أثارت المقابلة المطولة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع المذيع الأميركي تاكر كارلسون، انتقادات واسعة في الولايات المتحدة بين من اعتبرها "دعاية للكرملين"، وآخرين أشاروا إلى أنها لم تقدم الإجابات التي انتظرها العالم عن مواضيع مهمة وجوهرية، فيما وصفت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون كارلسون بـ"الطابور الخامس لبوتين".
وكارلسون الذي يتمتع بشعبية في الولايات المتحدة، شخصية مثيرة للجدل طردته "فوكس نيوز" قبل بضعة أشهر، انتقل بعدها إلى تقديم برنامج يبثه مذاك على موقعه الإلكتروني، وعلى منصة (إكس).
وأجرى كارلسون المقابلة مع بوتين في روسيا في زيارة لقيت تغطية واسعة من وسائل الإعلام الرسمية الروسية والأميركية.
وتطرق بوتين خلال اللقاء الذي استمر ساعتين، إلى عدة قضايا منها الغزو الروسي على أوكرانيا ورؤيته المستقبلية بشأنها، إضافة إلى تمدد حلف شمال الأطلسي "الناتو" باتجاه روسيا.
كما تحدث الرئيس الروسي عن علاقته مع الرئيسين الأميركيين السابقين جورج دبليو بوش دونالد ترمب، وقضية تفجير خط أنابيب "نورد ستريم" الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا، ومدى إمكانية التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة للإفراج عن الصحافي الأميركي إيفان جيرشكوفيتش (من وول ستريت جورنال) الموقوف في روسيا منذ نحو عام بتهمة التجسس.
وحتى كتابة هذه السطور، كان عدد المشاهدات للمقابلة على منصة "إكس" قد وصل إلى 154 مليون مشاهدة، وهو رقم يتخطى كل ما يمكن أن تحققه المؤسسات الإعلامية في لحظات الذروة.
وجاءت أهمية المقابلة في ارتباطها بملف يشكل مادة انقسام حادة في الولايات المتحدة، وهو استمرار تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، ففيما كانت مقابلة كارلسون في طريقها للعرض، كان المشرعون الأميركيون في مجلس الشيوخ يتعثرون في محاولة تمرير حزمة دعم جديدة لأوكرانيا في ظل معارضة جمهورية واسعة لها. وهو أمر لم يفت بوتين التعليق عليه في المقابلة.
وفيما غابت ردود الفعل الرسمية من قبل البيت الأبيض والخارجية الأميركية على المقابلة نفسها وعلى تاكر، إلا أنها حظيت برد من رئيس وزراء كندا جاستن ترودو الذي قال إن "بوتين سيستخدم ما أمكنه من سبل الدعاية، لكن الكنديين لن ينخدعوا"، مجدداً موقف كندا الداعم لأوكرانيا، فيما قال رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون: "لا تصدقوا هذه المقابلة السخيفة"، معتبرا أن بوتين محكوم عليه بالفشل في أوكرانيا.
ووصفت شبكة ABC NEWS الأميركية اللقاء بأنه "ترويج للرواية الروسية بشأن الحرب مع أوكرانيا"، مشيرةً إلى أن الرئيس الروسي "أمطر" كارلسون، الذي لم يتحداه كثيراً خلال اللقاء، بـ"معلومات عن تاريخ روسيا".
ولفتت وكالة "أسوشيتدبرس" الأميركية إلى أن بوتين كان خلال اللقاء "واثقاً ومرتاحاً"، كما وجه عدة "انتقادات ودية" لكارلسون الذي احتار بشأن كيفية التعامل مع "المحاضرة التاريخية" من خلال محاولة التدخل بالأسئلة، لكن بوتين "ظل يتحدث عن الموضوع لأكثر من 20 دقيقة".
وانتقدت الوكالة كارلسون على عدم سؤاله بوتين عن "جرائم الحرب" التي ارتكبتها القوات الروسية في أوكرانيا، أو عن "حملة القمع المتواصلة ضد المعارضين" في روسيا.
"طابور خامس"
من جهتها، قالت صحيفة "نيويورك تايمز" إن اللقاء الذي استمر ساعتين، "لم يكن مثيراً للاهتمام"، لافتةً إلى أن بوتين "قدم خلال النصف ساعة الأولى محاضرة عن تاريخ روسيا وأوكرانيا بدأت منذ عام 832، تلتها سلسلة نموذجية من مظالمه مع الغرب".
واعتبرت أن قرار منح بوتين مثل هذه المنصة للحديث "أثار موجة غضب متوقعة"، حيث وصفت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، كارلسون بأنه "مغفل مفيد"، وهي عبارة استخدمها مؤسس الدولة السوفييتية فلاديمير لينين ضد الجواسيس.
وذكرت كلينتون في مقابلة مع شبكة MSNBC الأميركية أن "المقابلة سلطت الضوء على ظاهرة واسعة النطاق ومثيرة للقلق في الولايات المتحدة"، مشيرةً إلى أنها "إشارة على وجود أشخاص في هذه البلاد يشبهون الطابور الخامس لبوتين". ويشير مصطلح "الطابور الخامس" عادة إلى المتعاطفين مع الأعداء داخل البلاد.
وتوقع بريت براون، المستشار السابق للبيت الأبيض خلال عهد إدارة باراك أوباما، في تصريحات لـ "الشرق"، أنه "سيكون هناك أثر سياسي سيئ لهذه المقابلة".
وأضاف: "لقد كان بوتين قادراً بشكل أساسي على إجراء مونولوج (حوار من طرف واحد) موسع لتعزيز نظرياته حول تاريخ أوكرانيا ومفاهيم المؤامرة.. توجه إلى ملايين الأشخاص الذين يتابعون تاكر كارلسون، ولم يواجه بالكثير من التحدي في أي من النقاط التي عرضها. وباعتباري شخصاً يعمل كثيراً في مجال الدعاية الروسية، فهذا أمر مقلق حقًا؛ لأنه سيؤدي إلى انتشار الكثير من هذه المعلومات الكاذبة".
وتابع براون في حديثه لـ "الشرق": "لقد خسرنا الكثير من المصداقية. الآن الجميع ينظر على أن أوكرانيا هي قضية الديمقراطيين وغزة قضية الجمهوريين"، في إشارة إلى تباين الموقف الأميركي إزاء حربي أوكرانيا وغزة.
وأضاف براون: "الرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريجان سيتقلب في قبره إن شاهد تلك المقابلة التي أجراها تاكر كارلسون مع فلاديمير بوتين. لقد كان ذلك "فوزاً دعائياً واضحاً لموسكو".
وتعليقاً على قول بوتين في المقابلة عن الحرب في أوكرانيا، "إذا كنتم تريدون حقاً وقف القتال، عليكم أن توقفوا توريد الأسلحة، وسوف تنتهي الحرب في غضون بضعة أسابيع".
قال متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي لـ "الشرق": "لقد قلنا نحن والرئيس فولوديمير زيلينسكي عدة مرات أننا نعتقد أن هذه الحرب ستنتهي من خلال المفاوضات. وعلى الرغم من كلمات السيد بوتين، إلا أننا لم نر أي تحرك يشير إلى اهتمامه بإنهاء هذه الحرب. ولو كان كذلك، لكان سحب قواته وأوقف هجماته المتواصلة على أوكرانيا. في نهاية المطاف، الأمر متروك لأوكرانيا لتقرر مسارها في المفاوضات".
ورغم الانتقادات، إلا أن مقابلة كارلسون لقيت ترحيباً من قبل الكثير من الجمهوريين المقربين من دونالد ترمب. وكان لافتاً تعليق السيناتور عن ولاية أوهايو، جي دي فانس، الذي علق قائلاً: "لقد انتهيت للتو من تلك المقابلة: مبهرة"، قبل أن يتبع ذلك بتغريديتين ساخرتين من منتقدي كارلسون، وهو ما لقي ترحيباً كبيراً من أنصار الرئيس السابق.
"لا أفكار مثيرة"
أما مجلة "بوليتيكو" الأميركية فرأت أن كارلسون "فشل في استخلاص أي أفكار مثيرة عن أهداف الرئيس الروسي الحقيقة من الحرب، أو تحميله مسؤولية غزوه الوحشي على أوكرانيا".
واعتبرت المجلة أن "بوتين استفاد من الفرصة بشكل كامل من خلال زرع بذور الشك بشأن المساعدات الأميركية لأوكرانيا، والنظام السياسي في الولايات المتحدة".
وأشارت إلى أن "الرسالة الرئيسية التي سعى بوتين إلى إيصالها للأميركيين هي أنه لا جدوى من تقديم المساعدة لأوكرانيا"، معتبرةً أن كارلسون الذي سبق أن شكك بمسألة دعم أوكرانيا، "كان سعيداً جداً بالمساعدة على إيصال هذه الرسالة".
ولفتت المجلة إلى أن الرئيس الروسي "تمكن بشكل كبير ودون قيود من الوصول إلى الجمهور الأميركي قبل الانتخابات المقررة في نوفمبر المقبل"، مضيفةً أنه "ليس سراً من سيدعم كارلسون في إعادة الانتخابات المحتملة بين الرئيس السابق دونالد ترمب والحالي جو بايدن".
وذكرت أن بوتين، وليس كارلسون، "هو أول من تحدث عن ترمب"، قائلاً إنه "كان يتمتع بعلاقة شخصية مع الرئيس الأميركي السابق، وكذلك مع جورج دبليو بوش".
وبشأن الانتقادات المتوقعة باعتبار أن المقابلة "لن تكون أكثر من مجرد عملية تهدف لتسهيل دعاية الكرملين"، قالت "بوليتيكو" إن "كارلسون وبوتين سعيا بشكل كبير لتجنب ترك انطباع بأنهما كانا متعاونين"، مضيفة أن "كل لحظات التوتر خلال اللقاء قصيرة وغير مهمة".
وأوضحت أن المذيع الأميركي تجنب الحديث عن مواضيع حساسة للكرملين مثل: "التقارير عن جرائم الحرب الروسية في مناطق بوتشا وماريوبل، ومذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق بوتين، إضافة إلى مسألة المعارض الروسي أليكسي نافالني وغيرهم من السجناء السياسيين".
كما لم يتطرق اللقاء إلى مسألة "التعبئة الروسية وعدد الضحايا في زمن الحرب"، بحسب المجلة التي ذكرت أن كارلسون "تجنب طرح أسئلة حول الانتخابات الرئاسية الروسية المقبلة، واستبعاد المرشح المعارض للحرب بوريس ناديجدين خلال الأسبوع الجاري".
وأوضحت أن المقابلة المسجلة في الكرملين هي ثاني أطول لقاء ينشره كارلسون على الإطلاق، حيث كانت مدة المقابلة السابقة مع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان 29 دقيقة، أم ترمب فكانت مدتها 46 دقيقة"، لافتةً إلى أن أطول لقاء كان مع نجم مواقع التواصل المثير للجدل أندرو تايت.
شبكة CNN الأميركية وصفت اللقاء بـ"المطول والممل أحياناً"، مضيفةً أنها "أثارت جدلاً حتى قبل بثها، كما شهدت امتناع كارلسون إلى حد كبير عن تحدي النظام الاستبدادي في روسيا".
وقالت الشبكة إن المذيع الأميركي "تعرض لانتقادات واسعة بسبب المخاوف من أنه سيمنح بوتين منصة للحديث عن نقاطه الدعائية"، مبينةً أن المقابلة "لم تقدم سوى القليل من المضمون غير المسبوق الذي من شأنه تنوير الجمهور الأميركي عن نوايا بوتين في أوكرانيا التي دمرها خلال الغزو الغير القانوني وغير المبرر"، على حد قولها.