود صماماً لديمومة مصالح الرباط في فرنسا، وعملت طيلة الفترات الرئاسية لفرانسوا ميتران وجاك شيراك ونيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، على تثبيت علاقات هادئة بين الطرفين، وتفادي أسباب التوتر المفضي لحدوث أزمات.
لكن هذا الوضع بدأ في التغير بشكل جذري، بسبب التحولات التي عرفها المشهد السياسي الفرنسي، وتراجع الأحزاب التقليدية من اليمين واليسار، تزامناً مع ظهور جيل جديد من السياسيين الشباب، وانتخاب ماكرون رئيساً في مارس 2017.
ويُرجع العديد من المراقبين ارتداد النفوذ المغربي في باريس، إلى انكفاء شبكات التأثير التي كان يعتمد عليها في الدفاع عن مصالحه داخل أروقة المؤسسات الفرنسية.
وفي أكتوبر الماضي، كتبت صحيفة "لوموند" في مقال مطول عن الأزمة بين المغرب وفرنسا، مشيرة إلى أن "شبكات النفوذ المغربية تتراجع اليوم"، مضيفة على لسان سفير فرنسي سابق "هناك عدم اكتراث حقيقي من جانب الإليزيه تجاه المغرب".
وفيما اعتبر محمد زيدوح، رئيس مجموعة الصداقة المغربية الفرنسية بمجلس المستشارين المغربي في حديث لـ"الشرق"، أن الطبقة السياسية الفرنسية الحالية "توجد بجانب المغرب سواء اليمين أو أيضاً ما شاهدناه بعد زيارة ميلنشون (أقصى اليسار)، الذي ساند المغرب، ودعا باريس إلى تغيير موقفها بشأن الصحراء".
ورأى مراقبون أنه بالإضافة إلى انحسار مجال تأثير شبكات النفوذ المغربية، هناك فجوة "جِيلية" بين صناع القرار في باريس والرباط، بحيث لم تعد "قنوات التواصل القديمة" قادرة على احتواء الانشغالات المختلفة والمتعارضة لكلا الطرفين.
ومنذ استقلال المغرب عن فرنسا في عام 1956، شهدت العلاقات بين البلدين تأرجحاً بين الصعود والنزول.
وعلى عكس الوضع في العديد من المستعمرات الفرنسية السابقة، لم تترك فترة الاستعمار ندوباً في علاقات الرباط وباريس، بل توطد التعاون بينهما بعد الاستقلال في شتى الميادين.
ولم يعكر صفوَ هذه العلاقة سوى بعض الأحداث الهامة، على غرار ما وقع في منتصف الستينيات، عندما تم اغتيال المعارض المغربي المهدي بن بركة في باريس عام 1965، ما تسبب آنذاك في حدوث قطيعة بين الرئيس الفرنسي شارل ديجول والملك الحسن الثاني، مروراً بكتاب "صديقنا الملك" الذي صدر بداية التسعينيات في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، وأخيرا في 2014 حين تمّ استدعاء رئيس جهاز المخابرات المغربية من طرف القضاء الفرنسي، الأمر الذي دفع الرباط إلى سحب سفيرها في باريس وتعليق التعاون القضائي لأشهر.
وبفعل شبكات النفوذ التي يتوفر عليها كلا البلدين وتأثيرها في مراكز القرار، استطاعت الرباط وباريس تجاوز هذه الأزمات، والحيلولة من دون وقوع اصطدامات عنيفة.
خطوة إلى الأمام.. خطوات إلى الخلف
الخلافات بين الرباط وباريس انتقلت من مستوى القضايا الإشكالية سياسياً وأمنياً، إلى مستوى نفي تصريحات المسؤولين لنظرائهم في ما يخص الزيارات الدبلوماسية، إذ لم تمضِ ساعات قليلة على إعلان وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا خلال لقاء تلفزيوني من مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة في سبتمبر 2023 عن برمجة زيارة للرئيس إيمانويل ماكرون إلى المغرب، حتى نفى مصدر حكومي مغربي صحّة ما ذكرته، مؤكداً أن الزيارة "ليست مدرجة في جدول الأعمال ولا مبرمجة".
واستغرب المصدر الحكومي "لكون السيدة كولونا اتخذت هذه المبادرة أحادية الجانب، ومنحت لنفسها حرية إصدار إعلان غير مُتَشاور بشأنه بخصوص استحقاق ثنائي هام".
وأظهرت الحادثة أن الأزمة بين الرباط وباريس أخذت اتجاهاً ونمطاً غير مألوفين، وأن الهوة بين مراكز القرار تتسع مع مرور الوقت، بالرغم من التصريحات الرسمية المطمئنة.
وفي أكتوبر الماضي، غرّدت كولونيا على موقع "إكس" (تويتر سابقاً) مهنئة السفير الفرنسي الجديد كريستوف لوكرتيي، وذلك مباشرة بعد الاستقبال الذي خصّصه الملك محمد السادس لاعتماد السفراء الأجانب.
وانتشرت تكهنات بشأن أسباب انتهاء مهمة السفيرة الفرنسية السابقة هيلين لوجال وتعيين لوكرتيي شهراً بعد ذلك في ديسمبر 2022، وذلك في غمرة الأزمة الدبلوماسية بين الجانبين.
وبعد أيام قليلة من استقبال السفير الفرنسي، عيّن الملك محمد السادس الإعلامية سميرة سيطايل سفيرة للمغرب في باريس، بعد شغور هذا المنصب لما يقرب السنة.
كما عقد رئيس الحكومة عزيز أخنوش مباحثات مع وزير المالية الفرنسية برونو لومير، على هامش اجتماعات البنك وصندوق النقد الدوليين في مراكش.
وتجنب المسؤول الفرنسي إثارة موضوع الخلاف بين البلدين، رافضاً الإجابة عن أسئلة الصحافيين بخصوص موقف بلاده من ملف الصحراء، مكتفياً بالتأكيد على متانة العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وفي تصريح للسفير الفرنسي ستيفان لوكورتيي أدلى به لإذاعة مغربية رسمية في نوفمبر 2023، عاد الدبلوماسي الفرنسي إلى أزمة التأشيرات، قائلاً إنها كانت "مضرّة بصورة بلاده"، مضيفاً فيما يشبه الاعتذار أن "المغاربة شعروا بالإهانة بسبب القيود التي فُرضت عليهم للحصول على تأشيرة دخول فرنسا".
وقال "من الآن فصاعداً، لم يعد هناك أي قيود فيما يتعلق بإصدار التأشيرات من قِبل فرنسا، وأي شخص يستوفي الشروط المطلوبة للحصول على تأشيرة سيحصل عليها".
وكانت باريس قررت في سبتمبر 2021 تقليص عدد التأشيرات الممنوحة لمواطني البلدان المغاربية الثلاثة، المغرب والجزائر وتونس، بمبرر رفض هذه البلدان استعادة مهاجرين غير شرعيين تُريد فرنسا ترحيلهم.
وقرأ محللون تلك الأحداث المتتالية، على أنها مؤشرات إلى عودة الدفء للعلاقات بين فرنسا والمغرب، وإعادة تنشيط القنوات الدبلوماسية التقليدية، التي تعطلت لعامين، وكان لها بالغ الأثر في الجانبين.
واعتبر ألكسندر نيجروس، رئيس معهد الدراسات الجيوسياسية التطبيقية في باريس، لـ"الشرق"، أن من أسباب الأزمة الراهنة "عدم قدرة الفاعلين في كلا البلدين على تطوير شبكة تحليل مبتكرة"، داعياً إلى "تجديد النظر إلى العلاقة الفرنسية المغربية في ضوء السياق الجيوسياسي الجديد ووضع كل دولة".
وقال إن "هناك فرصاً لتنشيط العلاقات الثنائية، لكن هذا التطور الدبلوماسي سيكون مشروطاً بتقديم تنازلات سياسية كبيرة".