تحولت ولايات الغرب الأوسط الأميركي في السنوات الأخيرة إلى صانعة الانتصار والخسارة في الانتخابات الرئاسية. وهذا العام، تشير التقديرات إلى أن الولايات التنافسية بالمنطقة ستحسم ما إذا كان الرئيس السابق دونالد ترمب سيعود إلى البيت الأبيض، أم أن المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس ستصنع التاريخ، لتصبح أول امرأة تتولى الرئاسة في تاريخ البلاد.
ويتعلق الأمر بولايات ميشيجان ويسكونسن بالإضافة إلى بنسلفانيا، التي يضعها الخبراء الاستراتيجيون ضمن ولايات الغرب الأوسط الأميركي نظراً للتشابه في الخصائص الانتخابية.
صوتت هذه الولايات الصناعية بفارق ضئيل لصالح ترمب في انتخابات عام 2016، ما منحه فوزاً مفاجئاً على المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، بعدما كانت ولايات ديمقراطية صلبة تُسمى بولايات "الجدار الأزرق"، إذ لم يفز فيها أي مرشح جمهوري للرئاسة منذ عام 1992. تلك الولايات ذاتها لعبت دوراً محورياً في خسارة ترمب انتخابات عام 2020، وسلّمت لخصمه الديمقراطي جو بايدن مفاتيح البيت الأبيض.
خلال انتخابات هذا العام ستكون ولايات الغرب الأوسط الأميركي عاملاً حاسماً في السباق الرئاسي، بحسب جيمس زغبي، الخبير في استطلاعات الرأي.
وأوضح زغبي لـ"الشرق"، أنه "إذا خسرت كمالا هاريس ولايات ميشيجان، وويسكونسن، وبنسلفانيا، فسيكون من الصعب للغاية، بل ومن المستحيل في واقع الأمر، أن نتخيل سيناريو آخر يمكنها من الفوز بالرئاسة".
ما سبب ثقل هذه الولايات؟
الثقل الكبير لهذه الولايات في تحديد نتائج الانتخابات الرئاسية يعود أساساً لنظام الانتخابات الأميركية، الذي يعتمد على "المجمع الانتخابي". وفق هذا النظام، لا يكون الفائز هو من حصل على أكبر عدد من أصوات الناخبين الأميركيين، بل الفائز هو من يحصل على أكبر عدد من من أصوات المجمع الانتخابي.
ويتكون المجمع الانتخابي من 538 مندوباً، مقسمين على الولايات الـ50 حسب كثافتها السكانية. وحين يفوز مرشح في ولاية ما، فإنه يحصل على أصوات هؤلاء المندوبين. ويحتاج المرشح إلى نيل أغلبية 270 صوتاً من المجمع الانتخابي للظفر بالرئاسة.
ولأن معظم الولايات الأميركية منقسمة بشكل متوازن بين ولايات تصوت عادة للديمقراطيين وأخرى تمنح أصواتها تقليدياً للجمهوريين، فإن الولايات التي تخلق الفارق هي التي تتأرجح بين التصويت للديمقراطيين والجمهوريين، مثل ويسكونسن وميشيجان وبنسلفانيا في الغرب الأوسط الأميركي، وهو ما يعطيها ثقلاً كبيراً في الانتخابات.
أوضح كالفين دارك، وهو مستشار استراتيجي ديمقراطي، هذه الديناميكية لـ"الشرق"، قائلاً: "السبب في أهمية الغرب الأوسط الآن يعود إلى سببين. الأول هو ما حدث في الولايات المتحدة حيث يميل الناس إلى العيش بالقرب من أشخاص يشاركونهم نفس التفكير. وبالتالي، يميل الناس في المناطق الريفية إلى أن يكونوا محافظين، ما يعني أنهم أكثر انحيازاً للحزب الجمهوري. أما المناطق الحضرية فهي أكثر ميلاً للديمقراطيين. السبب في أن ولايات الغرب الأوسط مهمة هو أنها لا تزال تمثل خليطاً من الجمهوريين والديمقراطيين، والمناطق الحضرية والمناطق الريفية. وبسبب تقارب النتائج الانتخابية، فإنها ستكون أكثر أهمية".
وتتميز منطقة الغرب الأوسط بمزيج بين المراكز الحضرية الكبرى والمساحات الريفية في الضواحي بالإضافة إلى تنوع إثني، ما يجعل منها نموذجاً مصغراً لأميركا، بحسب "وول ستريت جورنال".
وتظهر في هذه الرقعة الجغرافية الفوارق الاقتصادية والسياسية والثقافية وسط السكان بشكل أكثر حدة. هذا المزيج الفريد حول المنطقة إلى ساحة معركة الحسم في الانتخابات، حيث لا يتمتع أي من الحزبين بأغلبية حاسمة من الناخبين، ويحدد الفائز فيها غالباً بفارق ضئيل، وهو ما يعطي كل صوت بهذه الولايات أهمية بالغة.
ومن بين الولايات الثلاث المتأرجحة بالمنطقة، يتوقع أن تكون ميشيجان الأكثر تنافسية خلال الانتخابات الرئاسية هذا العام، بحسب كيث ناهيجيان، المستشار الاستراتيجي الجمهوري الذي عمل مع فريق ترمب الانتقالي في عام 2017.
وأوضح ناهيجيان لـ"الشرق" أن هذه الولاية تضم "مجموعات سكانية مختلفة مستقطبين سياسياً، من المرجح أن تخلق أصواتاً قليلة الفارق".
الغرب الأوسط مُمثل في البيت الأبيض
وبغض النظر عن الفائز في الانتخابات الحالية، فإن منطقة الغرب الأوسط ستكون ممثلة في البيت الأبيض بعدما اختار كل من ترمب وهاريس مرشيحهما لمنصب نائب الرئيس من المنطقة، فيما وصفت وسائل الإعلام الأميركية الاختيار على أنه تنافس بين المرشحين على استمالة أصوات ناخبي هذه الرقعة الجغرافية الواسعة.
ووقع اختيار ترمب على عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، السيناتور جي دي فانس لمنصب نائب الرئيس، أملاً في مساعدته على كسب أصوات الطبقة العاملة والمزارعين في بنسلفانيا وميشيجان وويسكونسن، بحسب ما كتب الرئيس السابق على منصة "تروث سوشيال".
فيما راهنت هاريس على حاكم ولاية مينيسوتا تيم والز ليكون المرشح لمنصب نائب الرئيس، أملاً في أن يساعدها على كسب تأييد ناخبي الطبقة الوسطى والريف، بعدما أثبت قدرته على استمالة أصوات الجمهوريين في ولاية مينيسوتا.
واعتبر كالفين دارك أن اختيار نائب الرئيس من ولايات غير متأرجحة في الغرب الأوسط كان محسوباً من قبل ترمب وهاريس.
وقال المستشار الاستراتيجي إن "التاريخ أثبت أن اختيار نائب الرئيس من ولايات متأرجحة لا يكون دائماً ناجحاً. ولكن السبب الذي دفع الديمقراطيين لاختيار والز والجمهوريين لفانس هو قدرتهم على التحدث إلى الناخبين بالولايات المتأرجحة القريبة منهما في الغرب الأوسط. فالأمر لا يتعلق بالولاية التي يمثلونها، بل بالثقافة التي يمثلونها. ولايات الغرب الأوسط لديها ثقافة مشتركة، وفانس ووالز يعرفان كيفية التحدث إلى الناخبين في هذه الولايات المتأرجحة، وهذا أمر حاسم".
ويأمل ترمب في أن يساعده فانس على تعزيز جاذبيته بين الناخبين البيض من الطبقة العاملة الذين كانوا مفتاح نجاحه في انتخابات 2016. وأصبح فانس، الذي اشتهر بمذكراته "مرثية هيلبيلي"، رمزاً للصمود وقصة نجاح في منطقة الغرب الأوسط.
أما مرشح هاريس، فهو شخصية تجسد البراغماتية وقيم الطبقة العاملة لسكان الغرب الأوسط، ما قد يساعده على كسب أصوات هذه الفئة في ولاية مثل ويسكونسن، بحسب كالفين دارك.
غير أن كيث ناهيجيان يرى أن فانس ووالز من غير المرجح أن يكون لهما تأثير على الناخبين بالمنطقة. وقال المستشار الاستراتيجي الجمهوري، إن الناخبين عادة "يصوتون للرئيس وليس لنائب الرئيس. لكن نائبي الرئيس يمكن أن يساعدا في إيصال الرسالة السياسية للناخبين بتلك المناطق بشكل فعال".
وأضاف ناهيجيا: "يمكن لفانس أن يكون له تأثير محدود في مناطق مثل ميشيجان وويسكونسن، مقارنة بمرشح آخر لا ينحدر من منطقة الغرب الأوسط".
الاقتصاد يُحرك أصوات "حزام الصدأ"
بالنسبة لناخبي الغرب الأوسط الأميركي تظل القضايا الاقتصادية في صدارة اهتمامات المنطقة التي تعرف أيضاً بــ"حزام الصدأ" نسبة لتآكل قاعدتها الصناعية على مدى العقود الماضية، ما أدى إلى حالة من القلق الاقتصادي والشعور بالإهمال من قبل النخب السياسية، وهو الأمر الذي جعل الغرب الأوسط أرضاً خصبة للرسائل الشعبوية من كلا الحزبين.
وجعل تيم والز من حقوق العمال ودعم النقابات العمالية ركائز أساسية لحملة هاريس بالمنطقة، ففي تجمع انتخابي بولاية ميشيجان مطلع أغسطس، قال والز: "نعلم أن النقابات هي التي بنت الطبقة الوسطى. وعلى باقي أميركا أن تتبع هذا الطريق". وتجد هذه الرسالة صدى لدى الناخبين الذين يرون في النقابات العمالية قوة حيوية لحماية مصالحهم الاقتصادية.
في المقابل، ركز جي دي فانس على القضايا الاقتصادية التقليدية مثل وظائف التصنيع، والتجارة، وأزمة المواد الأفيونية. وتهدف رسالته، التي تسلط الضوء على تأثير العولمة على الغرب الأوسط، حيث تُركت أعداد كبيرة من المصانع مهجورة تتآكل بسبب الصدأ، وفُقدت مئات الآلاف من الوظائف الصناعية بعد انتقال تلك المصانع إلى أسواق عمالة أرخص في المكسيك والصين.
ويأمل فانس من خلال هذه الرسالة إلى استمالة الناخبين الذين يشعرون بأنه تم تهميشهم في ظل الاقتصاد الحديث. وقال أمام تجمع انتخابي في بنسلفانيا هذا الشهر: "ما يمثله تيم والز وكمالا هاريس هو تكرار لفشل القيادة على مدى 30 عاماً في هذا البلد، إذ لم نصنع ما يكفي من منتجاتنا الخاصة، ولم نستخدم عمّالنا بشكل كافٍ".
وأشار المستشار الاستراتيجي الديمقراطي كالفين دارك إلى أن تركيز حملة هاريس على النقابات يعتبر ورقة حاسمة لإظهار تميزها عن ترمب، قائلاً إن تيم والز "لديه تاريخ في مساندة نقابات العمال ورفع الأجور، فيما كان ترمب يتحدث خلال حواره الأخير مع إيلون ماسك عن طرد العمال الذين يريدون الانضمام إلى النقابات".
في المقابل، يرى كيث ناهيجيان أن ترمب يمتلك ميزة على هاريس فيما يتعلق بالاقتصاد تتمثل في أن المرشحة الديمقراطية تحاول الآن أخذ مسافة عن سياسة بايدن الاقتصادية، فيما كانت تصرح أمام الإعلام حتى وقت قريب بأن اقتصاد بايدن ناجح.
ولفت المستشار الاستراتيجي الجمهوري إلى أن ترمب يحاول تحقيق أقصى استفادة من نقاط ضعف هاريس، غير أنه شدد على ضرورة أن يتفادى الرئيس السابق الاعتماد بشكل أساسي على إنجازاته خلال ولايته الأولى.
وقال لـ"الشرق"، إن "الناخبين يعطون أصواتهم دائماً للشخص الذي يقدم رؤية مستقبلية متفائلة".
إلى جانب الملفات الاقتصادية، تلعب القضايا الثقافية دوراً مهماً في تشكيل اختيارات الناخبين بالغرب الأوسط. وخلق الجدل المستمر بشأن حقوق الإجهاض، وتنظيم امتلاك الأسلحة مزيداً من الانقسامات وسط الناخبين.
ونجح الجمهوريون في تصوير الديمقراطيين على أنهم حزب النخب، بعيدون عن قيم الأمريكيين العاديين، خاصة في المناطق الريفية، بحسب الخبير في استطلاعات الرأي جيمس زغبي.
وزاد التعقيد السياسي بمنطقة الغرب الأوسط الأميركي بسبب ما يُعرف بـ"الفجوة التعليمية"، حيث يُنظر بشكل متزايد إلى الديمقراطيين على أنهم حزب الناخبين المتعلمين تعليماً عالياً، في حين أن الجمهوريين يركزون على الناخبين البيض من الطبقة العاملة وغير المتعلمين تعليماً جامعياً.
ويرى الخبير في استطلاعات الرأي إلى أن هذه العوامل تفرض تحديات بالنسبة للديمقراطيين لنيل أصوات الناخبين في ضواحي المنطقة.
الزخم مع هاريس
ومنذ تأمينها بطاقة الترشح عن الحزب الديمقراطي عقب انحساب الرئيس جو بايدن في يوليو الماضي، شهدت حملة هاريس زخماً انعكس إيجاباً على استطلاعات الرأي في الولايات الرئيسية بالغرب الأوسط.
وتتقدم نائبة الرئيس على الرئيس السابق بـ4 نقاط مئوية في ولايات ويسكونسن وبنسلفانيا وميشيجان، وذلك وفق عينة من 1973 ناخباً محتملاً في الولايات الثلاث، وفق استطلاعات رأي جديدة أجرتها صحيفة "نيويورك تايمز" وكلية سيينا.
ومع ذلك، حذر خبير استطلاعات الرأي جيمس زغبي من أن الاستطلاعات تعكس فقط اللحظة الراهنة، وليس تحولاً مستداماً قد يستمر حتى يوم الاقتراع.
وقال زغبي لـ"الشرق"، إن كل المؤشرات الحالية هي "مؤقتة"، موضحاً أنها "مرشحة جديدة ومرشحها لمنصب الرئيس وجه جديد أيضاً. كما أن الحملات الانتخابية لم تصل بعد سرعتها القصوى في هذه الولايات المتأرجحة".
وتساءل قائلاً: "السؤال هو، هل ستوسع هاريس هذا التقدم؟ هل ستجعله مستدماً بحيث تجذب هؤلاء الناخبين إلى صفها بشكل نهائي، أم أن الأمور قد تتغير مع اقتراب يوم الاقتراع؟".
من جهته، كان المستشار الاستراتيجي الجمهوري كيث ناهيجيان، أكثر تشككاً في الاستطلاعات خلال هذه المرحلة من الحملة. وقال: "بصراحة. أنصح برمي كل تلك الاستطلاعات في القمامة. أي استطلاع يُجرى في منتصف أغسطس ليس له قيمة. البيانات ليست موثوقة لأن الناس لا يكونون في روتينهم المعتاد. الأرقام التي ستهم حقاً هي تلك التي ستظهر بعد المؤتمرات الحزبية والمناظرات الرئاسية".
الحرب في غزة
وتواجه طموحات كمالا هاريس بالفوز في ولاية ميشيجان بعقبات كبيرة، بسبب الغضب وسط الجالية العربية والمسلمة بالولاية من موقف واشنطن من الحرب في غزة.
وأكد المستشار الاستراتيجي الجمهوري كيث ناهيجيان أن حملة هاريس تواجه معضلة دقيقة قائلاً: "إذا لم يدعم المجتمع العربي الأميركي كمالا هاريس بسبب سياساتها تجاه غزة، وتوقفت نسبة منه عن التصويت لها، فإن ذلك قد يحدث فرقاً كبيراً في الولاية. ولكن في الوقت نفسه، هناك مجتمع يهودي في هذه الولايات المتأرجحة. فإذا لم يعجبهم موقف هاريس من غزة وتوقفوا عن التصويت، فقد يحدث ذلك فرقاً أيضاً".
من جانبه، أقر المستشار الاستراتيجي الديمقراطي كالفين دارك بأن أي تحول بسيط وسط الناخبين العرب الديمقراطيين في ميشيجان قد يخلق الفارق. غير أنه لفت إلى أن هاريس تملك فرصة من أجل الحفاظ على أصوات الناخبين العرب دون خسارة الناخبين اليهود والمؤيدين لإسرائيل، عكس الرئيس جو بايدن.
وأوضح دارك أنه "عكس بايدن، أعطت هاريس إشارات للجالية العربية أنها منفتحة على الاستماع إليهم والتقت مع قيادات المجتمع العربي والمسلم في ميشيجان لسماع آرائهم. وهذا سيشجعهم على التصويت لها، حتى وإن خرجت بتصريحات تقول فيها إنها لن تحظر بيع الأسلحة لإسرائيل. لأن هؤلاء الناخبين يعلمون أن هاريس لن تستطيع الفوز في الانتخابات، في حال خسرت تأييد مناصري إسرائيل".