يقول الخبراء العسكريون والأمنيون إن "من السذاجة" الاعتقاد أن الخصوم في الصراعات العسكرية "لا يتنصتون على بعضهم"، مثلما من السذاجة الاعتقاد أن الجيوش "لا تناقش" فيما بينها سيناريوهات كثيرة محتملة لإضعاف الخصوم، حتى ولو لم تكن هناك خطة مباشرة وراء هذا النقاش، ذلك ما قد ينطبق على ما أحدثه تسريب نشر مؤخراً في روسيا.
وتسبّب تسجيل صوتي سرّبته وسائل إعلام روسية، يُظهر أربعة ضباط ألمان يناقشون افتراضياً تقديم صواريخ "توروس" بعيدة المدى إلى أوكرانيا، في إحراج كبير للحكومة الألمانية، وساهم في تأزيم الوضع بين برلين وموسكو.
صحيح أنه من المنطقي أن يستفيد الخصم مما اكتسبه من معلومات سرية عن أفكار أو خطط الطرف الآخر، ولكن لماذا يتم تسريب مثل هذا الحديث وبالتالي تنبيه الطرف المعني إلى ثغرة في وسائل تواصله الداخلي؟ وما مغزى توقيت هذا التسريب الآن؟
جدل ألماني حول صواريخ تاوروس
النقاش الذي تم تسريب تسجيله ومحتواه عبر حسابات روسية على منصة تليجرام، كان قد أجري يوم 19من فبراير الماضي، ويدور بين أربعة ضباط ألمان رفيعي المستوى، ومن بينهم قائد القوات الجوية الألمانية إنجو جيرهارتس.
وفي حوالي 38 دقيقة يناقش الضباط الأربعة من منطلق نظري وفي إطار التحضير لإحاطة لوزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، إمكانيات تسليم صواريخ كروز من نمط تاوروس لكييف، وإمكانية توظيف القوات الأوكرانية لهذه الصواريخ لتدمير جسر كيرتش الذي يربط بين البر الروسي وشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014.
التسريب نُشر يوم الجمعة 1مارس، في خضم جدل كبير في ألمانيا بشأن فكرة تسليم صواريخ تاوروس لأوكرانيا.
وكان المستشار الألماني أولاف شولتز أعلن رفضه للفكرة؛ تجنباً للانخراط في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا كطرف مباشر، باعتبار أن تشغيل هذه الصواريخ يستوجب مشاركة جنود ألمان، وفي المقابل طرحت المعارضة نص قرار للتصويت عليه من قبل البوندستاج لإجبار الحكومة على تسليم صواريح تاوروس، ولكن القرار باء بالفشل ورفضته أغلبية الائتلاف الحكومي في 22 فبراير الماضي.
ويتهم وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، روسيا، بالسعي من خلال هذا التسريب إلى شق وحدة الصف الداخلي، وبممارسة عملية تضليل سياسي في ألمانيا لإضعافها؛ وهي القوة الداعمة الأولى لأوكرانيا في أوروبا، والثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة الأميركية. وتبلغ المساعدات الألمانية لأوكرانيا هذا العام 7 مليار يورو، فيما بلغ إجمالي المساعدات الألمانية منذ بدء الحرب نحو 28 مليار يورو.
واتهمت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر، روسيا، بمحاولة التلاعب بالرأي العام الألماني.
الدوافع الروسية المحتملة
من جانبها، تعتبر روسيا أن محتوى التسريب المسجل يبرهن على ضلوع الغرب بالمشاركة في الحرب والهجوم المباشر عليها، وهو ما يؤيد ما ذهب إليه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، أثناء حديثه في أنطاليا بتركيا قبل أيام، مستنداً إلى عدم استبعاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لدخول قوات برية غربية إلى أوكرانيا، وما قرأه لافروف في تصريحات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أمام لجنة الدفاع في الكونجرس الأميركي قبل أيام، من أن الناتو سيدخل حرباً مع روسيا في حال هزيمة أوكرانيا.
ويرى الخبراء المطلعون على القضايا الروسية في ألمانيا، أن روسيا تسعى عبر هذا التسريب إلى تحقيق ثلاثة أهداف: أولها القضاء على أي فرصة لتوريد صواريخ تاوروس المصنّعة من قبل كونسورتيوم ألماني-سويدي إلى أوكرانيا لاحقاً، خاصة وأن المعارضة الألمانية وحتى بعض الأصوات داخل الائتلاف الحاكم شككت في تبريرات المستشار شولتز لعدم موافقته على تسليم صواريخ تاوروس لأوكرانيا، ونفت أن تكون هناك حاجة لإشراك جنود ألمان بشكل مباشر في توجيه هذه الصواريخ إلى أهدافها. كما أن سجلّ شولتز في رفضه توريد دبابات ليوبارد في البداية وتراجعه لاحقاً يبقي احتمال تراجعه أيضاً في قضية تاوروس قائماً، إن ازدادت الضغوط الداخلية والخارجية عليه.
وفي المقام الثاني، يرى الخبراء أن روسيا بحاجه إلى تشتيت الاهتمام العالمي عن موت المعارض الروسي ألكسندر نافالني مؤخراً في السجن، وما رافقه من تغطية سلبية، أما الدافع الروسي الثالث فهو مرتبط بقرب الانتخابات الرئاسية الروسية ورغبة الكرملين في زيادة الدعم الجماهيري للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بداعي التصدي لهجوم محتمل من قبل الغرب.
وكان ديميتري ميدفيديف، الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي حالياً، قد تحدث مؤخراً عن عودة الخصم التقليدي ألمانيا لمهاجمة روسيا مستعيداً ذكرى الهجوم الألماني النازي في أربعينيات القرن الماضي.
لماذا تتخوف روسيا من صواريخ تاوروس؟
تتميز صواريخ تاوروس بالدقة العالية في قنص أهدافها، وبقدراتها على التحليق على ارتفاعات تجنبها رصد الرادار المعادي، وبالمدى الطويل الذي يمكن أن تقطعه في البحث عن أهدافها، وعلى قدراتها العالية في تدمير الأهداف الصلبة والمحصنة، كمستودعات الذخيرة تحت الأرض أو المجنزرات القوية أو الجسور المحصنة، مثل جسر كيرتش الذي تطرق إليه الضباط الألمان الأربعة في حديثهم الذي تم تسريبه.
وبينما يمكن لتاوروس أن يقطع مسافة 500 كيلومتراً في طريقه إلى الهدف، لا تتجاوز صواريخ "سكالب" الفرنسية و"شتروم شادو" البريطانية مسافة 250 كيلومتراً، وهي أسلحة تم تزويد أوكرانيا بها من قبل، ولم تقلب معادلة الصراع على الأرض.
كما لم تفعل دبابات ليوبارد الألمانية من قبلها، لهذه الميزات يرى المحللون العسكريون أن روسيا تخشى تاوروس وتريد تجنب وصوله لأوكرانيا من كل بد، علماً بأن ألمانيا تملك 600 صاروخ تاوروس، منها 150 فقط جاهزة للعمل، كلفة كل واحد منها مليون يورو. وتملك كوريا الجنوبية 260 صاروخاً وإسبانيا 40 منها.
ماذا عن وحدة الصف الغربي؟
أشار منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، إلى أن روسيا تسعى بتسريبها لحديث الضباط الألمان إلى ضرب وحدة الصف الغربي، وإثارة الشك بين الأطراف الحليفة.
ورغم تأكيد كيربي أن روسيا لن تنجح في مسعاها، إلا أن الأسابيع الأخيرة أظهرت بعض الخلافات والفروقات في المواقف الأوروبية من قضية دعم أوكرانيا، فبينما كان المستشار الألماني يتفاخر بأن دولته رصدت 7 مليار يورو لدعم أوكرانيا هذا العام، وأن الدولة الأوروبية الثانية من حيث الدعم رصدت 3 مليار يورو فقط، فاجأ الرئيس الفرنسي ماكرون الجميع بعدم استبعاد أن تطأ أقدام الجنود الغربيين أرض أوكرانيا، وهو ما رد عليه المستشار الألماني بالرفض القاطع.
وفي المقابل كانت بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية تلمح إلى استغرابها لعدم موافقة ألمانيا على تسليم صواريخ تاوروس لأوكرانيا، علاوة على أن التقدم الروسي على محاور القتال شرقي أوكرانيا، على بطئه، يثير القلق في أوروبا، وهي تبحث عن وصفة مستقبلية للصراع.
وقد تزداد التحفظات الأوروبية الداخلية بسبب ما تضمنه التسريب المسجل، والذي أشار فيه الضباط الألمان الأربعة إلى وجود جنود بريطانيين على الأرض الأوكرانية للمساعدة على توجيه صواريخ "سكال" و"شتروم شادو"، كما أشاروا إلى وجود خبراء أميركيين بملابس مدنية هناك.
التفاصيل التي باح بها الجنود بسهولة، وإن كان بعضها معروفاً من قبل، وقدرة أجهزة الاستخبارات الروسية على اعتراض حديث العساكر الألمان وتسجيله؛ قادت صحيفة "فرانكفورتر ألجماينه" المرموقة إلى اعتبار ما حدث بمثابة "قنبلة عنقودية" انفجرت فوق برلين بتبعات ثقيلة على ألمانيا.
3 استحقاقات أمام الحكومة الألمانية
على صعيد الجيش: يعتبر التسريب لحديث الضباط الألمان الأربعة كارثة كبرى من حيث إجراءات الأمان المتبعة في التواصل داخل الجيش الألماني، وبالتالي يتوجب على وزير الدفاع أن يقود تحقيقاً صارماً (بدأ بالفعل)، لمعرفة مواطن الخلل، هل هي في طبيعة منصة ويبكيس الأميركية التي استخدمها الضباط الأربعة، أو في تواصل أحدهم عبر الهاتف من فندقه في سنغافورة كما تشير بعض التكهنات.
فيما يستبعد أن يكون أحد أطراف الحوار قد سجل الحديث وسربه، كما ينبغي على الجيش مراجعة إجراءات مكافحة التنصت والتجسس من حيث المبدأ ورفعها إلى أعلى مستوى.
على صعيد السياسة الداخلية: المستشار الألماني شولتز أكد أنه "هو المستشار"، وأن كلمته "هي النافدة"، ويعني بذلك موقفه من تسليم صواريخ تاوروس لأوكرانيا من عدمه، وبالتالي سيتوجب عليه الصمود أمام تشكيك البعض بحججه للرفض.
وهو الآن مطالب من قبل المعارضة بالمثول أمام لجنة الدفاع في البوندستاج لعرض أسباب التسريب، وما احتواه من نقض لأطروحته عن الحاجة إلى جنود ألمان لتشغيل تاوروس، إذ تتهمه المعارضة بالاستعانة بمعلومات خاطئة، وفي النهاية بالكذب، وتهدد بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية في هذه المسألة.
وعلى صعيد الحلفاء: يتعين على ألمانيا إصلاح ما خلفه التسريب من ضرر، وخاصة عبر المعلومات التي أفشى بها الضباط الألمان عن عمل قوات حليفة في أوكرانيا. وبالتالي لا بد لألمانيا العمل على استعادة الثقة بقدرة الأجهزة الاستخباراتية الألمانية وبموثوقية ما يتم تبادله من معلومات سرية وحساسة.
وبينما يكرر المسؤولون الألمان ومثلهم مسؤولو الناتو بأن روسيا لن تنال من وحدة الصف الألماني أو من وحدة الصف الغربي في دعم أوكرانيا، يبدو محتملاً وحتى الاستجابة الكاملة لتلك الاستحقاقات الثلاثة بأن روسيا تحقق شيئاً من أهدافها، كما يبقى هناك التخوف من تسجيلات أخرى في يد روسيا بانتظار لحظة التسريب المناسبة لكشف تفاصيل أخرى تقوّض عمل الغرب في الملف الأوكراني.
*كاتب صحافي ومدير مركز برلين للإعلام