
تحافظ الصين على "مسافة مدروسة" وموقف يعد "متوازناً" من الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ تُلقي باللوم على الغرب بسبب تهديده المزعوم للأمن الروسي وتدين العقوبات الأميركية.
ومن جهة أخرى تؤكد بكين دعمها لأوكرانيا القائم على مبادئ سلامة الدول ذات السيادة وتدعو إلى حل تفاوضي لما تصفه بـ"الأزمة الأوكرانية".
ووفقاً لتقرير أوردته مجلة "فورين بوليسي"، السبت، فإن السبب وراء عدم إدانة أو تأييد الصين الغزو الروسي، يكمن في ما أصبح المبدأ الأول للسياسة الخارجية الصينية، والذي يتمثل في عدم الثقة بالولايات المتحدة، إذ تسعى بكين منذ عقود إلى اكتساب مكانتها التاريخية بوصفها "قوة مهيمنة" في آسيا.
ونظراً لكونهم واقعيين من الناحية الاستراتيجية، دائماً ما يتوقع القادة الصينيون من الولايات المتحدة أن تقاوم لحماية مكانتها الموروثة كقوة مهيمنة في المنطقة وفقاً للمجلة.
"خطى ثابتة"
ولفتت المجلة إلى أن بكين تعتقد أن واشنطن "هاجمت الحزب الشيوعي الصيني لأسباب أيديولوجية واعتبارات تتعلق بحقوق الإنسان، إذ سعت إلى تقويض سيطرة بكين على المناطق المحيطة مثل التبت، وشينجيانج، وهونج كونج.
وأسهمت واشنطن في استمرار انقسام تايوان عن الوطن الأم، وعارضت تأكيد بكين لحقوقها في بحر الصين الجنوبي، وتآمرت مع حلفائها وشركائها في تحالفات مقنعة لكبحها مثل مجموعة الحوار الأمني الرباعي "كواد" التي تضم الولايات المتحدة، والهند، واليابان، وأستراليا، واستخدمت التعريفات الجمركية لإجبارها على فتح اقتصادها وتغيير ما يعتبره الحزب الشيوعي نموذجاً اقتصادياً ناجحاً، بحسب المجلة.
ومع ذلك، لا تزال الصين تسير بخطى ثابتة، وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي تفاقمت بسبب الإغلاقات الناجمة عن انتشار فيروس كورونا في شنغهاي ومدن أخرى، إلا أن الحزب الحاكم لا يزال واثقاً من قدرته على بناء "دولة اشتراكية حديثة" تتمتع بالرخاء والقوة والديمقراطية والتطور الثقافي والتناغم والجمال بحلول الذكرى المئوية لتأسيس الصين في عام 2049.
ويثق الحزب الحاكم أيضاً في أن الولايات المتحدة عالقة في عملية انهيار لا يُمكن عكس مسارها وستقضي على مكانتها كمنافس خطير في آسيا تدريجياً، إذ تستند هذه الثقة جزئياً إلى النظرية الماركسية التي تقول إن الاقتصاد الرأسمالي، مثل الأميركي، يجب أن يواجه أزمات مالية وصراعات طبقية تهوى به من ذروة الازدهار.
وبحسب المجلة، فإن هذه الثقة تستند جزئياً أيضاً إلى فهم الصينيين للتاريخ الحديث، إذ يبدو أن الأحداث في الولايات المتحدة تتطور وفقاً لتنبؤات النظرية الماركسية.
وتعززت الثقة الصينية بفضل الأزمة المالية التي حدثت في الولايات المتحدة عام 2008، عندما قال نائب الرئيس الصيني، وانج كيشان لوزير الخزانة الأميركي في ذلك الوقت، هنري بولسون: "لقد كنتم أستاذتنا، ولكن أستاذتنا لا يبدون أذكياء للغاية".
وبعد ذلك جاءت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، والانتخابات الرئاسية الشرسة عام 2016، والتي شهدت تخلي المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، عن اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، أحد الأصول الاستراتيجية المناهضة للصين، استجابة لضغوط انتخابية.
وجاء بعد ذلك تحطم العلاقات الأميركية مع حلفائها على يد إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، وإدارته لأزمة جائحة كورونا والهجوم على مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021، وانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، والشلل السياسي وتفاقم الاستقطاب في عهد الرئيس الحالي جو بايدن.
وجاء كل ذلك في وقت اشتكت فيه البحرية الأميركية بالمحيط الهادئ من عدم وجود سفن كافية لردع الصين وتراجع الحصة الأميركية في الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 30% عام 2000 إلى 24% في 2019.
دور الغزو الروسي
ورجّحت المجلة أن يكون الغزو الروسي لأوكرانيا أسهم في هذا التراجع من خلال كشف تردد الولايات المتحدة وضعف حلفائها، مُوضحة أن الغزو "أوجد توافقاً نادراً في السياسة الأميركية الداخلية، وعزز نظام التحالف الأميركي ورؤية واشنطن للعلاقات مع روسيا والصين كصراع وجودي".
وأضافت أن الغزو منح الولايات المتحدة "مبرراً" لزيادة الضغط على الصين، والمطالبة بزيادة التعاون مع حلفائها الآسيويين، والضغط على الهند لتقليص العلاقات الاقتصادية مع روسيا، والأسوأ من كل ذلك، تعزيز التزامها بالدفاع عن تايوان.
وترى المجلة أن الأولوية الاستراتيجية للصين في هذا السياق تتمثل في تجنب فعل أي شيء من شأنه إعاقة التراجع الأميركي، إذ تشعر بكين باستياء شديد إزاء الموقف الاعتباري للولايات المتحدة المتمثل في ادعاء الدفاع عما هو صواب وقانوني، وتعريف بكين بما هو في مصلحتها، وكيف ستُعاقب في حال عدم الامتثال به.
وترى بكين أن المواقف الاعتبارية هي الطريقة التي تستخدمها الولايات المتحدة دائماً لإضفاء الشرعية على هيمنتها السياسية وتدخلاتها العسكرية.
فصل الصين
وأشارت المجلة إلى رغبة الولايات المتحدة في تحقيق مكاسب إضافية من حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن طريق فصل الصين عن روسيا، لكنها أكدت أنها "لن تقع في هذا الفخ"، وستسعى للحفاظ على ما تبقى من شريكها الأساسي، بخلاف كوريا الشمالية، لردع ما سمته الغطرسة الأميركية.
وأوضحت المجلة أن العلاقة التي تربط الصين بروسيا تقوم على العداء للولايات المتحدة، إذ أن موسكو ليس لديها مصلحة في القضايا الأمنية الرئيسية لبكين في تايوان وبحر الصين الجنوبي، وأن الصين ليس لديها مصلحة في القضية الأمنية الرئيسية لروسيا المتمثلة في التجاوز الغربي في أوروبا الشرقية.
وعلى الرغم من تسوية الخلافات الحدودية بين البلدين عام 2008، إلا أن الصين لم تنس ما تعتبره عدواناً روسياً تاريخياً، بينما تشعر روسيا بقلق مزمن بشأن تدفق العمال الصينيين إلى الشرق الأقصى الروسي.
وشددت المجلة على أن الصين "ليست على وشك خسارة شريكها الاستراتيجي الرئيسي، ولكنها أيضاً لا تريد أن يجرها بوتين إلى مواجهة مبكرة مع الغرب"، إذ توضح هذه الحسابات المعقدة السبب وراء اتخاذ الصين موقفاً متوازناً في الحرب الروسية الأوكرانية. ويبدو أن صناع السياسة في واشنطن يدركون هذه الاستراتيجية الحذرة ومستعدون لقبولها.