سيطر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا قبل عقد مضى، في عملية جريئة مهدت طريق روسيا لغزو جارتها في عام 2022، وفقاً لوكالة "أسوشيتد برس".
وأثار الاستيلاء السريع وغير الدموي على شبه الجزيرة، موطن الأسطول الروسي في البحر الأسود والموقع الشهير لقضاء العطلات، موجة من المشاعر الوطنية وأدى إلى ارتفاع شعبية بوتين. وأصبح شعار "شبه جزيرة القرم لنا" شائعاً في روسيا.
والآن مع تولي بوتين فترة رئاسية أخرى مدتها ست سنوات، فهو مصمم على توسيع مكاسبه في أوكرانيا، وسط نجاحات روسيا في ساحة المعركة وتراجع الدعم الغربي لكييف.
وأظهر بوتين عدم وضوح، وفق "أسوشيتد برس"، بشأن مدى رغبته في الاستيلاء على أجزاء أخرى من أوكرانيا، مع استمرار المعارك للسنة الثالثة على التوالي، على حساب حياة الكثيرين من الجانبين، لكن بعض مساعديه الكبار لا يزالون يتحدثون عن السعي للاستيلاء على كييف وقطع وصول أوكرانيا إلى البحر الأسود.
وأدت أكبر حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية إلى تصاعد التوترات بين موسكو والغرب؛ إلى مستويات نادراً ما شوهدت حتى خلال أكثر لحظات الحرب الباردة اضطراباً.
تحذير نووي
وعندما استولى بوتين على شبه جزيرة القرم في عام 2014، قال إنه أقنع القادة الغربيين بالتراجع من خلال تذكيرهم بقدرات موسكو النووية، وهو تحذير كرره كثيراً، لا سيما بعد بدء غزوه واسع النطاق لأوكرانيا، وردده في خطاب حالة الأمة الشهر الماضي، عندما أعلن أن الغرب يخاطر بحرب نووية إذا عمق تدخله في أوكرانيا. وجدد التحذير الأربعاء الماضي، عندما قال إنه سيستخدم تلك الترسانة إذا تعرضت سيادة روسيا للتهديد.
وتقول المحللة السياسية، تاتيانا ستانوفايا، إن بوتين يشعر بثقة أكبر من أي وقت مضى، وسط "إيمان الكرملين المتزايد بالميزة العسكرية الروسية في الحرب مع أوكرانيا والشعور بضعف الغرب وتشرذمه".
وأشارت الزميلة البارزة في "مركز كارنيجي روسيا أوراسيا"، إلى أن خطاب بوتين الشهر الماضي "خلق انطباعاً مخيفاً للغاية عن دوامة تصعيد مستمرة".
ووصف الرئيس الروسي البالغ من العمر (71 عاماً) الحرب في أوكرانيا بأنها معركة حياة أو موت ضد الغرب، مؤكداً أن "موسكو مستعدة لحماية مكاسبها بأي ثمن".
واعتبرت الوكالة الأميركية أن ما وصفته بـ"هوس الرئيس الروسي بأوكرانيا"، كان واضحاً في مقابلة مع المذيع الأميركي المحافظ تاكر كارلسون، إذ استفاض بوتين في السعي لإثبات أن الجزء الأكبر من أراضي أوكرانيا ينتمي تاريخياً إلى روسيا.
وكان قد قدم هذه الحجة قبل 10 سنوات، عندما قال إن موسكو بحاجة إلى حماية الناطقين بالروسية في شبه جزيرة القرم واستعادة أراضيها.
وعندما أطيح بالرئيس الأوكراني الصديق للكرملين في عام 2014، بسبب احتجاجات حاشدة وصفتها موسكو بأنها انقلاب حرضت عليه الولايات المتحدة؛ رد بوتين بإرسال قوات لاجتياح شبه جزيرة القرم والدعوة إلى استفتاء على الانضمام إلى روسيا، وهو ما وصفه الغرب بأنه غير قانوني.
ثم ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في 18 مارس 2014، على الرغم من أن هذه الخطوة لم يتم الاعتراف بها دولياً إلا من قبل دول مثل كوريا الشمالية والسودان.
وبعد أسابيع، شن الانفصاليون المدعومون من موسكو انتفاضة في شرق أوكرانيا، وقاتلوا قوات كييف. ونفى الكرملين دعم التمرد بالقوات والأسلحة على الرغم من الأدلة الوفيرة على عكس ذلك، بما في ذلك ما توصلت إليه محكمة هولندية من أن نظام دفاع جوي زودته روسيا أسقط طائرة ركاب تابعة للخطوط الجوية الماليزية فوق شرق أوكرانيا في يوليو 2014، ما أسفر عن سقوط جميع من كانوا على متنها وعددهم 298 شخصاً.
وانتقد المتشددون الروس، بوتين، في وقت لاحق، لـ"فشله في السيطرة على كل أوكرانيا في ذلك العام"، قائلين إن ذلك "كان ممكناً بسهولة في وقت كانت فيه حكومة كييف وجيشها في حالة من الفوضى".
اتفاق مينسك
وبدلاً من ذلك، دعم بوتين الانفصاليين واختار اتفاق سلام لشرق أوكرانيا، كان يأمل أن يسمح لموسكو بفرض سيطرتها على جارتها. وألزم اتفاق مينسك لعام 2015، الذي توسطت فيه فرنسا وألمانيا في أعقاب الهزائم المؤلمة التي منيت بها القوات الأوكرانية، كييف بمنح المناطق الانفصالية حكماً ذاتياً واسعاً، بما في ذلك الإذن بتشكيل قوة شرطة خاصة بها.
ولو تم تنفيذه بالكامل، فإن الاتفاق كان سيسمح لموسكو باستخدام المناطق الانفصالية لفرض سياسات على كييف، ومنعها من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي للأبد. ورأى العديد من الأوكرانيين هذا الاتفاق كخيانة لمصالحهم الوطنية.
ونظرت روسيا إلى انتخاب السياسي المبتدئ آنذاك فولوديمير زيلينسكي رئيساً في عام 2019 كفرصة لإحياء صفقة مينسك الهزيلة. لكن زيلينسكي تمسك بموقفه، تاركاً الاتفاق متوقفاً، فيما كان بوتين غاضباً بشكل متزايد.
وعندما أعلن بوتين عن "عمليته العسكرية الخاصة" في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، كان يأمل أن تسقط البلاد بسرعة وسهولة مثل شبه جزيرة القرم. لكن محاولة الاستيلاء على كييف انهارت وسط مقاومة أوكرانية شديدة، مما أجبر القوات الروسية على الانسحاب من ضواحي العاصمة.
ولاحظ عباس جالياموف، محلل سياسي وكاتب خطابات سابق في الكرملين قبل مغادرته روسيا، أن ضم شبه الجزيرة بسرعة ودون أي دماء "كان غير متوقعاً" بالنسبة لبوتين، الذي اعتقد أن الغزو في عام 2022 "سيكون شيئاً مثل قصة القرم، إلا أنها ستكون على نطاق أوسع بكثير".
وتبع ذلك المزيد من الهزائم في خريف عام 2022، عندما انسحبت القوات الروسية من أجزاء كبيرة من شرق وجنوب أوكرانيا تحت هجوم مضاد سريع من قبل كييف.
وتغيرت المعادلة العام الماضي، عندما فشل هجوم مضاد أوكراني آخر في قطع الممر البري الروسي إلى شبه جزيرة القرم. وتكبدت قوات كييف خسائر فادحة عندما قامت بمحاولات فاشلة لاختراق الدفاعات الروسية المتعددة.
ومع تضاؤل الدعم الغربي لأوكرانيا، وسط الخلاف السياسي الداخلي في الولايات المتحدة ونقص الأسلحة والذخيرة في كييف، كثفت القوات الروسية الضغط على طول خط المواجهة الذي يزيد طوله عن 1000 كيلومتر، معتمدة على مئات الآلاف من الجنود المتطوعين والأسلحة التي تم توفيرها حديثاً والتي عوضت الخسائر المبكرة.
وبعد السيطرة على أفدييفكا، المعقل الشرقي الرئيسي الشهر الماضي، توغلت روسيا بشكل أعمق في منطقة دونيتسك، في الوقت الذي يناشد فيه زيلينسكي الغرب للحصول على المزيد من الأسلحة.
المساعدات الغربية
وشدد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، وليام بيرنز، في شهادته أمام مجلس الشيوخ الأسبوع الماضي، على الحاجة الملحة للمساعدات العسكرية الأميركية، قائلاً: "تقييمنا هو أنه من خلال المساعدة التكميلية، يمكن لأوكرانيا أن تصمد على الخطوط الأمامية حتى عام 2024 وحتى أوائل عام 2025".
وقال إنه بدون ذلك "من المرجح أن تفقد أوكرانيا أراض، وربما أراض كبيرة، في عام 2024".
ويرى محللون إن الدعم الغربي المتردد وضع أوكرانيا في موقف محفوف بالمخاطر على نحو متزايد.
وقال بن باري، وهو زميل بارز في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن: "تكتسب روسيا زخماً في هجومها على أوكرانيا وسط المساعدات الغربية المتعثرة، مما يجعل الأشهر المقبلة حاسمة لاتجاه الصراع. في أسوأ السيناريوهات، قد تتعرض أجزاء من خط الجبهة في كييف لخطر الانهيار".
وتحفظ بوتين عندما سُئل عن مدى التقدم داخل أوكرانيا الذي يرغب فيه، لكنه أعلن الاثنين بعد فوزه في الانتخابات، أن روسيا ستحاول إنشاء "منطقة عازلة" لدفع خط المواجهة بما يكفي لحماية الأراضي الروسية من الأسلحة بعيدة المدى في ترسانة أوكرانيا. لكن بعض مساعديه كانوا أقل تحفظاً، إذ وضعوا خططاً للاستيلاء على الأراضي الجديدة.
وأشار ديمDتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، الذي سعى إلى كسب ود بوتين بتصريحات عنيفة منتظمة، إلى كييف وميناء أوديسا على البحر الأسود.
وأعلن بصراحة مؤخراً أن "أوكرانيا هي روسيا"، مستبعداً أي محادثات مع حكومة زيلينسكي واقترح "صيغة سلام" من شأنها أن تشهد استسلام كييف وضم موسكو للبلاد بأكملها.
وينقسم محللو الدفاع الروس بشأن قدرة موسكو على الدفع بمثل هذه الأهداف الطموحة.
وقال سيرجي بوليتاييف، الخبير العسكري المقيم في موسكو، إن الجيش الروسي اختار استراتيجية استنزاف موارد أوكرانيا بهجمات على طول خط المواجهة، على أمل تحقيق نقطة تنهار فيها دفاعات كييف.
وقال: "ما يهم هو الضرر الذي يلحق بالعدو، مما يجعل العدو يضعف بشكل أسرع".
ويرى آخرون أن الهجمات الروسية التي تسعى إلى إنهاك الجيش الأوكراني مكلفة لموسكو أيضاً.
وقال رسلان بوخوف، رئيس مركز تحليل الاستراتيجيات والتقنيات البحثية، إن القوات الروسية والأوكرانية عالقة في طريق مسدود لا يمنح موسكو فرصة تذكر لتحقيق انفراجة.
وأضاف: "الدفاع الاوكراني قوي جداً، ولا يسمح للقوات الروسية بتحقيق أي شيء أكثر جوهرية من المكاسب التكتيكية".
وأضاف بوخوف أن حرب الاستنزاف هذه "يمكن أن تشن لسنوات"، إذ ينتظر كلا الطرفين أن يواجه الآخر "تغييرات داخلية تؤدي إلى تحول في السياسة".