مع احتدام السباق الرئاسي في الولايات المتحدة بين المرشح الجمهوري دونالد ترمب، ومنافسته الديمقراطية كامالا هاريس، تجري أو أجْرت العديد من الدول انتخابات محورية في عام 2024، إذ أن أكثر من 70 بلداً، أي موطن نحو نصف سكان العالم، قد اختاروا أو سيختارون قريباً قادتهم وممثليهم عبر صناديق الاقتراع، ما يجعله عام الانتخابات بامتياز، وفقاً لبيانات المؤسسة الدولية للنظم الانتخابية IFES.
وهنا يبرز تساؤل مهم، كيف يختار الناخب مرشحه المفضل؟ ولفهم سلوك التصويت، يدرس الباحثون مشاعر الناخبين وكيفية تفاعلها مع الترتيبات الانتخابية والوظائف المعقدة التي تخدمها الانتخابات.
ومن خلال هذا الفهم، يمكن تحسين عملية التصويت عبر "إرجونومية الانتخابات"، وهي تصميم للترتيبات الانتخابية التي تأخذ في الاعتبار جميع الجوانب الجسدية والعقلية للناخبين.
وفي عام 2016، وقع زلزالان في الغرب (استفتاء، وانتخابات)، فالأول تَمثّل في انتصار معسكر "بريكست" في الاستفتاء الذي أُجري خلال يونيو منذ ذات العام بشأن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، والثاني حدث بانتصار دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر من العام ذاته، وبدا أن كلا النتيجتين تتناقضان مع توقعات استطلاعات الرأي.
وأثارت التوترات العاطفية التي رافقت كلا التصويتين تساؤلات بشأن المشاعر التي تغيرت داخل الناخبين و"السياسة الوطنية" بشكل أعمق، ما أدى إلى نتائج ظنّ كثيرون أنها مستحيلة.
ويبدو أن هذه الانتخابات كشفت عن تفاعل جديد بين المشاعر الوطنية والأنظمة الانتخابية، وهو ما يتطلب إعادة التفكير في كيفية تصميم العملية الانتخابية بما يراعي تأثير المشاعر على قرارات الناخبين.
وبحسب دراسة نُشرت في دورية "نيتشر هيومان بهيفير" Nature Human Behaviour، لا يتصرف الناخبون بناء على الحقائق فقط، بل يتأثرون أيضاً بمشاعرهم مثل الخوف، أو الغضب، أو التفاؤل، التي قد تدفعهم إلى اتخاذ قرارات غير متوقعة.
كما تلعب وسائل الإعلام الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي، دوراً كبيراً في تغذية هذه المشاعر وتوجيهها، ما يؤثر في النهاية على نتائج الانتخابات.
وتقول الدراسة إن "إرجونومية الانتخابات" يمكن أن تكون الحل الأمثل لتصحيح مسار العملية الانتخابية، فمن خلالها يمكن تصميم أنظمة انتخابية تراعي الضغوط النفسية التي يتعرّض لها الناخب، وتوفر بيئة أكثر هدوءاً واتزاناً للتصويت، وهو ما يضمن أن القرار يتم اتخاذه بناء على دراسة أكثر تعمقاً ووعياً.
الاستقطاب في الولايات المتحدة
يشهد الوضع السياسي في الولايات المتحدة مستويات غير مسبوقة من الاستقطاب، إذ تتشكل مواقف الناخبين بناء على معتقدات قوية بشأن المرشحين، تتراوح بين النظر إليهم كمنقذين للمجتمع، أو كمن سيجلبون دماراً شاملاً.
ويوفر هذا الاستقطاب فرصة مثيرة لدراسة كيفية تأثير هذه المعتقدات على أفكار الناس ومشاعرهم وسلوكياتهم، واستناداً إلى دراسة استكشافية حللت ردود فعل الناس العاطفية المتوقعة والحقيقية عقب انتخابات الرئاسة 2020 في الولايات المتحدة، إذ يوضح الباحثون الدور الذي تلعبه المشاعر في اختيار المرشحين.
وخلال انتخابات 2020 بين الرئيس السابق دونالد ترمب ومنافسه آنذاك جو بايدن الذي بات الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة، أصبح من الواضح أن المعتقدات بشأن تأثير المرشحين على مستقبل البلاد لعبت دوراً محورياً في تشكيل التوقعات العاطفية للناخبين.
وبحسب دراسة نُشرت بمجموعة "تايلور آند فرانسيس" Taylor & Francis Online تنقسم هذه المعتقدات بشكل أساسي إلى نوعين: المرشح المنقذ، إذ يعتقد العديد من أنصاره أنه سيكون المنقذ الذي سيعيد ترتيب المجتمع، ويحافظ على مصالحه، وهنالك المرشح المدمر، إذ كان هناك اعتقاد لدى آخرين بأن المنافس سيجلب الدمار الاجتماعي والسياسي.
وأظهرت الدراسة أن المعتقدات القوية عن المرشحين ترتبط بتنبؤات عاطفية بشأن نتائج الانتخابات، إذ توقّع المشاركون مشاعرهم المستقبلية في حالة فوز مرشحهم أو انتصار المرشح الآخر.
كما أظهرت البيانات أن مؤيدي ترمب كانوا أكثر ارتباطاً بمشاعر السعادة المتوقعة بناء على اعتقادهم بأنه سينقذ المجتمع، وفي المقابل، كانت مشاعر الغضب والخوف لدى مؤيدي بايدن أكثر ارتباطاً باعتقادهم أن المرشح الجمهوري سيدمر المجتمع.
ولم تتوقف تأثيرات هذه التوقعات العاطفية عند المشاعر فقط، بل امتدت إلى السلوك الانتخابي، فكان لدى الناخبين الذين توقّعوا مشاعر سلبية إذا فاز المرشح المنافس حافز أكبر للتوجه للتصويت.
وظهر هذا بشكل أوضح بين أنصار بايدن الذين كانت توقعاتهم بشأن مشاعر الغضب والخوف من فوز ترمب أكثر تأثيراً في دفعهم إلى التصويت مقارنة بأنصار ترمب. وبذلك، لعبت التوقعات العاطفية دوراً محفزاً على السلوك الانتخابي.
ورغم قوة التنبؤات العاطفية، أظهرت الدراسة أن المشاركين غالباً ما توقّعوا مشاعر أقوى مما شعروا به في الواقع بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات.
وعلى الرغم من هذا الاتجاه العام، فإن الأشخاص الذين كانت لديهم معتقدات قوية عن المرشحين كانوا أكثر عُرْضة لتجربة مشاعر حقيقية تتطابق مع توقعاتهم، وبعبارة أخرى، كان من يعتقدون بأن المرشح سيُحدث تأثيراً كبيراً، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، هم الأكثر عُرضة للشعور بالسعادة أو الغضب بعد الانتخابات مقارنة بتوقعاتهم.
لكن، هل الأمر بهذه السهولة؟ وهل يمكن التنبؤ بنتيجة الانتخابات عن طريق التنبؤ العاطفي؟ وما الذي يؤثر في مشاعر البشر المتعلقة بالانتخابات؟
غالباً ما تشير وسائل الإعلام إلى أن الناس لا يهتمون بالانتخابات، وأن العديد منهم يعزفون عن التصويت بسبب عدم الاهتمام، ولكن في الواقع، تُظهر الدراسات أن الانتخابات تُمثّل لحظات مليئة بالعواطف لكثير من الناس.
وفي العديد من الانتخابات، نجد أن 20% إلى 30% من الناخبين يتخذون قراراتهم، أو يغيّرونها في غضون أسبوع من التصويت، ونصفهم تقريباً يفعل هذا في يوم الانتخابات نفسه، وهذا الرقم تم تأكيده مرة أخرى خلال استفتاء "بريكست".
ودفعت هذه الدراسات الباحثين للتفكير بعمق أكبر في العوامل التي تخل بالنماذج المعروفة لاتخاذ القرارات الانتخابية، لفهم التفاعل بين مشاعر الناخبين مع التصميم المؤسسي للعملية الانتخابية، سواء كانت ترتيبات مراكز الاقتراع، أو التصويت من المنزل، أو حتى تصميم بطاقات الاقتراع.
وفي أعقاب استفتاء "بريكست" أظهرت دراسة عن المشاعر التي شعر بها المواطنون البريطانيون عند اكتشافهم للنتيجة، أن 32% من المستجيبين أقرّوا بأنهم كانوا على وشك البكاء عند إعلان النتيجة، وارتفعت هذه النسبة إلى 46% بين الفئة العمرية من 18 إلى 24 عاماً، ويعكس هذا مدى عمق العواطف المرتبطة بالفعل الانتخابي.
وغالباً ما يكون التعبير عن هذه المشاعر إيجابياً، فعند سؤال الشباب عن شعورهم أثناء التصويت، كانت الإجابات الأكثر شيوعاً هي أنهم يشعرون بأنهم جزء من مجتمعهم، وبمسؤولية أكبر تجاه المستقبل، إلى جانب مشاعر الفخر والسعادة والحماس.
وعلى الرغم من الاعتقاد السائد بأن الشباب لا يكترثون للعملية الانتخابية، أثبتوا أنهم يهتمون بما يكفي للتصويت في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي بشكل أكبر من الانتخابات العامة.
ومع ذلك، ليست كل المشاعر المرتبطة بالتصويت إيجابية، إذ يمكن أن يرتبط التصويت أيضاً بمشاعر سلبية ذات تأثيرات طويلة الأمد. وأفاد 51% من المشاركين في الدراسة بأنهم شعروا بالغضب تجاه من صوّتوا بشكل مختلف عنهم، بينما شعر 46% منهم ببعض الاشمئزاز.
وأظهرت الدراسة أيضاً أن الناخبين المعارضين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً الشباب، تخيلوا أن حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ستتأثر بشكل كبير في حالة التصويت لصالح الخروج.
وعلى سبيل المثال، رأى 15% من الناخبين أنهم سيكونون أكثر قدرة على شراء منزل إذا انتصرت حملة "البقاء" مقارنة بحملة "الخروج"، فيما كان 14% أكثر عُرضة للتفكير في الانتقال إلى الخارج.
ولفهم هذه المشاعر بشكل أفضل، من الضروري دراسة العوامل التي تجعل الناخبين أكثر عُرضة لتجربة هذه المشاعر، سواء كانت متعلقة بخصائصهم الشخصية أو بتفاعلهم مع العملية الانتخابية، إذ أن فهم كيفية إثارة هذه المشاعر الإيجابية أو السلبية له تأثير كبير على العملية الديمقراطية المتمثلة في التصويت.
وعلى سبيل المثال، فإن الشعور بالانتماء للمجتمع قد يؤدي إلى قبول أكبر للنتائج الانتخابية واحترام أكبر للنظام المدني.
وفي المقابل، قد يؤدي الشعور بالكراهية أو الاشمئزاز تجاه الطرف الآخر إلى تعميق الانقسامات المجتمعية، وهو ما حدث بعد استفتاء "بريكست" وانتخابات الرئاسة الأميركية 2016، إذ لم يعد الكثيرون يوجهون غضبهم نحو السياسيين فقط، بل تجاه الناخبين الذين صوّتوا بشكل مختلف عنهم، وتجلى هذا في الاحتجاجات في بريطانيا والولايات المتحدة، لا سيما من قِبَل الشباب الذين اعتقدوا أن النتائج تعكس انقسامات جيلية لا يمكن إصلاحها.
الترتيبات الانتخابية وسلوك الناخبين
تشمل الترتيبات الانتخابية مجموعة من العوامل، بدءاً من الموقع الذي يتم فيه التصويت، سواء كان في مراكز اقتراع أو عبر البريد أو الإنترنت، إلى تصميم بطاقات الاقتراع نفسها.
وتؤثر هذه العوامل على سلوك الناخبين بطرق معقدة، فعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسات أن التصويت في أماكن ذات دلالة رمزية، مثل الكنائس، يمكن أن يؤثر على قرارات الناخبين، إذ يجعلهم أكثر ميلاً إلى التصويت لصالح المرشحين المحافظين مقارنة بالتصويت في المدارس.
ومن ناحية أخرى، أثبتت الدراسات أيضاً أن طريقة التصويت يمكن أن تؤثر على الفئة العمرية.
وفي الانتخابات العامة بالمملكة المتحدة عام 2010، كان الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً أكثر ميلاً للتصويت للأحزاب اليمينية المتطرفة عندما يصوتون عبر البريد مقارنة بالتصويت في مراكز الاقتراع، وهذا السلوك قد يكون بسبب شعورهم بقدر أكبر من المسؤولية والواجب عند التصويت شخصياً في مراكز الاقتراع.
كما أن التجربة العاطفية التي يشعر بها الناخبون أثناء الانتخابات يمكن أن تؤثر بشكل كبير على قراراتهم وسلوكياتهم.
وأظهرت دراسات متعددة أن العواطف، مثل الفخر، أو السعادة، أو الغضب، يمكن أن تحفّز الناخبين على المشاركة بشكل أكبر، بينما قد تؤدي مشاعر الاشمئزاز أو الكراهية تجاه الطرف الآخر إلى خلْق استقطاب طويل الأمد بين الناخبين، ما يساهم في زيادة الفجوة السياسية بين الأطراف المختلفة.
وتُعتبر دراسة تأثير العواطف والتفاعل مع الترتيبات الانتخابية من التحديات الكبيرة في العلوم الاجتماعية، إذ تعتمد الكثير من الدراسات على الأدوات التقليدية مثل الاستطلاعات والمقابلات، لكنها قد لا تكون كافية لفهم الجوانب الديناميكية والمعقدة وغير الواعية للناخبين.
لذلك، وعلى الرغم من قوة هذه الأدوات، إلا أن هناك حاجة إلى تطوير طرق جديدة لدراسة هذه الظواهر، مثل استخدام تجارب سلوكية مبتكرة تعتمد على التحليل البيولوجي والعاطفي.
ومن بين الابتكارات التي ظهرت مؤخراً، استخدام تجارب تعتمد على تحليل مستوى الكورتيزول، وهو هرمون يرتبط بالتوتر، لدى الأشخاص الذين قاموا للتو بالتصويت، كما تم استخدام تقنيات تحليل الحركات والإشارات غير اللفظية لدراسة مشاعر الناخبين أثناء عملية التصويت.
هل المشاعر كافية للتنبؤ بنتيجة الانتخابات؟
يقول أستاذ العلوم الاجتماعية والإحصاء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا جوناثان كاتز، في تصريحات لموقع المعهد، إن الانتخابات الرئاسية من أصعب الفعاليات السياسية التي يمكن التنبؤ بنتائجها بدقة، فالتحديات التي تواجه استطلاعات الرأي والمحللين لا تتعلق فقط بتعقيد العملية الانتخابية، بل بالعديد من العوامل المتغيرة التي تجعل من الصعب تحديد الصورة الكاملة حتى يوم الانتخابات.
وأحد أكبر التحديات التي تواجه الباحثين الإحصائيين هو تحديد الفئة المستهدفة في الاستطلاعات، فعلى عكس الإحصاءات السكانية التي يمكن الاعتماد فيها على التعدادات الرسمية، ليس هناك "تعداد" رسمي للناخبين، أو بمعنى آخر، ليس جميع المواطنين يصوتون، كما أن نسبة الإقبال على التصويت تختلف بين دورة انتخابية وأخرى.
كما أن العديد من استطلاعات الرأي تعتمد على قوائم الناخبين المسجلين، وهي قوائم تضم الأشخاص الذين يحق لهم التصويت، ولكن لا يشاركون جميعهم في الاقتراع، وهو أمر يضع الباحثين في موقف يتطلب بناء نماذج إحصائية تساعد في التنبؤ بمن سيصوت فعلاً، وتؤدي الاختلافات في هذه النماذج بين المحللين إلى نتائج متباينة، إذ تختلف الافتراضات بين نموذج وآخر.
فيما تُمثّل استطلاعات الرأي "لقطة مؤقتة" للرأي العام في وقت معين، لكنها لا تعكس بالضرورة ما سيحدث في يوم الانتخابات، فالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد تتغير بسرعة، ما يؤدي إلى تقلبات في آراء الناخبين، وكلما زاد الفارق الزمني بين الاستطلاع ويوم الانتخابات، زادت درجة عدم اليقين في التنبؤ بالنتيجة النهائية.
ومن التحديات الكبيرة الأخرى هي انخفاض معدلات الاستجابة لاستطلاعات الرأي.
في الماضي، كانت نسبة كبيرة من الناس مستعدة للمشاركة في الاستطلاعات، ولكن اليوم، قد تصل معدلات الاستجابة في بعض الاستطلاعات إلى 3% أو 4% فقط، وهذا يعني أن الباحثين يضطرون إلى استخدام افتراضات إضافية لتعديل النتائج وتعويض الفئات التي لم تستجب، ما يزيد من هامش الخطأ.
وتتطلب هذه التحديات من الباحثين اعتماد حلول إحصائية معقدة، لكن هذه الحلول غالباً ما تتطلب افتراضات إضافية.
وتختلف هذه الافتراضات بين المحللين، وتظهر نتائج استطلاعات مختلفة بناء على تلك الافتراضات، وهذه الفروق تؤثر بشكل كبير على النتائج النهائية التي قد تتوقعها الاستطلاعات، ما يحول دون عملية تنبؤ دقيقة.