وسط غارات إسرائيلية مكثفة على كافة أنحاء القطاع، تتصاعد الأوامر الإسرائيلية بإخلاء سكان غزة إلى مناطق جديدة، لم تعد آمنة من القصف المتواصل على القطاع، بينما تُزيد مأساة النزوح المتكرر، من أوضاع إنسانية متردية في ظل حصار خانق شمل الماء والكهرباء والطعام والخدمات الصحية.
جيما كونيل التي تقود فريقاً إنسانياً تابعاً لهيئة الأمم المتحدة في قطاع غزة، قالت إن الكثير من الفلسطينيين في القطاع، استجابوا لأوامر الإخلاء التي أصدرها الجيش الإسرائيلي، وبحثوا عن الأمان في مناطق محددة "ليجدوا أنه لم يتبق أمامهم سوى مساحة صغيرة" في القطاع المكتظ بالسكان.
وتحدثت كونيل، التي تعمل في غزة منذ عدة أسابيع، عما قالت إنها "رقعة شطرنج بشرية" يفر بداخلها آلاف الأشخاص الذين نزحوا عدة مرات بالفعل، مضيفةً أنه "ليس هناك ما يضمن أن وجهتهم المقبلة ستكون آمنة".
وتضغط الولايات المتحدة، أقوى حليف لإسرائيل في حربها على غزة، منذ أسابيع على الحكومة الإسرائيلية لاتخاذ المزيد من الخطوات لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين من خلال تحديد المناطق الآمنة، وفتح الطرق الإنسانية أمام الناس للفرار.
وأضافت كونيل، رئيس فريق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، التي زارت حي دير البلح وسط قطاع غزة: "كان الناس يتجهون جنوباً ومعهم كل ممتلكاتهم في شاحنات صغيرة وسيارات في محاولة للعثور على مكان آمن".
وتابعت: "لقد تحدثت إلى العديد من الأشخاص. هناك مساحة صغيرة متبقية هنا في رفح لدرجة أن الناس لا يعرفون إلى أين سيذهبون، ويبدو الأمر وكأن الناس يتم نقلهم حول رقعة شطرنج بشرية، لأن هناك أمر إخلاء في مكان ما"، مشيرةً إلى أن "الناس يفرون من تلك المنطقة إلى منطقة أخرى. لكنهم ليسوا آمنين هناك".
ورداً على طلب للتعليق، قال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي، إن القوات "سعت لإجلاء المدنيين من مناطق القتال، لكن (حماس) تحاول بشكل منهجي منع هذه الجهود"، متهماً الحركة الفلسطينية بأنها تستخدم المدنيين كدروع بشرية، وهو ما تنفيه الحركة.
لا مكان آمن في غزة
وتحدثت كونيل عن وفاة طفل يبلغ من العمر 9 سنوات يدعى أحمد في مستشفى الأقصى بدير البلح، حيث تم نقل العديد من جرحى الغارات الجوية الإسرائيلية، وقضت كونيل حوالي ساعة ونصف الساعة في المستشفى.
وأوضحت أن الطفل "لم يكن في منطقة صدرت بشأنها أوامر إخلاء، بل كان في منطقة كان من المفترض أن تكون آمنة. لا يوجد مكان آمن في غزة"، مشيرة إلى أن غارات جوية جديدة وقعت عندما كانت في المستشفى، وأنها شاهدت بنفسها إحضار مصابين جدد.
وأظهر نص إخطار من الجيش الإسرائيلي يحث سكان ما لا يقل عن 6 أحياء بوسط غزة على الإخلاء، يوم الجمعة الماضي، أن الجيش سيبدأ عملياته قريباً في منطقتهم، وطالبتهم بالإخلاء "مؤقتاً والانتقال إلى الملاجئ" في دير البلح.
الأمر الجديد بالإخلاء يشمل هذه المرة منطقة في وسط غزة كانت موطناً لنحو 90 ألف شخص قبل الحرب، وكان ما لا يقل عن 60 ألف نازح، معظمهم فروا من شمال غزة، يحتمون فيها.
ونزح أكثر من 1.7 مليون شخص إلى الملاجئ في الجنوب، بما في ذلك بضع مئات الآلاف من الأشخاص الذين لا يستطيعون البقاء داخل جدرانها، وينامون على طول الطرق، وفي الأماكن المفتوحة، وسط غياب الصرف الصحي ونقص الغذاء والماء.
واستجاب العديد من الأشخاص لأوامر الإخلاء، لكن ذلك لم يضمن لهم الأمان، واستمر القصف الإسرائيلي العنيف في جميع أنحاء الجنوب، بما في ذلك المناطق التي طلبت إسرائيل من الناس الانتقال إليها.
قصف الملاجئ
صحيفة "نيويورك تايمز" أكدت أنه وفقاً لتحليل صور الأقمار الصناعية وبيانات وكالات الإغاثة، تم تحديد الأضرار الناجمة عن الغارات الجوية والقتال بالقرب من كل ملجأ تقريباً في المناطق الجنوبية الثلاث في غزة، الشهر الجاري، موضحة أنه في بعض الحالات، تعرضت الملاجئ للقصف المباشر.
وقدرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في غزة، أن ما لا يقل عن 299 نازحاً لقوا حتفهم في ملاجئها في جميع أنحاء غزة منذ بداية الحرب، وأُبْلِغ عن 81 حالة وفاة منذ 30 نوفمبر.
وقال رئيس الوكالة الأممية، السبت الماضي، إنه مع اتساع نطاق الحملة البرية الإسرائيلية في جنوب غزة، يطلب الجيش من المزيد من الناس الانتقال إلى مناطق لا تستطيع توفير المأوى لهم.
في المقابل قال الجيش الإسرائيلي، إنه يتخذ احتياطات للتخفيف من الأضرار التي لحقت بالمدنيين، بينما يعمل على هزيمة "حماس"، وإن أوامر الإخلاء تهدف إلى نقل المدنيين من المناطق التي تشهد أعنف قتال.
وتعد رفح الآن المنطقة الأكثر كثافة سكانية في غزة، وفقاً لمسؤولين في الأمم المتحدة.
وتظهر بيانات أن ملاجئ الأمم المتحدة في رفح تستضيف في المتوسط أكثر من 15 ألف شخص مسجل لكل منها، على الرغم من أن معظم الملاجئ مصممة لاستيعاب ألفي شخص فقط.
دورة مياه واحدة لكل 500 شخص
وتقول منظمات الإغاثة، إن المنطقة غير مجهزة لتقديم الخدمات الأساسية للنازحين، وأن المستشفيات تعمل بشكل جزئي فقط، ويعيش الأشخاص في ظروف ضيقة مع القليل من الطعام والماء، ويتشارك ما يقرب من 500 شخص في المتوسط في "دورة مياه واحدة".
وشهدت منطقة دير البلح أيضاً تدفقاً هائلاً للنازحين، لكن على النقيض من رفح، حيث وصلت بعض المساعدات المحدودة من مصر، فإن دير البلح وجارتها الشمالية خان يونس، لم تتمكنا من الحصول على المساعدات إلا بشكل ضئيل أو منعدم في الأيام الأخيرة بسبب الهجمات المستمرة.
ومن بين ما يقرب من 100 ملجأ تابع للأمم المتحدة في جنوب غزة، لم يشهد سوى عدد قليل منها في خان يونس انخفاضاً كبيراً في عدد السكان، ويقع بعضها داخل المناطق التي أخليت، والتي شهدت قتالاً عنيفاً في الأسابيع الأخيرة.
وأظهرت صور الأقمار الصناعية مركبات عسكرية إسرائيلية متمركزة على بعد بنايات قليلة من 3 ملاجئ أخليت في خان يونس. وفي 5 ديسمبر الجاري، كان 17 ألف شخص يعيشون في الملاجئ، لكن في 12 ديسمبر، كانت المراكز فارغة تماماً تقريباً، وفق صحيفة "نيويورك تايمز".
ويقول مسؤولو الإغاثة إنه كان من الصعب تعقب ما يقرب من مليوني نازح في غزة، والعديد منهم انتقلوا من وإلى الملاجئ ومنازل آخرين منذ بداية الحرب، ومن الصعب إحصاء الذين بقوا في الشمال، حيث شنت إسرائيل هجماتها لأول مرة وحيث قُيِّد الوصول إليهم.
وتشير تقديرات أولية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، إلى أن ما يصل إلى 500 ألف شخص ربما بقوا في الشمال حتى أوائل ديسمبر.
ويتوقع مسؤولو الإغاثة أن يواجه سكان غزة المشردون في الجنوب نزوحاً متكرراً، في الأسابيع المقبلة، إذا لم يتوقف إطلاق النار، ومن المرجح تهجير الذين لم يفروا بعد من منازلهم مع استمرار الهجمات.