دبي -الشرق
شهدت العلاقة المعقدة بين إسرائيل وإيران في الشرق الأوسط تحوّلات جذرية خلال 5 عقود. كانت الدولتان حليفتين وصديقتين يربطهما تعاون وعلاقات قوية على مستويات متعددة استمرت 30 عاماً؛ ولكن منذ انطلاق الثورة الإيرانية في عام 1979، أصبحت طهران وتل أبيب "ألد أعداء" على الرغم من أنهما لا يشتركان في أي حدود، ولا توجد بينهما أي نزاعات إقليمية مباشرة.
وشنت إيران هجوماً بمئات المسيرات والصواريخ على إسرائيل، مساء السبت إلى الأحد، رداً على استهداف قنصليتها في دمشق بقصف إسرائيلي، فيما يترقب العالم رد فعل تل أبيب على هذه الهجمات.
كيف بدأت العلاقات؟
قبل اندلاع الثورة الإسلامية في عام 1979، كانت العلاقات بين طهران وتل أبيب في ظل النظام الملكي وثيقة وسلمية، حتى أن البلدين دافعا عن بعضهما البعض سياسياً، على الرغم من أن إيران، عارضت في البداية تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، وعضويتها في الأمم المتحدة عام 1949.
وتحت قيادة الشاه محمد رضا بهلوي، اعترفت إيران بإسرائيل كدولة ذات سيادة في عام 1950. ومع ذلك، تباطأت العلاقات الثنائية بين البلدين في أوائل الخمسينيات. بعد انقلاب عام 1953 الذي دبرته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA والاستخبارات البريطانية MI6، استعاد الشاه السلطة وأصبح أقرب حليف للولايات المتحدة، وكذلك الصديق الرئيسي لإسرائيل في المنطقة.
ازدهر التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري بين البلدين مع تصاعد التوترات بين إسرائيل والدول العربية خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إذ تم افتتاح مدرسة للغة العبرية في طهران لأطفال الموظفين الإسرائيليين المتمركزين في إيران، كما تم تدشين رحلات جوية منتظمة تربط بين تل أبيب وطهران.
ويقول الباحث السياسي الأميركي إيان بريمر، رئيس ومؤسس مجموعة "أوراسيا" الاستشارية لتحليل المخاطر، في تقرير نشرته GZERO Media أن "المصالح المشتركة بين إسرائيل من جانب، وإيران وتركيا على الجانب الآخر، باعتبارهما دولتين غير عربية في المنطقة، أفضت إلى علاقات تجارية سرية، وبرنامج لتبادل المعلومات الاستخبارية أطلق عليه اسم (تحالف ترايدنت) في الفترة من عام 1956 إلى عام 1979"، مشيراً إلى أن الثورة الإيرانية أدت إلى "ظهور نظام في طهران مناهض بشدة للصهيونية".
وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل في عام 1948، عندما فر الكثير من اليهود من العراق للاستقرار في إسرائيل، كانت إيران بمثابة محطة على الطريق لأعداد كبيرة منهم بعد هروبهم.
وحتى بعد الثورة، عندما قطعت إيران فجأة علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، استمر التعاون العسكري لعدة سنوات، إذ لجأت إيران إلى إسرائيل لتسليحها خلال حربها مع العراق المجاور".
وشمل التعاون بين إسرائيل وإيران أيضاً مشروع "فلاور"، والذي بموجبه اشترت إيران تكنولوجيا الصواريخ من الإسرائيليين بعد أن اشترى العراقيون صواريخ سكود الباليستية، وفق مصادر إسرائيلية.
لماذا اشتعل التوتر بعد الثورة؟
في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979، التي أدت إلى قيام الجمهورية الإسلامية بقيادة الخميني، قطعت إيران علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل. وبرزت القيادة الإيرانية الجديدة، التي تغذيها المشاعر المعادية لإسرائيل ودعم حركات التحرير الفلسطينية، كخصم قوي لإسرائيل.
في غضون ذلك، أعلن الخميني تحويل مقر السفارة الإسرائيلية، التي أخليت حديثاً في طهران إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وأعلن عطلة سنوية جديدة هي يوم القدس، لإلهام المسلمين في جميع أنحاء العالم للاحتجاج ضد إسرائيل.
وفي هذا السياق، كتبت خبيرة شؤون الشرق الأوسط في مركز "بيركل" للعلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا، داليا داسا كاي، في كتاب صدر عام 2011 بعنوان "إسرائيل وإيران: خصومة خطيرة" أن "سياسة إيران الخارجية في مرحلة ما بعد الثورة كانت في البداية مفرطة في الحماس وأيديولوجية: كان مجرد وجود إسرائيل بمثابة إهانة للحماسة المناهضة للإمبريالية التي استحوذت على النفس الثورية الإيرانية".
في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ظل عداء طهران تجاه إسرائيل خطابياً إلى حد كبير. وكانت إيران تشير علناً إلى إسرائيل باسم الشيطان الأصغر، في حين كانت عبارة الشيطان الأكبر تشير إلى الولايات المتحدة.
كما رددت طهران تهديداتها بتدمير إسرائيل من أجل إنقاذ المواقع الإسلامية المقدسة مثل المسجد الأقصى، فيما تحاول تصوير نفسها باعتبارها داعماً رئيسياً للمقاومة الفلسطينية.
ومع ذلك، استمر التعاون المحدود بين إسرائيل وإيران حتى الثمانينيات. ولكن في وقت لاحق ظهر تنافس عدائي عندما قامت إيران ببناء وتمويل ميليشيات وكيلة وجماعات أخرى في سوريا والعراق ولبنان واليمن. نمت حرب الظل بين إيران وإسرائيل على مر السنين.
وانتهى المطاف بنظام الخميني إلى "شراء أسلحة بقيمة 500 مليون دولار من الحكومة الإسرائيلية خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات لوقف القوات العراقية الغازية"، حسبما ذكرت صحيفة "تليجراف" البريطانية.
ما هي "حرب الظل"؟
في غضون ذلك، كانت إيران تعمل على بناء جيش وصفته "تليجراف"، بأنه "قوات مقاتلة بالوكالة" على حدود إسرائيل، وهو ما يشكل سابقة رئيسية فيما أصبح فيما بعد "حرب الظل" التي استمرت لعقود.
ولعبت طهران دوراً أساسياً في المساعدة على تحويل جماعة "حزب الله" اللبنانية، إلى "قوة عسكرية كبيرة"، كما هو حالها اليوم.
كما "يسافر مقاتلو حزب الله إلى إيران منذ سنوات للتدريب، ومنحت طهران الجماعة نحو 700 مليون دولار نقداً وأسلحة في عام 2020 وحده"، وفق تقرير نشرته الخارجية الأميركية.
وبعد انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1993، استضافت إيران و"حزب الله" مقاتلين من حركة فلسطينية ناشئة آنذاك تسمى "حماس"، وعلموهم كيفية صناعة واستخدام القنابل الانتحارية، ثم نُقل هذا التكتيك إلى إسرائيل، واستخدم خلال الانتفاضة الثانية، التي اندلعت في 28 سبتمبر 2000، وتوقفت فعلياً في 8 فبراير 2005.
وقالت "تليجراف" إنه منذ ذلك الحين "يُعتقد أن إيران أرسلت عشرات الملايين من الدولارات إلى حماس، كما دعمت طهران حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، وجماعة الحوثيين (الموالية لها) في اليمن".
ولم تبدأ إسرائيل في النظر إلى إيران باعتبارها تشكل "تهديداً استراتيجياً" حتى وقت متأخر من التسعينيات. وفي إحدى المرات، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الحائز على جائزة نوبل للسلام، إسحاق رابين، إيران بأنها واحدة من "أفضل أصدقاء" إسرائيل؛ لكن في غضون سنوات قليلة غير لهجته، واصفاً الخميني بأنه يقود "نظاماً ظلامياً وقاتلاً".
وعلى الرغم من حقيقة أن الدولتين لا تشتركان في حدود، وتبعدان أكثر من 1000 ميل (نحو 1610 كيلومترات) عن بعضهما البعض، فإن مساعي إيران لحيازة أسلحة نووية، أججت بشكل واضح التوتر بين الجانبين.
لماذا تحاول إيران اللحاق بالركب النووي؟
ويعتقد على نطاق واسع، أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، على الرغم من أنها لم تعترف رسمياً بوجودها مطلقاً. ومنذ ذلك الحين، ظلت إيران تحاول اللحاق بالركب، على الرغم من إصرارها دائماً على أن برنامجها "مخصص لأغراض مدنية".
ظهر البرنامج النووي الإيراني لأول مرة في أوائل الألفية، عندما كشفت عدة جماعات إيرانية منشقة عن وجود موقع لتخصيب اليورانيوم، ومنشأة لإنتاج الماء الثقيل. وفي حين يمكن استخدام كليهما لتوليد الطاقة، إلا أنه يمكن أيضاً إعادة استخدامهما لصنع اليورانيوم والبلوتونيوم من الفئة المستخدمة في صنع الأسلحة، ما أثار شكوكاً في أن إيران كانت تحاول صنع قنبلة نووية.
وزادت الشكوك عندما أعلنت الإدارة الأميركية اكتشاف منشأة سرية ثانية تحت الأرض لتخصيب اليورانيوم.
وفي مؤشر واضح على ما تعتبره إسرائيل "تهديداً وجودياً"، نفذ عملاء يشتبه أنهم تابعون لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد"، سلسلة هجمات على علماء نوويين داخل إيران في أوائل عام 2010. وفي غضون عامين فقط، اغتيل خمسة علماء فيزياء بارزين بالرصاص، أو لقوا حتفهم في تفجيرات سيارات مفخخة.
وأشارت تقارير إلى أن إسرائيل طوّرت أيضاً فيروس حاسوب متقدم، تمكن من إتلاف أجهزة الطرد المركزي في إحدى منشآت التخصيب الإيرانية. ورداً على ذلك، استهدفت إيران عدة سفارات إسرائيلية في الخارج بسيارات مفخخة.
وبعد انتهاء حكم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، الذي دام ثماني سنوات في عام 2013، أبرمت إيران اتفاقاً نووياً تاريخياً مع الغرب في عام 2015، وافقت بموجبه على فرض قيود كبيرة على برنامجها النووي في مقابل تخفيف العقوبات، وسمحت لمراقبين دوليين بزيارة بعض، وليس كل، مواقع التخصيب لديها.
وانتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان حينها في الفترة الثانية من فتراته الثلاث كرئيس للوزراء، الاتفاق
وأعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في عام 2018، بدعوى فشله في الحد من برنامج الصواريخ الإيراني، ونفوذها الإقليمي. وبدأت طهران في تجاهل القيود المفروضة على برنامجها النووي بعد مرور عام.
كيف ردت إسرائيل؟
منذ ذلك الحين، يُعتقد أن إسرائيل واصلت تصفية كبار المسؤولين الإيرانيين. وعندما اغتالت الولايات المتحدة قائد فيلق "القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في غارة بمسيرة أميركية قرب مطار بغداد في العراق في يناير 2020، أفادت تقارير بأن ذلك حدث بمساعدة الاستخبارات الإسرائيلية.
وفي نوفمبر من نفس العام، اُغتيل العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده بمسدس يعمل بالتحكم عن بعد. وفي عام 2022، سقط 7 ضباط تابعين للحرس الثوري الإيراني، بينهم عقيدان، في حوادث منفصلة.
ومنذ 7 أكتوبر، عندما شنت "حماس" هجوماً غير مسبوق على جنوب إسرائيل، يشتبه بأن إسرائيل نفذت عشرات الضربات في سوريا لاستهداف كبار القادة والمسؤولين الإيرانيين، بما في ذلك رئيس مخابرات الحرس الثوري الإيراني في البلاد.
وفي شهر أبريل الجاري، استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق إثر هجوم نُسب إلى إسرائيل، وأسفر عن سقوط 7 من الحرس الثوري، بينهم القيادي البارز اللواء محمد رضا زاهدي، ونائبه، والعالم الآن بات ينتظر رد طهران، التي توعدت بالرد.
لكن ثمة مخاوف من أن يكون الهجوم على السفارة، مؤشراً على تحوّل في استراتيجية إسرائيل القديمة للتعامل مع إيران في "حرب منخفضة الشدة ومتكاملة ووقائية"، كما كتب يوسي ميكيلبيرج محلل شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس".
وكتب ميكيلبيرج محذراً: "ثمة خطر حقيقي من الحرب بسبب سوء التقدير، حيث يُنظر إلى كل تحرك من قبل أي جهات فاعلة معنية على أنه جزء من خطة كبيرة للقضاء على الجانب الآخر".
تصنيفات
