في مشرحة مستشفى ناصر جنوبي قطاع غزة، يقوم العاملون بتكفين جثث ضحايا الغارات الجوية الإسرائيلية بالقماش الأبيض وسط رائحة الموت، ويدونون عليها كل ما يُمكنهم تدوينه من معلومات أساسية عن الموتى، الاسم، ورقم بطاقة الهوية، والعمر، والجنس.
بعض الجثث مشوهة بشدة، ولا يمكن سوى لأقارب من تم التعرف عليهم أو تم الإبلاغ بفقدانهم بأخذ جثث ذويهم للدفن مع إدراجهم في حصيلة الضحايا التي تعلنها وزارة الصحة في غزة خلال الحرب، لكن باقي الجثث تبقى مكدسة في ثلاجة المشرحة لمدد تصل لأسابيع في كثير من الأحيان.
وصلت حصيلة الضحايا، الجمعة، إلى 20 ألفاً و57 شخصاً، وسط تجدد الدعوات الدولية لوقف جديد لإطلاق النار في غزة. وتقول الوزارة إن الآلاف ما زالوا مدفونين تحت الأنقاض، وإن نحو 70% من الوفيات نساء وأطفال.
صعوبة إحصاء الضحايا
لفتت أرقام وزارة الصحة في غزة أنظار العالم إلى العدد الكبير من المدنيين الذين قتلتهم الهجمات العسكرية الإسرائيلية، لكن في ظل توقف معظم المستشفيات في جميع أنحاء غزة عن العمل خلال الوقت الحالي، وسقوط المئات من الأطباء وغيرهم من العاملين في مجال الصحة وتعطل الاتصالات، بسبب نقص الوقود والكهرباء، صار من الصعب بشكل متزايد إحصاء عدد الضحايا والجرحى.
ويشكل العاملون في مشرحة مستشفى ناصر جزءاً من جهد دولي، يُشارك به أطباء ومسؤولو صحة في غزة وأكاديميون وناشطون ومتطوعون من جميع أنحاء العالم، لضمان عدم فقد القدرة على إحصاء عدد الضحايا نتيجة للظروف القاسية الآخذة في التزايد في قطاع غزة بسبب الحرب.
وقال حمد حسن النجار إن "العاملين بالمشرحة وبعضهم من المتطوعين ليس لديهم ما يكفي من الطعام أو الماء لأسرهم، لكنهم يواصلون العمل، لأن تسجيل عدد الضحايا الفلسطينيين يعني الكثير لهم".
وأضاف الرجل البالغ من العمر 42 عاماً أن الخسائر النفسية للعمل هائلة، وأنه يشعر بالصدمة في كثير من الأحيان عندما يجد جثة صديق أو قريب أصيبت بأضرار بالغة.
وقال وهو يحمل ورقة بيضاء تحتوي على معلومات مكتوبة بخط اليد عن أحد الضحايا إن "جثث سعيد الشوربجي مدير المشرحة وعدد من أفراد أسرته وصلت إلى المشرحة في أوائل ديسمبر بعد مصرعهم في غارة جوية إسرائيلية".
وتابع النجار وقد بدا على وجهه الحزن والتعب "تفاجأنا أنه بين أيدينا شهيد.. لقد كان أبو خميس أحد الأخوة الذين يُكفنون معنا، ويغسلون ويجهزون ويقومون بالواجب الديني والوطني لهم في هذا المكان".
وأضاف أنه أثناء تجهيز الجثث "تنصدم بالمشهد عندما تجد طفلاً صغيراً بلا رأس، وأطفالاً صغاراً بلا أيدي، بلا أقدام، وأشلاء.. تحتاج لساعات ربما حتى تستعيد من جديد نفسيتك، وتذهب آثار هذه الصدمة".
حصيلة الضحايا أكبر من المعلنة
ويتم جمع البيانات التي يُسجلها النجار وزملاؤه من عاملين في مركز المعلومات الذي أنشأته وزارة الصحة في مستشفى ناصر في مدينة خان يونس، وقد فرَّ موظفو الوزارة من مكاتبهم في مستشفى الشفاء شمالي غزة بعد أن دخلته القوات الإسرائيلية في منتصف نوفمبر.
وقال أشرف القدرة المتحدث باسم الوزارة إن الفريق يستخدم نظام بيانات محوسب تم إنشاؤه بالتشاور مع منظمة الصحة العالمية، والذي يُلزم العاملين في المستشفى بملء المعلومات الإلزامية قبل تسجيل الوفاة.
وأضاف الطبيب البالغ من العمر 50 عاماً أن الأرقام المعتمدة من وزارة الصحة تعكس بيانات تم التحقق منها، لافتاً إلى أن العديد من الجثث لم تُسَجَّل بسبب نقص المعلومات أو بسبب عدم مرورها على المستشفيات قبل دفنها، لافتاً إلى أنه في مستشفى الشفاء على سبيل المثال لا يوجد موظفون حالياً، ولذلك لم يتم تسجيل أي وفيات، موضحاً أن العدد الفعلي للضحايا أكبر كثيراً من هذا العدد المسجل.
وذكرت الوزارة أنها منذ أوائل ديسمبر لم تعد قادرة على جمع تقارير منتظمة من مشارح المستشفيات شمالي غزة في ظل انهيار خدمات الاتصالات والبنية التحتية الأخرى في القطاع بسبب الهجوم الإسرائيلي.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن 6 فقط من مستشفيات غزة البالغ عددها 36 كانت تستقبل المصابين حتى الأربعاء، وجميعها في الجنوب.
واستشهدت منظمة الصحة العالمية بهذا كأحد الأسباب التي تجعلها تعتقد أن إحصاء الوزارة قد يكون أقل من الواقع. ولا تشمل هذه الحصيلة أيضا الضحايا الذين لم يتم نقلهم مطلقاً إلى المستشفيات، أو الذين لم يتم انتشال جثثهم من تحت الأنقاض، وأشارت المنظمة وخبراء آخرون إلى أنه من غير الممكن في الوقت الحالي تحديد مدى أي نقص في العدد.
ثقة أممية في الإحصاءات الفلسطينية
وقال الرئيس الأميركي جو بايدن يوم 25 أكتوبر إنه "لا يثق" في البيانات الفلسطينية. وبعد تصريحات بايدن، أصدرت الوزارة تقريراً من 212 صفحة يسجل بيانات 7028 شخصاً سقطوا في الصراع حتى 26 أكتوبر، بما في ذلك بطاقات الهوية والأسماء والعمر والجنس. ومنذ ذلك الحين، لم تنشر الوزارة مثل هذه البيانات التفصيلية، مما يجعل من الصعب على الباحثين التأكد من أحدث الأرقام.
غير أن الأمم المتحدة التي لديها تعاون طويل الأمد مع السلطات الصحية الفلسطينية تواصل الجزم بجودة البيانات. وأشارت منظمة الصحة العالمية إلى أنه، بالمقارنة مع أحداث سابقة في غزة، تظهر الأرقام أن المزيد من المدنيين لقوا حتفهم، بما في ذلك نسبة أكبر من النساء والأطفال.
وقال مسؤولون إسرائيليون هذا الشهر إنهم يعتقدون أن البيانات التي تم نشرها حتى الآن دقيقة إلى حد كبير. وقدروا أن ثلث الضحايا في غزة هم من "المقاتلين الأعداء"، بحسب تعبيرهم، دون تقديم أرقام مفصلة.
وأكدت وزارة الصحة الفلسطينية، التي يقع مقرها في الضفة الغربية المحتلة، وتدفع رواتب العاملين في الوزارة في غزة، أنها فقدت كل اتصالاتها تقريباً في الآونة الأخيرة مع المستشفيات في القطاع. وأضافت أنه ليس لديها أي معلومات عن مصير عدة مئات من العاملين في المجال الصحي الذين اعتقلتهم القوات الإسرائيلية.
ورداً على سؤال بشأن من تم إلقاء القبض عليهم، قال الجيش الإسرائيلي إنه قبض على بعض العاملين في المستشفيات "بناءً على معلومات مخابراتية تفيد بأن حماس تستخدم المرافق الطبية في عملياتها"، على حد قوله.
وأضاف الجيش أنه أطلق سراح من لم يشاركوا في هذه العمليات بعد استجوابهم، دون الكشف عن عدد المحتجزين.
جهود دولية لإحصاء الضحايا في غزة
يعكف أكاديميون وناشطون ومتطوعون في أنحاء أوروبا والولايات المتحدة والهند على تحليل البيانات التي تقدمها وزارة الصحة في غزة للتأكد من التفاصيل المتعلقة بالضحايا وتحديد عدد المدنيين منهم.
ويعتمد هذا بشكل كبير على قائمة 26 أكتوبر التي تتضمن الأسماء وأرقام بطاقات الهوية وتفاصيل أخرى. ويعمل في الوقت ذاته بعض الباحثين الآخرين على "مسح" مواقع التواصل الاجتماعي للحفاظ على الإفادات المنشورة هناك لتحليلها في المستقبل.
وقالت ليزلي روبرتس الأستاذة الفخرية للسكان وصحة الأسرة في كلية ميلمان للصحة العامة بجامعة كولومبيا إن "عدد الأعين (المراقبة) والفاعلين المشاركين في تسجيل الوفيات في غزة أكبر بكثير من العدد الطبيعي، ومن العدد الموجود في أسوأ الأزمات الأخرى في العالم". وشاركت روبرتس في أكثر من 50 دراسة استقصائية للوفيات أثناء الحروب منذ أوائل التسعينيات.
وتستخدم منظمة "إيروورز"، غير الربحية التي تحقق في مصرع المدنيين في الصراعات، وتتبع قسم الإعلام والاتصالات في كلية جولدسميث بجامعة لندن، وسائل التواصل الاجتماعي ووثيقة الوزارة الصادرة في 26 أكتوبر لتجميع إحصاء مفصل للضحايا.
وأشارت إميلي تريب مديرة المنظمة إلى أن نحو 20 متطوعاً يعملون في المشروع جنباً إلى جنب مع الموظفين العاديين، وقد حددت حتى الآن هوية حوالي 900 مدني لقوا حتفهم في القتال. وأضافت أنه حتى لو توقف القتال اليوم، فقد يستغرق الأمر عاماً آخر للانتهاء من المسح.
وقالت تريب "ما نراه الآن أيضاً هو مصرع مدنيين نزحوا من مناطق أخرى، ولذلك لا يسهل على جيرانهم التعرف عليهم". وأضافت "هذا يجعل عملية الحصر وتحديد الهوية صعبة للغاية".
وشاركت زينة جمال الدين، طالبة الدكتوراه في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي، في كتابة تحليل الشهر الماضي في مجلة "لانسيت" الطبية بناءً على قائمة وزارة الصحة الصادرة في 26 أكتوبر. وخلصت الدراسة إلى أن أرقام هوية الضحايا كانت مرتبطة بشكل كبير بالعمر، وهو نمط من غير المرجح أن ينشأ عن تلفيق البيانات.
وقالت إن أنظمة السلطات الصحية الفلسطينية لجمع البيانات قد تم اختبارها على مدى حروب متعددة، وتمت مراجعتها من خلال الجهود المدعومة من الأمم المتحدة، موضحةً أنه "رغم عدم وجود بيانات مثالية بنسبة 100%، فإن فلسطين لديها بيانات عالية الجودة".
وأضافت أنه في حين أن الخبراء لديهم أدوات لحساب إجمالي الوفيات بعد انتهاء الصراعات، إلا أن هناك تحديات أمام القيام بذلك، وقد ينتهي الأمر بالحصيلة النهائية بعد الحرب إلى أن تكون غير كاملة ما لم يتم تسجيل الوفيات إلى أقصى حد ممكن في الوقت الحقيقي.
وتابعت "كل اسم في القائمة يُمثل شخصاً وحياة وقصة. كل اسم يستحق أن نتذكره".
مصرع عائلات بأكملها في غزة
ويستخدم الباحثون أساليب مثل الدراسات الاستقصائية لسكان المنازل بعد انتهاء النزاع لتقدير إجمالي الخسائر.
وبحسب قائمة 26 أكتوبر، قد تكون المسوحات الأسرية صعبة في أعقاب هذا الصراع، لأنه في بعض الحالات قُتلت عائلات بأكملها بسبب القصف، ويصل العدد في بعض الأحيان إلى عشرات الأفراد. ويقول الخبراء إن أكثر من 4 أخماس سكان غزة قبل الحرب فروا من منازلهم، أي ما يعادل 1.9 مليون شخص وفقاً لأرقام الأمم المتحدة، وربما يكون من الصعب تحديد أماكنهم.
وقال حامد داردجان من مشروع إحصاء الجثث في العراق، وهي منظمة تسجل الوفيات الناجمة عن العنف جراء الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003، إنه بالنظر إلى مدى ترابط مجتمع غزة، هناك أمل في إمكانية إجراء مثل هذه الدراسات في نهاية المطاف بطريقة مثمرة ومفيدة. ونشر المشروع بالفعل تحليلاً عن العمر والخصائص الأخرى للضحايا في غزة بناءً على بيانات الوزارة في 26 أكتوبر.
وأضاف داردجان "معدل الوفيات بين المدنيين، بما لا يقل عن 200 شخص يومياً منذ 7 أكتوبر، باستثناء الهدنة التي استمرت أسبوعاً، لم يسبق له مثيل في هذا القرن، ولم نشهده في ذروة غزو العراق".
انتشال الرفات سيستغرق سنوات
وقال جلبرت بورنهام الطبيب والأستاذ بجامعة جونز هوبكنز الذي تعامل منذ السبعينيات مع المشاكل الصحية الإنسانية في الحروب إن الأمر سيستغرق سنوات لانتشال رفات من هم تحت الأنقاض، ولن تؤدي هذه العملية الفنية المكلفة إلى التعرف على هوية كل جثة.
وبالإضافة إلى الضحايا، تقول الوزارة إن هناك أكثر من 53 ألفاً و300 شخص أصيبوا في الصراع. وتشير منظمة الصحة العالمية إلى تزايد خطر الإصابة بالأمراض، بسبب نقص المياه النظيفة والغذاء والرعاية الطبية.
وقال غسان أبو ستة وهو جراح بريطاني من أصل فلسطيني تطوع في مستشفيين في شمال غزة خلال الأسابيع الستة الأولى من الحرب إن بعض الناس يموتون بسبب عدم علاج الجروح المفتوحة.
وقتا عبد الرزاق التكريتي، الأستاذ المشارك في التاريخ العربي الحديث في جامعة رايس في تكساس، إن استخدام السجلات لمحاربة الخوف من المحو متأصل في الثقافة الفلسطينية. واقتبس من قصيدة للشاعر الفلسطيني البارز محمود درويش قوله "تُنسى كأنك لم تكن".
وقال التكريتي إن العديد من الفلسطينيين يعتبرون حرب غزة جزءاً من تاريخ الصراع والتهجير على يد القوات الإسرائيلية يعود إلى "النكبة"، عندما فر أكثر من 700 ألف فلسطيني أو طردوا من منازلهم.
وتابع "من أجل الحاضر والمستقبل والماضي، نحتاج إلى عرض دقيق للأرقام".