"معركة الكابلات".. الصراع بين روسيا و"الناتو" ينتقل إلى قاع البحار

"الحلف" يعمل على إنشاء نظام إنذار ضخم لحماية البنية التحتية البحرية في شمال أوروبا

time reading iconدقائق القراءة - 12
غواصة أميركية خلال تمرين في الدائرة القطبية الشمالية. 19 مارس 2016 - www.defense.gov
غواصة أميركية خلال تمرين في الدائرة القطبية الشمالية. 19 مارس 2016 - www.defense.gov
دبي-الشرق

لا يوجد سوى كابلين فقط يربطان أرخبيل سفالبارد النائي في القطب الشمالي بالبر الرئيسي للنرويج، واللذان يوفران تقريباً جميع البيانات المأخوذة من الأقمار الاصطناعية، التي تدور في المدار القطبي إلى بقية دول العالم. ومنذ عامين، توقف الكابلان عن العمل بصورة شبه كاملة. 

وتُظهر الصور التي نشرتها الشرطة النرويجية في أواخر مايو، حجم الدمار الكارثي الذي لحق بأحد كابلات الألياف الضوئية، حيث انفتح الغلاف البلاستيكي، وانكشف الكابل وبرزت السلوك وكأنها "سلك كهربائي معيب".  

ويُعد الحادث "اللغز" الذي وقع في يناير 2022، وأدّى إلى قطع تدفق البيانات من الأقمار الاصطناعية SvalSat، وتقييد حركة المرور الجوي إلى الأرخبيل، بمثابة "قصة تحذيرية بشأن ما يمكن أن يحدث عند قطع الكابلات البحرية"، التي تدعم معظم شبكة الاتصالات العالمية، وفق مجلة "فورين بوليسي".  

وفعل الحوثيون الشيء نفسه في وقت سابق من هذا العام، عندما استهدفوا "عنق الزجاجة الرئيسي" بين آسيا وإفريقيا وأوروبا، بعد التهديد بالقيام بذلك رداً على الحرب الإسرائيلية على غزة.

ولا يقتصر التهديد على منطقة أو منطقتين، حيث يعتقد مسؤولو حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أن روسيا لديها "برنامج ممتد لعقود لرسم خريطة للبنية التحتية الأوروبية تحت البحر كجزء من جهودها لإعداد ميدان المعركة لصراع محتمل ضد التحالف" المؤلف من 32 دولة، حسبما أوردت المجلة الأميركية.  

"تدمير البنية البحرية الأوروبية"

وكشفت "فورين بوليسي"، أن الأمر لن يكلف الروس جهوداً مضنية للحصول على المعلومات التي يحتاجون إليها لإلحاق الضرر بالبنية التحتية البحرية الأوروبية، حيث يتم تشغيل معظم خطوط الأنابيب من قبل شركات المرافق، وتتوافر كثير من البيانات المتعلقة بمواضع تشغيل الكابلات في المجال العام بسبب متطلبات الترخيص.

في المقابل، يمتلك الناتو الآن مجموعة لتنسيق البنية التحتية البحرية، والتي تجمع بين مسؤولين عسكريين ومدنيين، ولديها سلطة الاجتماع بكبار ممثلي القطاع الخاص من خارج القيادة البحرية للحلف في ضاحية نورثوود بلندن.  

وقال مسؤول رفيع في الناتو لمجلة "فورين بوليسي"، شريطة عدم الكشف عن هويته، عن تبادل المعلومات والمعلومات الاستخباراتية إن "المسألة برمتها تتعلق بربط جميع النقاط وإنشاء شبكة".  

ويتمثل هذا الجهد الطموح وفق المسؤولين، في محاولة "استخدام القوة الحاسوبية لحماية شبكة الكابلات البحرية الواسعة التي تدعم معظم الاقتصاد العالمي".  

فمن خلال الاعتماد على البيانات المستقاة من واجهات البرامج وشركات تشغيل الكابلات وخطوط الأنابيب، يعمل الحلفاء في الناتو جنباً إلى جنب مع القطاع الخاص لإنشاء "نظام إنذار ضخم يمتد لآلاف الأميال لحماية البنية التحتية البحرية في شمال أوروبا"، ويعتمد على "أجهزة استشعار مرتبطة بالكابلات"، إلى جانب أجهزة "استشعار صوتية مرتبطة بتوربينات الرياح"، يمكن استخدامها للكشف عن أي خروقات.    

وأعرب أودون هالفورسين، مدير قسم الطوارئ بالجمعية النرويجية لمالكي السفن، والنائب السابق لوزير خارجية النرويج، عن اعتقاده بأن "عمليات الناتو لا تزال في مرحلة مبكرة للغاية"، مضيفاً أن هذه العمليات تحاول بالأساس "رسم خريطة للمشهد العام عندما يتعلق الأمر بالسلطات القضائية والسلطات المعنية، حيث أنك تواجه جهات تنظيمية مختلفة في هذه الصناعة". 

"استراتيجية قطع الكابلات"

وأشارت "فورين بوليسي" إلى أن استراتيجية قطع الكابلات "قديمة قدم الحرب الحديثة"، حيث بدأت بريطانيا قطع الكابلات الألمانية الممتدة تحت البحر في مطلع الحرب العالمية الأولى لتخريب الاتصالات قبل أن يرد الألمان الصاع صاعين.

وعندما بدأ مد كابلات التليفونات في خمسينيات القرن الماضي، خلال الأيام الأولى من الحرب الباردة، دمرت سفن الصيد السوفيتية الكابلات الممتدة تحت المياه بالقرب من ساحل نيوفاوندلاند. وتمتلك الولايات المتحدة بمفردها أكثر من 40 ألف ميل بحري من الكابلات النشطة في قاع البحر.  

ولكن مع استخدام كابلات الألياف الضوئية لدعم الاتصالات والتجارة العالمية في عصر الإنترنت، تتزايد نقاط الضعف في قاع البحر.

فشبكة خط الأنابيب النرويجية الممتدة تحت البحر توفر نحو 40% من إمدادات الغاز الطبيعي في أوروبا، حيث تعبر خطوط الأنابيب بحر الشمال إلى المملكة المتحدة وسائر أنحاء القارة الأوروبية، إلى جانب نحو 500 كابل اتصالات تمتد تحت الماء لتحمل ما يقرب من 97% من حركة الإنترنت العالمية، ويمتد بعضها عبر المحيط الأطلسي، بقيمة تصل إلى 10 تريليونات دولار من المعاملات المالية على أساس يومي.

وقال سيباستيان بيرنز، الخبير البحري في مركز الاستراتيجية والأمن البحري بمعهد السياسة الأمنية التابع لجامعة كيل في ألمانيا لـ "فورين بوليسي" إن "هذه الطريقة أقل ديناميكية، فضلاً عن أنها أكثر مناسبة للروس ليظهروا للغرب أنه يواجه تحدياً كبيراً في تأمين تلك البنية التحتية لأنهم سيتعاملون مع الوصلات التي تربط مجتمعاتنا".

ويتعرض نحو 100 كابل من هذه الكابلات للقطع في جميع أنحاء العالم كل عام، معظمها بطريق المصادفة، ومن المستحيل حماية كل تلك البنية التحتية إلّا عن طريق إضافة المزيد من كابلات البيانات الزائدة عن الحاجة.

ودفع القلق على البنية التحتية بحلف "الناتو" إلى بذل هذه الجهود، والتي بدأت بعد هجمات سبتمبر 2022 على خطوط أنابيب نورد ستريم1 و2 التي تنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا.

وعلى الرغم من أن الكثير من البيانات المتعلقة بأماكن وجود هذه الكابلات متاحة، إلّا أن البيانات الخاصة بالاستشعار، والتي يمكن أن تحدد ما إذا كانت الوصلة معرضة لخطر القطع من عدمه، يتم إرسالها إلى مستوى أقل بكثير من المستوى الوطني، ما يعني أنها تُحفظ داخل الشركات نفسها. وتمتلك الولايات المتحدة وحدها 85 محطة هبوط مرخصة للاتصالات تحت سطح البحر.

بينما يأخذ الكثير من مالكي خطوط الأنابيب في الاعتبار مخاطر التآكل والحوداث المحتملة، يبقى عامل التخريب أقل شيوعا.

"تكتيكات روسيا الهجينة"

ويعتقد بعض الخبراء أنه بإمكان مجموعات أصغر من الدول التحرك بسرعة أكبر من الناتو لحماية الكابلات. ففي أبريل، وافقت النرويج و5 دول أخرى مطلة على بحر الشمال، وهي بلجيكا والدنمارك وهولندا وألمانيا وبريطانيا، على "مشاركة معلومات عملياتية" لحماية الكابلات وخطوط الأنابيب الممتدة تحت البحر من عمليات التخريب.  

ومؤخراً اجتمع مجلس دول البلطيق في فنلندا لإدانة "التكتيكات الروسية الهجينة"، والتي تتمثل في حوادث التخريب دون مستوى الحرب المعلنة، بما في ذلك تهديد الكابلات البحرية.   

وبالفعل، تهاجم روسيا دول الشمال بوسائل أخرى. فمنذ انضمام فنلندا إلى الناتو في عام 2023، أرسلت روسيا موجات من المهاجرين القسريين إلى الحدود المشتركة بينها وبين فنلندا، والتي تمتد على مسافة 830 ميلاً، ما اضطر هلسنكي إلى إغلاق جميع معابرها.

واقترحت روسيا إعادة ترسيم الحدود في بحر البلطيق، واستهدفت السويد بهجمات سيبرانية، وأزالت العوامات التي وضعتها إستونيا في نهر نارفا لتحديد حدودها البحرية.

وقال نائب الأدميرال ديدييه ماليتير، نائب قائد القيادة البحرية لحلف الناتو، في أبريل، إن "اقتصادنا الموجود تحت سطح البحر معرض للتهديد".

ويزيد برنامج الغواصات الروسي، الذي عاود الظهور منذ غزو أوكرانيا في عام 2022، والذي يعمل من شبه جزيرة كولا، من حدة التهديدات.

ولكن يمكن أن يتسبب سحب المرساة غير المقصود من السفن التجارية أيضاً في إثارة المشكلات، فقد أبحرت السفينة NewNew Polar Bear التي ترفع علم هونج كونج وتشغلها الصين، والتي يُشتبه في أنها ألحقت أضراراً بخط أنابيب الغاز Balticconnector الممتد بين فنلندا وإستونيا في أكتوبر 2023، بطول بحر الشمال تحت حماية كاسحة الجليد الروسية.    

وفي مواجهة جميع التحديات الأخرى، مثل تقلص القوات البحرية وعودة القرصنة، واستئناف الهجوم في البحر الأحمر، أصبح هذا الجانب من الاقتصاد الأوروبي المطمور تحت البحر مكشوفاً.  

وقال المسؤولون إن استخدام روسيا للشبكات الإجرامية والمدنية، التي يتم استخدامها أيضا لتكوين شبكات نفوذ في البر الرئيسي الأوروبي، يجعل من الصعب للغاية إلصاق كل هذه التكتيكات، بما في ذلك تخريب خطوط الأنابيب الممتدة تحت البحر، بالكرملين.  

فعلى سبيل المثال تُجري روسيا دراساتها المسحية لقاع بحر البلطيق عن طريق سفن ذات أغراض علمية في الظاهر.  

وقال برونز، الخبير البحري، لـ "فورين بوليسي": "ما زلنا عالقين في تقسيم العمل إلى عسكري مقابل مدني، في حين أن الروس أكثر دهاء حيث يستخدمون السفن المدنية لأغراض عسكرية"، مضيفاً أنه "علينا أن نجد حلاً لذلك".

"الاستعانة بالذكاء الاصطناعي" 

وتتم الاستعانة بالذكاء الاصطناعي أيضاً لرسم خريطة لقاع البحر، نظراً لأن فهم العلماء له "ما زال قاصراً"، ما يوفر طريقة محتملة أخرى لرصد مخربي الكابلات الروس المحتملين.  

وتفكر بعض دول "الناتو" وشركات التشغيل في دفن خطوط الأنابيب في قاع البحر، خاصة في بحر البلطيق، حيث لا يتجاوز متوسط العمق 200 قدم. وتمثل هذه المنهجية بالفعل ممارسة معيارية بالقرب من معظم الخطوط الساحلية الأوروبية، لأنها تساعد في الحماية من سفن الصيد القاعية ومراسي السفن.  

وبعد حادثة خط أنابيب Balticconnector التي وقعت في الخريف الماضي، بدأت النرويج في إجراء "مسح شامل" لبنيتها التحتية البحرية، بدءاً من النفط والغاز قبل التفرع إلى رسم خريطة لأجزاء من شبكة الكهرباء وكابلات الاتصالات التي تعمل تحت الماء. وتمكنت السلطات من تفتيش ما يقرب من 5600 ميلاً من خطوط أنابيب النفط والغاز.

وقال الجنرال إريك كريستوفرسن، وزير الدفاع النرويجي، لـ"فورين بوليسي": "لقد قمنا بتفتيش كل شيء"، مضيفاً: "وكلما وجدنا شيئاً ما، استعنا بخبرائنا العسكريين للتعرف عليه ولمعرفة ما إذا كان تم وضعه في ذلك المكان، أم أنه يعود إلى الحرب العالمية الثانية، أم أنه شيء أسقطه الصيادون".

وأشار هالفورسن، مدير قسم الطوارئ بالجمعية النرويجية لمالكي السفن، إلى أن القدرة على إجراء هذه البحوث المفصلة إنما تنبع من "البنية التحتية للقطاع الخاص"،إذ تمتلك صناعة الطاقة النرويجية بالفعل آليات استعداد جاهزة للمساعدة في حماية وإصلاح البنية التحتية لخطوط الأنابيب وكابلات الكهرباء الممتدة تحت البحر، والتي تضطلع بتنسيقها شركة التشغيل النرويجية Equinor.

وأعرب هالفورسن عن اعتقاده بأن هذا النموذج "يبشر بالخير" فيما يتعلق بكابلات الاتصالات أيضاً". ولكن في معظم أنحاء الناتو لا تزال هذه القدرة محدودة.

وقال هالفورسن إن "الحكومة لا تمتلك أي قدرة على بحث أو إصلاح أو صيانة أو استبدال أي جزء من هذه البنية التحتية"، مضيفاً أن "كل هذه القدرة والإمكانية يملكها قطاع الصناعة المدنية. ومن ثم فإنه لحماية هذا النوع من البنية التحتية البحرية يتعين أن يكون لديك نوع من التفاعل التشغيلي بين الحكومة وقطاع الصناعة".

تصنيفات

قصص قد تهمك