تثير الوفاة المفاجئة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أسئلة معقدة بشأن مستقبل أقوى منصب في البلاد، وهو منصب "المرشد الأعلى"، الذي يشغله حالياً علي خامنئي، إذ كان ينظر على نطاق واسع إلى رئيسي باعتباره المرشح الأوفر حظاً ليحل محل الحاكم الفعلي لإيران.
وجاءت وفاة رئيسي لتبعثر أوراق تحضير مرحلة ما بعد خامنئي ومنصب المرشد المقبل، باعتبار أن رئيسي كان أبرز وأهمّ المرشحين لخلافة المرشد الحالي، بوصفه "مقرباً من الحرس الثوري"، و "رجل دين" يحظى بقبول نخب الحكم والأجهزة النافذة في إيران.
ويخدم المرشد الأعلى الإيراني مدى الحياة، وهو أعلى سلطة دينية وسياسية في الجمهورية. وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ويشرف على المؤسسات الرئيسية الأخرى مثل السلطة القضائية ووسائل الإعلام الحكومية. ويشرف أيضاً على مجلس صيانة الدستور، الذي يتمتع بسلطة فحص المرشحين للانتخابات ونقض التشريعات البرلمانية. وبهذه الصفة، يكون للمرشد الأعلى الكلمة الأخيرة في السياسة الخارجية ومختلف مجالات السياسة الداخلية.
وقبل وفاته، كان ينظر إلى رئيسي على أنه المرشح الأوفر حظاً لخلافة "المرشد"، فصعوده المفاجئ برعاية خامنئي خلال 8 سنوات، كان يدل على هذا الاتجاه وهذه الرغبة، إذ عين في مؤسسة العتبة الرضوية في 2015 ثم رئيساً للقضاء. وترشح للرئاسة وخسر أول معركة انتخابية أمام حسن روحاني في 2017، لكن سرعان ما مُهدت له الساحة بإبعاد وتحييد منافسيه، كي يفوز بالرئاسة في 2021، بحيث سلك طريق خامنئي عندما انتقل من الرئاسة في 1981 إلى منصب "المرشد" في عام 1989.
وإلى جانب رئيسي، ترددت لسنوات تكهنات بأن نجل المرشد الأعلى الإيراني هو المرشح المحتمل لخلافة والده. وتزايدت هذه التكهنات مع وفاة رئيسي.
ويثير تدهور صحة المرشد الأعلى، الذي يبلغ من العمر 85 عاماً، تساؤلات بشأن العواقب السياسية لوفاته أو احتمال تنحيه. وكانت صحة خامنئي موضع شك منذ عام 2007، عندما اختفى مؤقتاً عن أعين الناس. وظهرت أخبار في وقت لاحق أنه أجرى عملية روتينية لا تستدعي القلق.
وقال خبراء في الشأن الإيراني في تصريحات لـ"الشرق"، إنه على الرغم من المخاوف بشأن صحة خامنئي، فإنه لا يزال مسيطراً بقوة، وأن وفاة رئيسي لن تؤثر على المسار الطبيعي لاختيار خلف المرشد الأعلى، فيما تسلط الأضواء أكثر على نجله.
"ولاية الفقيه والقرب من الحرس"
ينظم الدستور الإيراني عملية اختيار المرشد، وأشار إلى الصفات والمؤهلات التي ينبغي توفرها في المرشد؛ فنصت (المادة 5) في الدستور الإيراني على أنه: "تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمر العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير".
ومنذ الثورة الإسلامية في إيران 1979، ظلت السلطة محتكرة في يد الخميني حتى وفاته في عام 1989، حيث منح مجلس الخبراء التفويض على الفور لخامنئي، على الرغم من أن كبار رجال الدين رفضوا ذلك آنذاك، بمبرر أنه لم يكن يحظى بمنصب كبير بما يكفي لتولي هذه المسؤولية.
وينص الدستور الإيراني، على بقاء المرشد في منصبه حتى وفاته، ولا يمكن عزله إلا من قبل المجلس ذاته في حال ثبوت عدم كفاءته.
وتحدد المادة رقم 110 من الدستور الإيراني وظائف وصلاحيات المرشد الأعلى في: رسم السياسات العامة لنظام الجمهورية، والإشراف على حسن تنفيذ السياسات العامة للنظام، وإصدار الأمر بالاستفتاء العام، وقيادة القوات المسلحة، وإعلان الحرب والسلام، وتوقيع مرسوم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب.
وعلى المستوى الديني، فإنه يعين أئمة وخطباء الجمعة في كافة المحافظات الإيرانية، ومن حقه أيضاً أن يمنع الصلوات ويغلق المساجد، ويعطل الفرائض إذا اقتضت المصلحة ذلك.
وعند شغور منصب القائد، بسبب عجز ألم به وحال بينه وبين أداء وظائفه الدستورية أو بسبب فقده أحد الشروط المذكورة في المادتين 5 و109، تنص المادة 111 على أنه يُعزل عن منصبه، عن طريق مجلس الخبراء. أما إذا شغر المنصب بسبب وفاة أو استقالة أو عزل، فيتولى أعضاء مجلس الخبراء تعيين القائد الجديد، وإعلان ذلك في أسرع وقت ممكن.
نفوذ الحرس الثوري
وفي حديث مع "الشرق"، يشير جعفر بوزميطة، أستاذ الإعلام السياسي في معهد باريس للعلوم السياسية، أن المرشح المقبل لمنصب المرشد الأعلى "يجب أن يكون مقرباً من الحوزة العلمية والمؤسسة العسكرية والأمنية النافذة، خصوصاً الحرس الثوري، الذي سيكون له الكلمة الفصل في عملية الاختيار".
ومن المتوقع أن تمارس مؤسسات أخرى، بما في ذلك الحكومة والسلطة القضائية والبرلمان، نفوذها في عملية الاختيار. لكن من المتوقع أن يتمتع الحرس الثوري، باعتباره المؤسسة الأساسية والأقوى، بأعلى مستوى من التأثير في هذه العملية.
وقد نما تأثير قوة الحرس على مدى العقد الماضي، حيث ينظر إليها الكثيرون ليس فقط كقوة عسكرية تابعة لخامنئي، بل أيضاً القوة الدافعة وراء الأولويات الاقتصادية والعسكرية للنظام.
وشدد بوزميطة في حديث مع "الشرق"، على أن "فرض الحرس الثوري لرؤيته في اختيار خليفة للمرشد الأعلى، يأتي من عدة أسباب، أبرزها، الحفاظ على المدى الأصولي المتشدد، الذي استبعد جميع المصلحين والوجوه الإصلاحية من هرم السلطة ومن المنافسة على المناصب الحيوية"، مضيفاً أن "المرشد المقبل يجب أن تتوفر فيه الكفاءة الدينية، وأن يكون مجتهداً ومعترفاً به من قبل الأوساط العلمية"
نهاية "جيل المؤسسين"
وأفاد بأن تحديد خليفة للمرشد الحالي، هو "بداية النهاية لجيل المؤسسين"، معتبراً أن طهران أمام "تحدي جديد يصعب فيه الإجماع على شخص واحد"، وأضاف أن المرشد المقبل "يجب أن تكون له اجتهادات ورؤى سياسية مرتبطة بالواقع المعيشي للمجتمع الديني وله علاقة وثيقة مع الحرس الثوري".
وبعدما أشار إلى أن رئيسي كان يتمتع بكل هذه الصفات، أشار بوزميطة، إلى أن "المرشح المقبل يجب أن يحظى بالإجماع، وقد يكون ذلك مستحيلاً بالنظر إلى ما شهدته المؤسسات السياسية في البلاد من انقسام بين المصلحيين والأصوليين"، وقال: "يجب أن يكون قادراً على السيطرة وحائز على صفة المجدد والمجتهد علمياً ودينياً".
وأكد أستاذ الإعلام السياسي في معهد باريس للعلوم السياسية، أن "المرشح المقبل، لن يكون خارج المجموعة المحافظة، وذلك لضمان المصالح الشخصية، والحفاظ على (التوجه الثوري للدولة)".
شكوك بشأن مجتبى خامنئي
منذ أن أطاحت ثورة عام 1979 بالشاه محمد رضا بهلوي، أصبحت مجموعة صغيرة من رجال الدين الشيعة الذين يديرون إيران يتمتعون بسلطة أكبر بكثير من المسؤولين المنتخبين. لكن المبدأ الأساسي للجمهورية هو إنهاء الحكم الوراثي.
وفي نظر جيسون برودسكي، مدير السياسات في مركز أبحاث "متحدون ضد إيران النووية"، فإن "وفاة رئيسي، الذي كان مرشحاً قوياً لخلافة خامنئي، لن تغير أساس سياسات الجمهورية الإيرانية، التي يحددها حصراً المرشد الأعلى، فهو صانع القرار الاستراتيجي، بينما الرئيس هو مجرد منفذ".
وفي المقابل، يرى برودسكي في حديثه مع "الشرق"، أن "وفاة رئيسي ستؤثر لا محال على ظروف اختيار المرشد الأعلى المقبل، فقد كان مرشحاً بقوة لهذا المنصب"، باعتباره "مجتهداً"، ونظراً لأن "رئيسي كان يتمتع بخبرة ذاتية كبيرة في النظام"، فإن وفاته "تفتح المجال أمام المرشحين الذين كانوا يعتبرون من الصف الثاني قبل وفاته".
وتوقع الباحث الأميركي، أن يدير خامنئي الانتخابات الرئاسية بشكل صارم، "لأنه من المهم بالنسبة له تحديد من هو الرئيس؛ لأنه منصب حساس وسط انتقال حتمي للقيادة إذ يبلغ خامنئي 85 عاماً".
وفي شهر مارس، انتخب الإيرانيون، مجلساً جديداً للخبراء، وهو عبارة عن دائرة تتألف من حوالي 90 من كبار رجال الدين الذين تشمل واجباتهم تعيين مرشد أعلى جديد. ويتوقع كثيرون أن يكون هذا المجلس، خلال فترة ولايته البالغة ثماني سنوات، هو من يتولى اتخاذ هذا القرار المصيري.
و"حرص وسطاء السلطة في النظام، على ضمان أن يكون مجلس خبراء القيادة مليئاً برجال الدين المتشددين، بدلاً من المعتدلين أو الإصلاحيين، وهي الخطوة الأخيرة في مشروع دام سنوات لهندسة انتقال مستقر يسمح للنظام بالاستمرار على نفس المنوال"، حسبما ترى صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية.
ومن بين المرشحين البارزين، مجتبى خامنئي، الذي يقوم بالتدريس في أكبر مدرسة دينية في إيران، في مدينة قم، لكن زعماء دينيين آخرين شككوا في مؤهلاته. إذ لم يصل إلى مرتبة عالية داخل التسلسل الهرمي الديني الشيعي، وهو الأمر الذي اُعتبر منذ فترة طويلة ضرورياً لتولي دور المرشد الأعلى.
وأشار محمد رضا مدرسي يزدي، عضو مجلس الفقه التابع لمجلس صيانة الدستور في إيران، إلى أن 37 عضواً في المجلس الجديد هم من الوافدين الجدد، بما في ذلك رجال الدين الشباب الذين تشكلت أيديولوجياتهم خلال فترة ولاية علي خامنئي، مما يشير إلى توافق محتمل مع رؤية مجتبى خامنئي، وفق موقع iranwire. وقد تم استبعاد شخصيات بارزة مثل مصطفى بور محمدي ومحمود علوي.
ويستبعد المحلل الأميركي جيسون برودسكي في حديثه مع "الشرق"، أن يحل مجتبى مكان والده على رأس الجمهورية الإسلامية، نظراً لـ"سجله الوحشي وصراعه مع الأجهزة الأمنية، إذ كان مسؤولاً عن العديد من الانتهاكات، بما في ذلك هندسة الانتخابات والملاحقة العدوانية للمعارضين السياسيين. فهو يتمتع بسجل مظلم، وينبغي لصناع السياسات في طهران أن يخططوا لهذا الاحتمال".
كما لا يتوقع بوزميطة، ترشيح مجتبى لخلافة والده، لسبب مرتبط أساساً بالمذهب الشيعي، والذي لا يوجد فيه مبدأ التوريث، وقال إن "النظام الإسلامي في إيران قام على أنقاض النظام الملكي الذي يُورّث، وبالتالي المسألة ليست مطروحة تاريخياً، كما أن هناك تسريبات تشير إلى أن المرشد الحالي (خامنئي) قام بشطب اسم نجله من القائمة التي قدمت إليه، وهو يمانع تولي ابنه لهذا المنصب خشية التوريث".
واعتبر بوزميطة أستاذ الإعلام السياسي بمعهد باريس، أن ترشح نجل المرشد الأعلى الحالي، "إخفاق إيديولوجي وسياسي لمبادئ الثورة الإيرانية، بالنظر إلى أنه لا يتمتع بعلاقات وثيقة مع الجماعات الحوزية، ولا يملك رؤية سياسية كاملة".
تداخل الديني والسياسي
منذ الثورة الإيرانية في عام 1979، ظل هناك زعيمان في الدولة، المرشد الأول الخميني، الذي حكم في الفترة من 1979 إلى 1989، وعلي خامنئي، الذي خلفه.
وبينما وصل الخميني، إلى السلطة كرجل دين وزعيم في فبراير 1979، فإنه لم يتم إنشاء منصب المرشد الأعلى رسمياً إلا بعد الموافقة على الدستور من خلال استفتاء في ديسمبر من العام ذاته. وكان مستوحى من مفهوم الخميني لولاية الفقيه، أو فرضية أن يشرف أحد كبار رجال الدين، على الدولة "إرساءً للشريعة الإسلامية"، حسبما ترى النخبة الحاكمة في إيران.
ويتولى مجلس الخبراء عملية انتخاب المرشد الأعلى. ومع ذلك، كما هو الحال مع المؤسسات الأخرى، فإن المرشد الأعلى هو الذي يمارس السلطة في نهاية المطاف على المجلس وليس العكس.
وفي حين يصعب التنبؤ بالنتائج السياسية في الجمهورية الإيرانية، فإن عملية الخلافة تقع إلى حد كبير في يد المرشد الأعلى وتخضع لتقديره. وكما كان الحال في عام 1989، فسوف تمليها أو تحددها تفضيلات خامنئي السياسية والشخصية، وليس المبادئ الدينية والأيديولوجية، وفق مجلة the conversation البحثية الأميركية.
ويمثل المرشد الأعلى، اليد العليا داخل النظام، لذلك فمن المرجح أن يتضمن اختيار خليفته بعض التشاور والتوافق مع المحافظين. وسيكون القيام بذلك ضرورياً لخوض عملية انتقالية أصبحت أكثر حساسية بعد وفاة الرئيس المحافظ والوريث المحتمل.
الأكاديمي السعودي أحمد القرني، نائب رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، اعتبر في حديثه مع "الشرق"، أن وفاة رئيسي المفاجئة "جاءت لتخلط أوراق ما بعد خامنئي ومنصب المرشد المقبل. وقد كان رئيسي أبرز وأهمّ المرشحين لخلافة المرشد الحالي علي خامنئي".
وحسبما يرى القرني، فإن رحيل إبراهيم رئيسي، "لم يؤدِ وحسب إلى فراغ المقعد الرئاسي، بل شكل تحدياً كبيراً للمرشد الذي كان يعده لخلافته".
لكنه أشار إلى أنه "من المرجح أن ينجح النظام الإيراني في تجاوز أزمة الفراغ السياسي الذي خلفه رحيل إبراهيم رئيسي، غير أن التحدي الأكبر يكمن في موضوع خلافة خامنئي، حيث كانت مختلف القراءات تجمع على أن رئيسي هو الشخص الأوفر حظاً لشغل هذا المنصب وبكل تأكيد أحدث غيابه على هذا المستوى فراغاً يصعب ملؤه".
ملامح انقسام تسبق التوافق على المرشحين
ويشير القرني إلى أن وفاة رئيسي، "زادت من احتمالية خلافة مجتبى خامنئي لوالده، لكن خامنئي نفسه أبدى قبل أشهر قليلة موقفه الرافض لتوريث المنصب".
وأضاف القرني في حديثه مع "الشرق"، أن "هناك شخصيات أخرى تتطلع لهذا المنصب كرئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، صادق آملي لاريجاني، والرئيس السابق حسن روحاني، لكن حظوظهما تبقى شبه معدومة؛ نظراً لرفضهما من قبل المتشددين في النظام الإيراني".
وعلى الرغم من أن الوقت لا يزال مبكراً للحديث عن الخليفة المحتمل للمرشد بعد وفاة رئيسي، إلا أن التكهنات تحدثت عن شخصيات عدة أبرزها محسن أراكي، وعلی رضا أعرافي ومحمد مهدي مير باقري.
كما شدد الباحث الأميركي برودسكي، على أن "التلفزيون الحكومي لم يُظهر الرؤساء السابقين للجمهورية في جنازة رئيسي". ويشير ذلك، بحسب وصفه، إلى "بعض الانقسام في النخبة السياسية. لكن الأمر لم يصل إلى مرحلة يهدد فيها استقرار النظام على المدى القريب".