أصبحت المصارف الصينية في الأشهر الأخيرة أكثر حذراً في التعاملات التجارية مع روسيا خوفاً من فرض عقوبات أميركية صارمة جديدة على خلفية الحرب في أوكرانيا، ما يشكل اختباراً للصداقة "بلا حدود" بين البلدين.
وسجّلت التجارة بين الصين وروسيا مستويات قياسية في السنوات الأخيرة، ما تسبب للصين باتهامات بأنها تساهم في إنعاش اقتصاد موسكو، في حين أن من المقرر أن يزور الرئيس فلاديمير بوتين بكين في مايو.
لكنّ توعد واشنطن الأخير بملاحقة المؤسسات المالية، التي تساعد موسكو في تمويل حربها في أوكرانيا، شكّل اختباراً لصلابة العلاقة بين بكين وموسكو وجعل مصارف الصين تخشى التعرض للعزل.
ويتيح أمر تنفيذي، أصدره الرئيس جو بايدن في ديسمبر، فرض عقوبات ثانوية على المصارف الأجنبية التي تتعامل مع آلة الحرب الروسية، ما يسمح لوزارة الخزانة الأميركية باستبعادها من النظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار.
ومذاك، أوقف الكثير من المصارف الصينية التعاملات مع عملاء روس أو أبطأتها، وفق ما أفاد 8 أشخاص من البلدين.
وقال تاجر جملة صيني من أمام متجره الواقع في مركز تجاري كبير في وسط بكين هذا الأسبوع: "في الوقت الحالي، من الصعب إدخال أموال مصدرها روسيا".
وأوضح بينما كانت مجموعة من السياح الروس تتجوّل بين رفوف عرضت عليها أجهزة إلكترونية وحقائب جلدية وسلع أخرى "المصارف لا تعطي سبباً... لكن قد يكون ذلك عائداً إلى التهديد (بفرض عقوبات) من أميركا".
ويقول التجار إن المصارف تفرض ضوابط إضافية على التسديدات العابرة للحدود لتجنب التعرض لعقوبات، وهي عملية يمكن أن تستغرق أشهراً وقد أدت إلى زيادة التكاليف، ما أثار أزمات تدفق نقدي في شركات الاستيراد والتصدير الصغيرة.
وقال تاجر آخر، طالباً عدم كشف اسمه، إنهم اضطروا لوقف عملياتهم في الصين والعودة إلى روسيا لأنهم "لا يستطيعون الحصول على أي أموال من الزبائن".
ويتزامن ذلك مع تراجع الصادرات الصينية لروسيا خلال مارس وأبريل مقارنة بالارتفاع الذي شهدته مطلع العام.
وقال بافيل بازانوف، وهو محام يعمل لحساب شركات روسية في الصين: "رغم أن فرض العقوبات كان يهدف إلى عرقلة تصدير بعض السلع من الصين، كان لها بعض التأثير على التجارة العادية".
"السلامة أفضل من الندم"
وازدهرت التجارة بين الصين وروسيا منذ العملية لعسكرية الروسية في أوكرانيا وبلغت 240 مليار دولار عام 2023، وفق أرقام إدارة الجمارك في بكين.
لكن التقارير التي تفيد بأن الشركات الروسية تواجه صعوبة من أجل تسوية المدفوعات مع المصارف الصينية بدأت تنتشر في وسائل الإعلام الروسية مطلع العام.
وأقر الكرملين بهذا المشكلة في فبراير، وانتقد الناطق باسمه دميتري بيسكوف لاحقاً الضغوط الأميركية "غير المسبوقة" على الصين.
من جهتها، لم تعترف بكين بوجودها، لكنّ وزارة خارجيتها صرّحت بأنها تعارض "العقوبات الأميركية الأحادية الجانب وغير القانونية".
لكن في الكواليس، تعمل المصارف الصينية على ضمان ألا تصبح مستهدفة بالعقوبات وفق ما يقول محلّلون.
وقال ألكسندر جابويف، مدير مركز كارنيجي روسيا وأوراسيا في برلين: "معرفة ما إذا كانت المدفوعات مرتبطة بالمجمع الصناعي العسكري الروسي... يشكل تحدياً كبيراً للشركات والمصارف الصينية".
وأوضح أنها "تعمل وفق مبدأ الاحتراز أفضل من الندم، ما يقلل من حجم التعاملات".
إصلاح العلاقات
وتحدث الرئيس الصيني شي جين بينج ونظيره فلاديمير بوتين كثيراً عن الصداقة "غير المحدودة" بين بلديهما، فيما أعلن الرئيس الروسي خلال منتدى أعمال الشهر الماضي أنه سيقوم بزيارة للصين في مايو.
وقال وليام بوميرانز، من مركز ولسون، إن تباطؤ النمو المحلي في الصين أعطى حوافز لبكين كي لا تتسبب في مزيد من الضرر لاقتصادها.
وقال خبراء آخرون إن التدابير الجديدة للمصارف الصينية تعكس رغبة بكين في تصحيح علاقتها مع الولايات المتحدة قبل الانتخابات المقررة هذا العام.
وشهدت العلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم استقراراً في الأشهر الأخيرة بعد خلافات استمرت سنوات حول التجارة والتكنولوجيا ومجالات أخرى.
وقال رئيس معهد الشؤون الدولية في جامعة رنمين الصينية وانج ييوي إن المسؤولين الصينيين ربما وجهوا المصارف إلى التباطؤ في التعاملات المالية الروسية للتأكد من أنها لا تثير قضية خلافية تؤثر على الانتخابات الأميركية".
وقال الباحث في العلاقات الدولية شين دينجلي إن "الصين لن تكون غبية" لدرجة السماح لمصرف رئيسي بتمويل حرب روسيا. وأضاف: "لن تمنح الولايات المتحدة خيار فرض عقوبات كاملة".
أنظمة مالية مستقلة
وأوضح خبراء أن جزءاً من الحل قد يكون خطوة روجت لها دول حريصة على أن تكون بمنأى عن العقوبات الأميركية، وهي أنظمة مالية مستقلة عن الدولار الأميركي.
من جهتها، قالت ألكسندرا بروبوبنكو، المستشارة السابقة في البنك المركزي الروسي، إن انعطاف روسيا نحو آسيا في زمن الحرب أظهر "حسن سير نظام للتعاملات العابرة للحدود بالعملتين الوطنيتين (اليوان والروبل)".
وأضافت أن النظام يسمح للمصارف بتخطي الأنظمة المالية التقليدية مثل نظام سويفت، ما يحميها من تأثير العقوبات.
وأشارت إلى أن مواطن الخلل الحالية في آليات الدفع هذه تظهر أن هذا النهج "ليس الحل"، مضيفة: "لكن موسكو وبكين تعرفان جيداً طريقة تكييف العمليات مع بيئة دائمة التغير".