أميركا.. كيف أشعلت مراكز البيانات غضب سكان مقاطعة برينس ويليام؟

time reading iconدقائق القراءة - 9
لقطة جوية لمركز بيانات US East 1 التابع لشركة أمازون في ولاية فرجينيا. 20 أكتوبر 2025 - Reuters
لقطة جوية لمركز بيانات US East 1 التابع لشركة أمازون في ولاية فرجينيا. 20 أكتوبر 2025 - Reuters
فرجينيا- مريم القزّاح

بين شوارع واشنطن المزدحمة وأرياف فرجينيا الهادئة، تبدو مقاطعة برينس ويليام، لوحة من الخضرة اللامتناهية والمياه الهادئة، يصعب ألا يُعجب بها من يزورها، لكن وسط تلك المشاهد الخلابة ثمّة ما يعكر صفو سكان هذه المنطقة، إذ شهدت الآونة الأخيرة بروز كتل مستودعات بيضاء ضخمة، بلا حياة، تقع على بعد أقدام من المجمعات السكنية، وتصدر منها أصوات ضجيج عالية، إنها مباني مراكز البيانات.

في مطلع نوفمبر الحالي، أدلى الناخبون في مقاطعة برينس ويليام بأصواتهم في الانتخابات المحلية، محققين فوزاً ديمقراطياً نادراً في منصب محلي، هو الأول من نوعه منذ عام 1987.

ويُرجع العديد من المحللين هذا التحوّل إلى الغضب المتزايد لدى أهالي المنطقة من التوسع السريع في بناء ما بات يعرف بمراكز البيانات في جميع أنحاء المقاطعة، ولا سيما بجوار المنازل داخل الأحياء السكنية.

ما هي مراكز البيانات؟

مراكز البيانات هي "مبانٍ ضخمة تضم صفوفاً من خوادم الكمبيوتر، وأنظمة تخزين البيانات، ومعدات الربط الشبكي، إلى جانب أنظمة الطاقة والتبريد التي تدعم تشغيلها".

وعلى مدى عقود، شكّلت هذه المراكز العمود الفقري الأساسي للإنترنت، فمن إرسال البريد الإلكتروني الصباحي إلى التسوّق على أمازون، تمرّ تقريباً كلّ أنشطة الناس الإلكترونية عبر واحدة من هذه المنشآت.

ورغم أهمية هذه المراكز، وما توفره من بنية تحتية لممارسة المهام والأنشطة التي تعتمد على الإنترنت، إلا أن العديد من السكان الذين يعيشون قرب مراكز البيانات اشتكوا من ارتفاع تكاليف الكهرباء، وانخفاض ضغط المياه، والضجيج المتواصل، الذي يتسلل إلى المنازل، ولا يتوقف ليلاً أو نهاراً، ويشبه إلى حد كبير صخب حركة المرور على الخط السريع.

وارتفع الطلب على البنية التحتية اللازمة لتشغيل القدرات الحسابية الضخمة في ضوء الازدهار الكبير الذي شهده مجال الذكاء الاصطناعي، وباتت الشركات حول العالم تتسابق لتأمين موطئ قدم لها في هذه الثورة التكنولوجية، لكن سرعان ما بدأت عواقب هذا التوسع المتنامي تظهر تدريجياً.

ومن المتوقع بحلول عام 2030، أن تتضاعف سعة مراكز البيانات العالمية أكثر من 3 مرات، مع حاجة استثمارية تُقدّر بـ6.7 تريليون دولار، يوجَّه نحو 70% منها لتشغيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

اجتماع مجلس مشرفي برينس ويليام

تُعرف منطقة شمال فرجينيا بأنها عاصمة مراكز البيانات في العالم، إذ تضم 663 مركزاً، أكثر من أي ولاية أخرى في الولايات المتحدة.

وفي 28 أكتوبر الماضي، حضرت "الشرق" اجتماع مجلس مشرفي مقاطعة برينس ويليام (BOCS) في ولاية فرجينيا، والذي تناول جدول أعماله قضية مثيرة للجدل جذبت حشداً كبيراً من السكان بدت عليهم علامات الغضب والإحباط، وتتمثل في مقترح لتعديل الحدود المسموحة للضوضاء في المقاطعة، والتي وُضعت لحماية المواطنين من الأصوات المفرطة والمزعجة الصادرة عن مراكز البيانات القريبة.

وبالفعل، امتلأت القاعة بعدد كبير من السكان، كان العديد منهم يرتدون قمصاناً خضراء تحمل صورة مركز بيانات مشطوب عليه، ولافتات عليها عبارة "لا لمراكز البيانات" بخط كبير.. الجو كان مشحوناً بالتوتر، إذ تعاقب المتحدثون على وصف ليالٍ قضوها من دون نوم، وأضرار لحقت بالممتلكات، ومخاوف مما قد يحدث لاحقاً.

وفي وقت سابق هذا الشهر، صوّتت لجنة التخطيط في المقاطعة بأغلبية 4 أصوات مقابل 3 على رفض طلب السماح باستخدام مركز بيانات على قطعة أرض مساحتها 40 فداناً.

وكان من المفترض، لو حصل على المشروع على الموافقة، أن يبلغ ارتفاع مباني مركز البيانات 80 قدماً كحد أقصى، بينما يقتصر ارتفاع المباني غير المخصصة لمراكز البيانات على 75 قدماً.

وتردد المفوضون في الموافقة على الطلب، نظراً لوقوع قطعة الأرض خارج مناطق تطوير مراكز البيانات المخصصة في برينس ويليام.

الفوائد الاقتصادية لمراكز البيانات

المؤيدون لوجود مراكز البيانات يرون أنها تُسهم على الأقل في تحفيز النمو الاقتصادي داخل المجتمعات المحلية، من خلال خلق فرص العمل، وتشجيع الابتكار، وزيادة الإيرادات الضريبية، وهي من الفوائد التي يُستشهد بها كثيراً، فمركز البيانات الكبير النموذجي يمكن أن يُوفر ما يصل إلى 1500 وظيفة في موقع البناء خلال مرحلة الإنشاء، وحوالي 50 وظيفة دائمة بعد بدء التشغيل.

ورغم أن مراكز البيانات تحولت إلى قضية محورية لسكان شمال فرجينيا، وأصبحت لدى الكثير من الناخبين نقطة تحول حاسمة، إلا أنه بالنسبة للعديد من سكان مقاطعة برينس ويليام، تبدو هذه الفوائد ضئيلة مقارنة بالأضرار الناجمة عنها.

وتعكس قصة فرجينيا توتر عالمي بين وعود الابتكار الرقمي من جهة، وواقع البنية التحتية والتنظيم والتكاليف البيئية التي تفرضها هذه المنشآت على المجتمعات المحلية من جهة أخرى.

بالنسبة لسكان برينس ويليام، تبقى شكوى الضجيج الأكثر شيوعاً بالنسبة لمراكز البيانات القريبة، ومع ذلك، فهي ليست سوى واحدة من جملة مخاوف تتردد أصداؤها في مجتمعات كثيرة عبر الولايات المتحدة، فمع الكميات الهائلة من الكهرباء المطلوبة لتشغيل تلك المراكز، والحجم الضخم من المياه اللازمة لتبريدها، تشهد جورجيا، وكاليفورنيا، وأوهايو، وتكساس، وغيرها من الولايات التي ازداد فيها إنشاء مراكز البيانات، تدهوراً في جودة المياه، وارتفاعاً في تكاليف الكهرباء، وتفاقماً في التلوث البيئي.

وبحسب مركز "بيو" للأبحاث، استهلكت مراكز البيانات الأميركية عام 2024 استهلاك نحو 183 تيراواط في الساعة من الكهرباء، أي أكثر من 4% من إجمالي استهلاك البلاد في 2023. ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم بنسبة 133% بحلول 2030.

كما تستهلك هذه المراكز نحو 449 مليون جالون من المياه يومياً، وهو ما يعادل استهلاك مدينة يزيد عدد سكانها على 50 ألف نسمة، ويُشكل هذا الاستنزاف تهديداً متزايداً لموارد المياه العذبة وجودتها في المدن المجاورة.

وفي مقاطعة نيوتن بولاية جورجيا، حذّرت السلطات المحلية من عجز مائي بحلول عام 2030، بسبب توسع منشآت شركة "META" الخاصة بمراكز البيانات في المنطقة. وفي الوقت نفسه، يقول السكان إنهم بدأوا بالفعل بترشيد استخدام المياه وسط اضطرابات في الإمدادات، وأبلغ بعضهم عن وجود رواسب عالقة في مياه الصنابير.

وفي ولاية أوهايو، ارتفعت فواتير الكهرباء للأسر بمعدل يصل إلى 27 دولاراً شهرياً منذ يونيو 2025، وهي زيادة تُعزى إلى الطلب المتزايد على الطاقة من مراكز البيانات القريبة.

وعلى المستوى الوطني، يقدّر الخبراء أن فواتير الكهرباء الشهرية في الولايات المتحدة سترتفع بنسبة 8 إلى 20%، إلى جانب زيادة بنسبة 30% في انبعاثات الغازات نتيجة الاعتماد المتزايد على الوقود الأحفوري.

ومع استمرار تصاعد الشكاوى، يبقى مستقبل هذه المنشآت الضخمة المستهلكة للطاقة، وسكان المناطق المحيطة بها، غامضاً.

قضية عالمية

في اتصال مع "الشرق"، رأى الزميل غير المقيم في المجلس الأطلسي، ستيفن تيل، أنه في ظل الوفرة من الشركات التي تسعى لبناء مراكز بيانات اليوم "سيكون هناك فائزون وخاسرون".

وأضاف: "لكن في النهاية لن يتبقى مكان لبنائها، على الأقل في أميركا الشمالية.. سنبدأ برؤية نقل هذه المراكز إلى الخارج، حيث تسعى الشركات إلى أماكن تتوفر فيها المياه والبنية التحتية للطاقة والأراضي".

وتُشير ملاحظة تيل إلى أن نمو مراكز البيانات ليس مجرد قضية محلية أو وطنية أميركية، بل قضية عالمية، ففي ظل حاجتها الهائلة للطاقة والمياه، وتأثيرها على جودة الهواء والنظم البيئية، يبرز سؤال جوهري: ما نوع القوانين التي يمكن توفر التوازن بين حماية المجتمعات  ودعم الابتكار والنمو الاقتصادي؟

وفي هذا الشأن، قال تيل: "ننظر اليوم إلى الموافقات على مراكز البيانات على نطاق محلي، لكن الحقيقة أنها مسألة ذات أولوية استراتيجية وطنية.. الفرصة المتاحة أمامنا هي أن نتعامل معها كـمورد وطني، نُحدد أين ينبغي بناؤها، وكيف يمكن ضمان استفادة المجتمع منها، وكيفية إدارة الموارد الطبيعية التي تعتمد عليها".

ومن المرجح في المدى القريب أن تظل فرجينيا العاصمة العالمية لمراكز البيانات، ذلك أن توسع الذكاء الاصطناعي وبنيته التحتية يتقدمان بوتيرة متسارعة في الولايات المتحدة والعالم بأسره، لكن سيتعيّن على الشركات والجهات التنظيمية، في ظل ناقوس الخطر الذي تدقّه المجتمعات والمنظمات التي تُحذّر من مخاطر مراكز البيانات، التفكير بالقوانين التي يجب وضعها لحماية الناس من تداعيات النمو الهائل لهذا القطاع الحيوي.

تصنيفات

قصص قد تهمك