بات هناك إجماع في روسيا بوجود تحد حقيقي في توفير الأيادي العاملة التي تراوحت نسبة الشركات المتضررة من نقصها بين 86% و91% خلال العام الحالي.
وشعر سوق العمل الروسي بشكل ملحوظ بمشكلة نقص اليد العاملة في البلاد خلال السنوات الأخيرة، لكن الأمر تفاقم بعد اندلاع الصراع الأوكراني، فانخفضت القوة العاملة في روسيا، خاصة خلال العامين الماضيين، بنحو مليون شخص، ليصل تعدادها في الوقت الراهن إلى 76.3 مليون شخص.
وتراجع تعداد المجموعات الأكثر طلباً في سوق العمل المحلي بشكل ملحوظ، خاصة الفئة العمرية بين 19 إلى 40 عاماً، والذين انخفض عددهم بمقدار مليونين خلال السنوات الأربع الماضية، بحسب أحدث الإحصاءات التي قدمتها منصة HeadHunter الرائدة للتوظيف عبر الإنترنت في روسيا ورابطة الدول المستقلة، والتي تركز على ربط الباحثين عن عمل بأصحاب العمل.
وتتنوع الأسباب الرئيسية لتأزم سوق الكوادر الروسية بين أزمة ديمغرافية طويلة الأمد، إلى ضعف العملة الروسية "الروبل" جراء القيود الغربية، مروراً بتطوير الصناعات الدفاعية جراء تواصل الحرب الأوكرانية وتوسع حلف الشمال الأطلسي (الناتو) قرب حدودها، وليس أخيراً إعادة تموضع المتخصصين الشباب المؤهلين.
قطاعات متضررة
وتفتقر مجالات كثيرة إلى موظفين مؤهلين، وبحسب دراسات محلية وصل هذا النقص في النصف الأول من عام 2024 إلى ذروة تاريخية.
على سبيل المثال، هناك نقص في المتخصصين بقطاع تكنولوجيا المعلومات في روسيا يقدر بنصف مليون شخص تقريباً (45% من إجمالي عدد الموظفين).
وقطاع الطب هو الآخر بحاجة إلى 63 ألف طبيب ومسعف وممرض. كما تعاني وزارة الداخلية الروسية كذلك من هذا الأمر، خاصة في الوضع الأمني الحالي، لتسجل نقصاً بنحو 152 ألف شخص.
وهذا إلى جانب قطاع البناء الذي احتوى عدداً كبيراً من الأيادي العاملة الأجنبية، أغلبها من آسيا الوسطى، بدأ يتزعزع خلال جائحة كورونا، وبعدها تفجيرات "كروكوس" الإرهابية في مارس بموسكو، ما أدى إلى تغيير في سياسة الهجرة التي تفصلها الحكومة.
وعددت خبيرة الموارد البشرية زوليا لويكوفا لـ"الشرق" القطاعات المتضررة، مشيرة إلى التغيرات والتحديثات التي تطال بعض مجالات العمل.
وقالت في هذا الصدد إنه يمكن "رصد نقص الكوادر في عدد من المجالات الرئيسية بالبلاد، من بينها قطاع تكنولوجيا المعلومات الذي يفتقر إلى كفاءات عالية بعدة اتجاهات مثل المطورين، الأمن السيبراني، تطوير البرمجيات، تحليل البيانات".
وأضافت: "هناك نقص كوادر كذلك في قطاع الطب بكافة توجهاته، خاصة في المناطق الريفية، وقطاع البناء الذي سجل نهاية العام 2023 نقصاً بقرابة 50 ألف عامل، يرتبط بارتفاع أعمار الموظفين وقلة الأيادي العاملة الجديدة، فضلاً عن السياحة والخدمات والزراعة والتعليم.. كما أن هناك مجالات لم تعد مطلوبة، وهناك قطاعات أخرى تتطور تكنولوجياً وتخلق مهناً جديدة بالكامل".
ويعتمد نقص الموظفين على المناطق والصناعات المتوفرة فيها، حيث لكل مجال خصائصه الخاصة، فعلى سبيل المثال، بعد إعادة التوجه نحو الشرق اقتصادياً، تغيرت سلاسل التوريد. ولهذا السبب، تواجه مناطق أقصى شرق روسيا، مثل فلاديفوستوك والمدن المجاورة، نقصاً في سائقي الشاحنات والمستودعات وموظفين آخرين.
وتلفت لويكوفا إلى أن مطالب وشروط وعروض الشركات باتت عالية، حيث تبحث إدارة الشركات عن مرشحين بمطالب معينة، وأصحاب كفاءات، خاصة في مجال التكنولوجيا العالية.
وتقول: "يتم التركيز ليس فقط على الجانب التقني، بل على العمل في فريق واحد، وإمكانية التواصل، وهناك نقطة أخرى تكمن في مدة اختيار الموظف، حيث تستخدم الشركات طرق اختيار الموظف على عدة مراحل، بما في ذلك الامتحانات والمقابلات لتقييمه على عدة مراحل، وفي يومنا هذا، أصبحت نقطة القيم الثقافية والتوافق مع الشركة من الظواهر المشتركة لدى الشركات، التي باتت تبحث ليس فقط عن موظفين ذوي كفاءات، في ظل منافسة عالية بسوق العمل، بل باتت تنظر إلى الشخصيات التي تلائم ثقافة الشركة".
الصراع والسلاح
مع استمرارية الأزمة الأوكرانية لأكثر من عامين ونصف العام، وغياب آفاق تسوية له، إلى جانب مواصلة تزويد كييف بالمساعدات العسكرية الغربية بكافة أنواعها وأشكالها، تتطلب القوات المسلحة الروسية ومجمعات الصناعات العسكرية لمزيد من الأيادي العاملة، خاصة أن هذه المصانع تعمل بشكل متواصل ودون توقف من مناوبتين إلى 3، إضافة إلى الأجور المرتفعة التي لا يستطيع القطاع المدني منافستها، لتتجاوز الأجور 200 ألف روبل شهرياً (أو ما يعادل أكثر من 2000 دولار).
ومن جهة أخرى، تواصل الحكومة الروسية تحفيز المواطنين للانخراط في الجيش وزيادة كوادره، ففي منتصف الصيف الماضي، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوماً بموجبه تزيد الدفعة مقابل إبرام عقد للمشاركة فيما تسميه موسكو بـ"العملية العسكرية في أوكرانيا" شرط أن يتم من الأول من أغسطس وحتى نهاية العام الحالي.
وأكد الخبير الاقتصادي الروسي ستانيسلاف ميتراخوفيتش أن المجمعات الصناعية من أكبر المنافسين في سوق العمل، مضيفاً: "روسيا خلال أكثر من عامين زادت الإنتاج الصناعي، ما يتطلب زيادة عدد الموظفين للعمل بعدة مناوبات ودون توقف، وبدأت المصانع بتوظيف عمال في قطاعات أخرى، وبأجور أعلى".
اقتصاد روسيا
بحسب بيان نشره البنك المركزي الروسي، وصل انخفاض عدد الموظفين، من مختلف المؤهلات، في الربع الثاني من العام 2024 إلى الحد الأدنى التاريخي (- 30.8 نقطة)"، حيث أصبحت توقعات الشركات بشأن زيادة عدد الموظفين أقل إيجابية.
وأشار البنك المركزي إلى أن الاستثناء هو شركات التصنيع التي تنتج السلع الاستهلاكية والوسيطة، لافتاً إلى أن البلاد تخسر من 1% إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي جراء هذا النقص.
ويرى خبراء أن نقص الموظفين أمر ليس بالجيد للاقتصاد الروسي، حيث يتباطأ النمو، ويقل عدد الشركات والمؤسسات الجديدة. وعلى خلفية المنافسة في سوق العمل، ترتفع الأجور ويتسارع التضخم.
ولفت ميتراخوفيتش إلى انتشار ظاهرة "زيادة الأجور" في البلاد، مشيراً إلى أن قطاع الإنتاج والصناعة يعرض أجوراً أعلى من أي مجالات أخرى، ويوضح قائلاً: "انتشرت مؤخراً ظاهرة زيادة الأجور، وهي أمر إيجابي كون أن المواطن يزيد أمواله، لكنها من جهة أخرى أضرت بالشركات التي ليس بوسعها دفع أجور عالية، مثل الأعمال الصغيرة، فلم تنجح في المنافسة، وبدأ موظفوها يغادرون إلى شركات تدفع أكثر".
جذب المراهقين للتوظيف
على مدار الأشهر الستة الأولى من العام 2024، أرسلت شركات عديدة أكثر من 3 ملايين دعوة عمل لشباب تتراوح أعمارهم بين 14 و18 عاماً، وهي نسبة تزيد بمقدار الثلث عما كانت عليه في العام 2023.
والسبب الرئيسي هو نقص الموظفين، وفي أغلب الأحيان، يعمل تلاميذ المدارس بمجال الموظفين الإداريين كمساعدين.
وبحسب دراسات HeadHunter، قام أكثر من 700 ألف تلميذ تتراوح أعمارهم بين 14 و18 عاماً بنشر أو تحديث سيرتهم الذاتية، وهذا يزيد بنسبة 15% عن نفس الفترة من عام 2023.
العمال الأجانب
في الآونة الأخيرة كان ارتفاع مستوى البطالة، والذي يسجل اليوم بحسب رئيس وزراء روسيا ميخائيل ميشوستين أدنى مستوياته التاريخية بـ2.4%، كأحد القضايا الإشكالية الرئيسية، أما اليوم فتوتر سوق العمل والنقص الحاد في عناصره بات في الصدارة، ليعلن في 29 فبراير عن إطلاق مشروع وطني جديد "شؤون الموظفين".
فالقيادة الروسية لا تخفي وجود مشاكل في سوق العمل، وتتحدث عن ذلك علناً لتقر بأنها ستواجهها لسنوات عديدة مقبلة.
وأوضحت خبيرة الموارد البشرية، في حديث لـ"الشرق"، أن تجديد الموارد البشرية لا يجري سريعاً في روسيا، وقالت لويكوفا: "الحكومة الروسية تدخل مبادرات لتسوية الأزمة الديمغرافية في البلاد، لكن رغم محاولات رفع مستوى الولادة والمزايا والبرامج الأخرى ذات صلة سنشعر بنتيجة هذا العمل بعد مرور 20 أو حتى 25 عاماً على الأقل".
وتضيف: "لا توجد لدينا وسائل أخرى في الوقت الراهن لمحاربة نقص الكوادر، وعلينا إيجاد ما يتراوح بين مليونين و3 ملايين شخص لسوق العمل، وخلال السنوات المقبلة قد تكون هناك محاولات جزئية لحل هذه الأزمة، بما في ذلك ربما مواصلة زيادة الأجور في عدد من القطاعات".
ومن بين الخيارات الماثلة أمام موسكو استقطاب أياد عاملة من خارج البلاد، حتى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشار إلى ذلك، لا سيما من ذوي خبرات معينة، شرط أن يكونوا على معرفة باللغة والتقاليد الروسية.
ويؤكد الخبير الاقتصادي الروسي ميتراخوفيتش على حاجة الاقتصاد الروسي إلى عمال أجانب، لكن المسألة الأهم تكمن في ضرورة وجودهم بشكل شرعي في البلاد.
ويقول: "الاقتصاد الروسي بحاجة إلى أيادي عاملة أجنبية، وهذه مسألة حساسة، لكن الأهم من كل هذا أن يكون وجودهم شرعياً في البلاد لتفادي أي مشاكل مع المواطنين الروس والسلطات المحلية".
وأضاف: "لا بد من وضع شروط، والاستفادة من خبرة دول عربية مثل الإمارات، لكي يتواصل العمل على سبيل المثال في قطاع البناء، وألا تكون هناك مشاكل بين المهاجرين والسكان المحليين، وهنا يجري الحديث عن إنشاء نظام قانوني مناسب، لكي يتمكن كذلك البيروقراطيون المحليون من العمل مع المهاجرين".