تؤثر الحرب الإسرائيلية على غزة، وما تلاها من تطورات في منطقة الشرق الأوسط، مباشرة على السياسة البريطانية في الداخل والخارج.
وفرضت هذه التداعيات على حكومة ريشي سوناك عدداً من التدابير والتوجهات العاجلة، أو المفاجئة، في عام قد يشهد انتخابات تشريعية تتوقع استطلاعات رأي عديدة أن تزيح حزب المحافظين عن السلطة.
من وجهة نظر مراقبين ومحللين، لم تستطع لندن التعامل مع تطورات الشرق الأوسط كحدثٍ لا يمس حياة البريطانيين، وتوجهاتهم في الاستحقاق المرتقب، فما يدور هناك انعكس خصومة بين الجالية المسلمة والأحزاب الكبرى في البلاد، وهدد بكلفة إضافية على الاقتصاد تزيد من أعباء الشعب، وتهدد خطط الحكومة لدعمه وتقويته.
وتبحث بريطانيا عن حلول "مستدامة" و"سلمية" للأزمة في الشرق الأوسط، فيتجول وزير خارجيتها بين دول المنطقة، ويتشاور مع الحلفاء في الغرب والشرق، لعل حرب غزة الراهنة تكون سبباً في ولادة حل الدولتين الذي لطالما أيدته لندن. ولكن هل يملك البريطانيون فعلاً ما يدفعون به نحو إنهاء الحرب وحلحلة الصراع؟
تأسيس الدولة الفلسطينية
لعل أبرز المتغيرات التي طالت السياسة الخارجية البريطانية بسبب حرب غزة، هي استعداد لندن للاعتراف بدولة فلسطينية مجاورة لإسرائيل. وهذه الخطوة، كما يرى وزير الخارجية ديفيد كاميرون "ستقنع الأطراف المعنية كافة بأن المملكة المتحدة جادة في تحقيق السلام، وأنه البديل الوحيد للعنف في منطقة الشرق الأوسط".
ويقول اللورد كاميرون إن بريطانيا تبحث الاعتراف بفلسطين جدياً، وتدرس كيف ومتى تضعه في حيز التنفيذ.
ومجرد تفكير لندن بهذا الأمر قبل أشهر فقط، كان أمراً مستبعداً. ولطالما قالت حكوماتها المتعاقبة إن "الاعتراف بالدولة الفلسطينية من جانب المملكة المتحدة وحدها، لن يخدم السلام المنتظر من قبل الأطراف المعنية كافة".
تصريحات كاميرون، أثارت استياء عدد من نواب حزب المحافظين. وقالت النائبة والوزيرة السابقة تيريزا فيلرز، أمام مجلس العموم، "إن الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية سيكون بمثابة مكافأة لحركة حماس على مهاجمة إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي. وهذا يناقض أصلاً موقف لندن الداعم لتل أبيب في محاربة الإرهاب".
وحتى الآن، لم يعلن سوناك، بشكل واضح دعمه لطرح وزير الخارجية في هذا الإطار. ولكن المسؤول في وزارة الخارجية أندرو ميتشيل، صرح لهيئة الإذاعة البريطانية أن "المملكة المتحدة لن تعترف بالدولة الفلسطينية بمفردها، ولن تقوم بذلك إلا في أفضل توقيت يخدم أغراض السلام في المنطقة".
الاستياء من حكومة نتنياهو
ويؤيد رئيس وزراء اسكتلندا حمزة يوسف، الاعتراف بالدولة الفلسطينية. كما أن نواباً من أحزاب برلمان لندن، يشجعون سوناك وزعيم المعارضة العمالية كير ستارمر، على الخطوة، إلّا أن وزير الخارجية في حكومة الظل العمالية ديفيد لامي، يرحب بها فقط "بعد مفاوضات سلام تدور بنجاح بين الفلسطينيين والإسرائيليين".
وبحسب الدبلوماسي، والمتحدث السابق باسم الحكومة البريطانية جيرالد راسل، فإن الاعتراف البريطاني بدولة فلسطينية يبدو أقرب من أي وقت مضى. ولكن برأيه، لن تتعجل لندن تنفيذ الخطوة، ولن تقوم بها دون التنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية بشكل أساسي، سواء فيما يخص التوقيت، أو محددات الدولة المتوقعة للفلسطينيين.
ويقول راسل، في حديث مع "الشرق"، إن تلويح بريطانيا بتسريع الاعتراف بالدولة الفلسطينية "جاء نتيجة استيائها من الحكومة الإسرائيلية اليمينية التي يقودها بنيامين نتنياهو"، مضيفاً: "حكومة تل أبيب اليوم لا يبدو أنها مستعدة لأي مقاربات تنهي حرب غزة، دون إحداث تغيير في جغرافية القطاع، أو مناقشة تسليمه إلى سلطة فلسطينية جديدة".
ويشير إلى أن اعتراف لندن بالدولة الفلسطينية قد يدفع عواصم غربية عديدة إلى الخطوة نفسها. وهذا ما قد يقلق تل أبيب، خاصة أن واشنطن تفكر بالأمر ذاته، وتعيش الاستياء نفسه من حكومة نتنياهو. ولكن السؤال: "هل هناك تصور نهائي للدولة المرتقبة للفلسطينيين، أم أن الأمر يحتاج إلى مفاوضات بعدة مستويات؟".
إعادة النظر في المسلمات
ولفت راسل إلى أن احتمالات تمدد الحرب في المنطقة، وتداعياتها على الملاحة الدولية في البحر الأحمر، دفعا ببريطانيا إلى الحضور بشكل أكبر في الشرق الأوسط، مضيفاً أن المملكة المتحدة يمكن أن تصعّد عسكرياً بقدر ما تريد الولايات المتحدة تحت مظلة تحالف "حارس الازدهار"، إلا أن الأمر، في اعتقاده، لن يتطور إلى هجوم بري على اليمن.
وانضمت بريطانيا إلى تحالف دولي تتزعمه الولايات المتحدة لحماية الملاحة في البحر الأحمر. وشاركت بعدة ضربات جوية استهدفت القدرات الهجومية للحوثيين، ولكن الجماعة المسلحة المدعومة من إيران، وفق تصريحات رسمية غربية، لم تتوقف عن استهداف السفن الأميركية والبريطانية، بالإضافة إلى تلك المتوجهة إلى إسرائيل.
من جهتها، تقول الأكاديمية المختصة بالقانون الدولي، ريل فيلك، إن ما يحدث في المنطقة دفع لندن إلى إعادة النظر بالمسلمات؛ فدعم إسرائيل يحتاج إلى مقاربات جديدة، والصين وروسيا على استعداد لاستغلال أي توتر في العالم لصالحهما، كما أن "احتواء إيران وميليشياتها ليس بالسهولة التي كان يظنها القادة في الغرب".
ونوّهت الأكاديمية البريطانية إلى أن تعطيل الملاحة في البحر الأحمر من قبل الحوثيين في اليمن، وضع المملكة المتحدة أمام استحقاق حماية مستقبل اقتصادها، كما دفعها أيضاً إلى إعادة النظر في قدرات جيشها وقواتها البحرية، بعد أن تبين أن سفن وبوارج الملكية البريطانية ليست مهيأة كما يجب، لمواجهة الأخطار القادمة من البر.
الخشية على الطيران
ولا تتوقف الخشية البريطانية على قطاع النقل البحري في ظل استمرار توتر الشرق الأوسط، فهناك الطيران الذي يتحرك من وإلى قارة آسيا.
ويرى الصحفي المختص في النقل الجوي سيمون كالدر، أن المخاوف من استهداف الطائرات المدنية فوق المنطقة لم تظهر إلى العلن بعد، ولكن استمرار الحرب لن يؤجل ذلك كثيراً.
ويذكر كالدر، في مقالة نشرتها صحيفة "الإندبندنت"، باستهداف إيران للطائرة الأوكرانية المدنية عام 2020 خلال ردها على اغتيال أميركا لقائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني. كما نوّه بأن الحوثيين اليوم يمكن أن يشكلوا خطراً على الملاحة الجوية فوق منطقة الخليج، تماماً كما يهددون حركة السفن في البحر الأحمر.
من جهته، يلفت الكاتب في مجلة "فوربس" أليكس ليدسوم، إلى أن المسافرين من بريطانيا وأوروبا إلى الشرق الأوسط ودول آسيا الشرقية، باتوا يتحملون اليوم كلفة أكبر ووقتا أطول في رحلاتهم؛ بسبب تغير مسار الطائرات للابتعاد عن ارتدادات الحرب الإسرائيلية. وبالتالي تمدد الخطر على المنطقة يعني أزمة لقطاع الطيران.
وتمدد الحرب في إحدى سيناريوهاته، يعني الصدام المباشر بين الولايات المتحدة وإيران.
وفي عددها الصادر الأسبوع الماضي، حذرت مجلة "ذا ويك"، من أن مثل هذا الصدام سوف يقسم قارة أوروبا بين دول مؤيدة لأميركا مثل بريطانيا، وأخرى تعارض المواجهة مع إيران خشية من تداعيات قد تؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة.
الكلفة الاقتصادية للحرب
داخلياً، يقول وزير الخزانة البريطاني جيرمي هنت، إن التداعيات المباشرة للتوتر في الشرق الأوسط على اقتصاد المملكة المتحدة، لا تزال تحت السيطرة حتى الآن، مشيراً إلى أن هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر رفعت من تكاليف الشحن البحري والاستيراد عامة، ولكن تأثير ذلك على أسواق المملكة المتحدة لم يخالف التوقعات.
وشدد هنت على مراقبة الحكومة المكثفة لتأثر الاقتصاد العالمي بما يجري في الشرق الأوسط، مضيفاً أن التأثر المحدود لبريطانيا في هذا السياق، قد لا يستمر طويلاً إذا ارتفعت أسعار النفط، أو امتد الصراع إلى حدود أكبر مما هي عليه الآن، فهنا تواجه التجارة العالمية خطر الانكماش، وتقلص فرص النمو خلال العام الجاري.
ويوضح المحلل الاقتصادي أسلم بوسلان، أن التوتر في الشرق الأوسط، زاد أسعار بعض السلع في بريطانيا، ورفع الكلفة على شركات محلية تعمل في الاستيراد والتصدير. ومع اضطراب الوضع الاقتصادي أصلاً، يزداد قلق حكومة سوناك كلما امتد التوتر زمنياً، أو ازداد تأثيره، واتسعت رقعة تداعياته على التجارة بكل أشكالها.
ويلفت بوسلان، في حديث مع "الشرق"، إلى أن الاقتصاد والهجرة هما العاملان الأساسيان في تحديد توجهات الناخبين خلال الاستحقاق المقبل، وحكومة حزب المحافظين تستعد للانتخابات بخطط لتقليص التضخم، وتخفيض الضرائب، ودعم الصناعة والتجارة، وكل هذا سيتغير حتماً إذا ما تحول توتر الشرق الأوسط إلى أزمة عالمية.
خصومة الجالية المسلمة
في التأثيرات الداخلية أيضاً، أفرز توتر الشرق الأوسط تباينات بين الجالية المسلمة والأحزاب الكبرى في بريطانيا، وخاصة بالنسبة لحزب العمال المعارض الذي اعتُبر دائماً مؤيداً للقضية الفلسطينية. ولكن رفض زعيمه كير ستارمر لوقف الحرب، دفع بتجمعات إسلامية إلى إعلان رفضها التصويت للحزب في الانتخابات المقبلة.
وتقول صحيفة "الجارديان"، في تقرير حديث إن مكتب زعيم "العمال"، أجرى استطلاعاً للرأي حول توجهات المسلمين في بريطانيا بعدما تزايدت مخاوف الحزب من خسارة مواقع في الانتخابات المقبلة، حتى أن الصحيفة نقلت عن نائب عمالي لم تسمه "أن الضرر قد وقع فعلاً، ولكن الحزب يحاول احتواءه قدر الإمكان".
ويلفت الباحث في الشأن البريطاني رياض مطر، إلى أن تأثير حرب غزة وتوترات الشرق الأوسط، تتجاوز حدود الانتخابات المقبلة، فهناك ما بات يستدعي البحث من أجهزة الدولة والأحزاب حول توجهات الجالية المسلمة سياسياً، ومدى ارتباطها بالأحداث خارج الحدود، خاصة بالنسبة لأحزاب وتكتلات قائمة رسمياً.
ويشير مطر، في حديث مع "الشرق"، إلى حظر "حزب التحرير" مؤخراً، وتصنيفه كمنظمة إرهابية بعد حثه على الجهاد ضد إسرائيل خلال الأشهر الماضية، متوقعاً أن يوضع النشاط السياسي للتجمعات الإسلامية خلال الفترة المقبلة، أمام معايير أكثر دقة لجهة التزامه بقوانين المملكة المتحدة، وتشريعات النظام والأمن العام.